الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّعاون والتّعاضد
(1)
هل يستوى رجل لا يفتأ ينظر بعين التفكر والاعتبار في نظام هذه الموجودات، ويجيل أقداح البحث عن دقائق الحكم السارية فيها سريان الماء في الغصن الرطيب، وآخر نسجت على بصيرته عناكب الذهول والبلاهة، فلا ينظر إلى الإبل كيف خلقت، ولا إلى السماء كيف رفعت، ولا إلى الجبال كيف نصبت، ولا إلى الأرض كيف سطحت؟ حاشا لله. ما بين الذين يعلمون كيف وضع هذا العالم، ويدرون معنى حياة جنسهم الذي استعمره الله فيه، والذين لا يعلمون إلا ظاهراً من صوره المحسوسة، ولا يفقهون إلا اختلافها في الألوان وتفاوتها في الأشكال والمقادير، مثل ما بين الحضيض الأسفل والسموات العلى.
إن من تدرجوا في استقراء أحوال الكون شيئاً فشيئاً إلى أن وقفوا وراء غاية المرتبة الحيوانية، لأوسع براعة في التدبير المتقن لتسوية الطرق التي تتقوَّم بها ماهية الحياة الصالحة، وأطول يداً في تأسيس الدعائم التي يشيِّدون عليها صروح العزة والأبهة. إرسال نظراتك الصادقة في طبقة الحيوان على أكمل وجه وإحاطتك بأطرافها خبراً، يقيم لك على معنى قولهم "الإنسان
(1) العدد الخامس عشر - الصادر في غرة شعبان الأكرم 1322.
مدني بالطبع" برهاناً جلياً، ويشرحه لك شرحاً جيداً.
نجد كل واحد، ما عدا الإنسان، من الحيوان مكتفياً بنفسه غير مفتقر في حياته إلى معونة غيره، خلقه الله مكتسياً بما يوافقه من صوف أو شعر أو وبر أو ريش أو ما أشبه ذلك، وأعطاه سلاحاً يدافع به عن نفسه، كالقرون للبقر والغنم، والحافر للفرس والحمار، والمخالب للسباع، والشوك للقنفذ، وبعض جعل له آلة العدو كالأرانب والظبي، وأودع فيه إلهاماً يتناول به ما يلائم طبيعته من الأغذية، ويهتدي به لاتخاذ كنٍّ يسكن إليه.
أما البشر فإنه خُلق على خلاف خلقة الحيوان عارياً أعزل من السلاح الذي يكون مظهراً لإباء الضيم وشدة البأس، غير مهتد لشيء من مصالحه إلا بالتربية والتعليم، فاحتاج في بقائه إلى لباس يتقي به سورة الحر والبرد، ومسكن يأوي إليه ويأنس به، وآلات يذود بها عن حرمه ويحمي بها حماه، وغذاء يدفع به ألم المخمصة، وتعلمُّ ما ينفعه ليسارع إليه ومعرفة ما يضره لينصرف عنه.
وأنت خبير بأن هذه الضرورات والحاجات، ولا سيما إذا انضم إليها ما هو من محسناتها، لا يستطيع الشخص الواحد تحصيلها بنفسه، وإن تعاظم قدره وقوي ساعده، بل لا يحمل أثقالها إلا إذا أعانه عليها قوم آخرون، فمن التمسك بقوانين العدل والإنصاف، أن تمدَّ يد المعونة لأبناء جنسك كما تطلبها منهم، وإلا نفّضوا أيديهم من مؤازرتك عند الحاجة إليهم، ويلوح إلى هذا النكتة، صيغة المفاعلة في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقوله:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] ، ولا يخفى على من له أدنى شعور أن المصالح العامة وسائر الأمور العظام،
لا يخفف وطأتها ويزيح من مشاقها إلا المعونات الكثيرة، ومما يومئ إلى أن للاجتماع مزية وقوة هي مفقودة في حال العزلة والانفراد قوله تعالى:{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] وقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35]، وقوله:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
التعاون شرعاً يتمخض القصد منه في استجلاب المنفعة وإزالة الضرر اللاحق، ولو لفرد واحد من أفراد الجامعة، رعاية للأخوة الدينية، واحتراماً للعهد الذي أخذه عنه الشارع {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] وكثير من الناس وما هم من الناس، لا تدور مقاصدهم إلا وراء منفعتهم الخاصة، فلا يتحركون إلا لمعاضدة تجر لهم نفعاً عاجلاً، فإذا استُنجدوا لقضية لا يضربون فيها بسهم ولا يستثمرون منها فائدة تخصهم، قالوا: في آذاننا وقر، بل ختم الله على قلوبهم بغشاوة الطمع ودناءة القصد وهم يعلمون، ويلتحق بهذا القبيل بعض من ضربت في نفسه الدنايا، فيقنع بمنزل يؤوي جثته، وإن أُعدِّ له في بحبوحة الخزي والهوان، وميسور من العيش يسد رمقه، وإن كان ذراع خنزير ميت تدفعه إليه يد مجذوم، وجنة تستر عورته وإن كانت أكثر دنساً من عرض لئيم فاجر، حتى إذا ظفر بما يبتغيه من هذه الشهوات الحيوانية، هاجت في صدوره الطمأنينة والسراء، وبات ريان الجفون من الكرى، ولا يعطف عنقه إحساس ديني إلى النظر، ولو بمؤخر عينه، فيما يعوز الأمة التي هو منها بمنزلة الأنملة من الراحة.
إنما رجل الدنيا وواحدها من يكون خضوعه لسيطرة الدين سجية، وعنايته بما يرفع من راية قومه جبلَّة، فلا يرى محزاً في مفاصلهم إلا واصله،
ولا يستصرخون به في مهمة إلا أجاب دعوتهم بجميع ما يملكه من الاستطاعة، يتلمح مثل هذا الرجل العظيم مبدأً من أصول الإصلاحات الكلية، فتلتهب في جأشه الغيرة، وتهب على عواطفه أرواح الفتوة، فلا يتمالك أن يستثير بأقواله السديدة همم أولي العزم من الرجال إلى وضع قاعدته على أساس متين، كراهة أن ينقصهم شيء من المواد الحيوية، فيبلغ صدى استغاثته غالباً إلى ثلاث طوائف:
أحدها: فتية شبوا في أحضان التربية والتعليم، وأخذوا من النبهاهة ورقة الوجدان بنصيب، فيستقبلون كل ما يلقى على كواهلهم من إرشادات الناصح الأمين بمهج ثابتة وعزم صادق لا وَنْيَة فيه، وهؤلاء هم أعضاء الأمة الذين يتركب منهم جسمها الصحيح، وهم الوقاية الضافية التي يستعاذ بها من شر الحوادث الخطيرة.
ثانيها: طائفة ضربت بها الغباوة في غمرات الجمود، فكانت دائرة نظراتها أضيق عليها من سَمِّ الخياط، فإذا عرض عليها ما تفترعه الأذهان المتسعة من الأفكار الجليلة، لم يجد للجولان فيها مساغاً، فتضرب عنه دفعة وتلفظه جملة، ويُقبل عليها الباطل في ثياب الحق، فتُفرِغ له زاوية من القبول، ولا مصدر لما يسميه أهل الدين بدعة إلا هؤلاء الساقطون.
ثالثها: ناشئة لها قابلية للدخول في مضمار السعادة، ولكنهم لم يلقوا أعنة نفوسهم بأيدي عقولهم، بل أرسلوها على غواربها، فهامت بهم في أودية شاسعة لا يسمعون فيها تذكرة الواعظين، ولو سمعوا ما استجابوا لهم.
وكل من الفئة الثانية والثالثة عقبة يعسر على مدارك الحكماء تقويم
حدبتها وإماطة أذاها عن الطريق، ولا يعلق بهما رجاء في سد منافذ البلاء عن الأمة، أو رفع شيء من سقوطها، وعلى كل حال فلا يترك تقريعهم بزواجر الموعظة واستدراجهم إلى الوحدة والمعاضدة {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].