الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإبداع في فنون الكلام
(1)
الإبداع في فنون الكلام له أغراض وقد استهل بها وجه السعادة الثانية (2)، ومهيئات وهي ما تناجيك به هذه الصحيفة، يقول الباحثون عن دقائق هذه الصناعة، المهيئات طيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدولة، فقلَّما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة، ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة، ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة المخاطر في أعمال الروحة الثقة بما يرجوه من كرم الدولة.
يعنون بطيب البقعة نزاهتها عما يوحش بتدفق ماء الحسن على مناظرها، يؤكد قولهم هذا أن غالب المتصرفين في صياغة الألفاظ، الغواصين على المعاني المبتدعة هم أهل الحواضر (3)، وما ذلك إلا لتوفر أسباب الانبساط بها، واشتمالها على معان شتى، ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة، وأما فصاحة الأمة فلأن اللغة ملَكَة تحصل للسامع على نحو ما يلقيه إليه السمع، فتكون عبارة المتكلم بالضرورة متابعة في جودتها ورداءتها لما عليه لغة قومه التي رُبِّي بها وليداً، ولبث فيها من عمره سنين،
(1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322.
(2)
إشارة إلى المقال السابق "تقسيم الكلام بحسب أغراضه".
(3)
نعني بأهل الحواضر من لهم خبرة بشؤونها سواء نشؤوا فيها أو وردوا عليها.
ولتوغل "قريش" في البلاد العربية وبعدهم عن أهل اللغات الأجنبية، كانت لغتهم أفصح لغات العرب، ثم من اكتنفهم من "ثقيف، وهذيل، وخزامة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم"، وأما من بعد عنهم "كربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة"، فلم تكن لغتهم تامة الملكة، وعلى نسبة بعدهم من قريش وقع الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.
ويعنون بكرم الدولة إقبال عظمائها على من آنسوا منه رشداً وبراعة في فن من الفنون لترقيته لما هو به جدير، وبذلك ينشط غيره من عقال التماوت، ويثب على بضاعة تجارتها نافقة، والسعي وراء أعمال نتيجتها محققة، ويدلنا لهذا ما يحكيه المؤرخون عن الملك المعظَّم المتوفى سنة 624 هـ من أنه شرط لكل من حفظ "مفصَّل الزمخشري" مائة دينار وخلعة، فحفظه خلق كثير لهذا السبب، ومن لطائف هذا الملك أن "شرف الدين بن عنين" حصل له توعك، وكان بينهما مؤانسة، فكتب إليه:
انظر إليَّ بعين مولى لم يزل
…
يولي الندا وتلاف قبل تلافِ
أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه
…
فاغنم دعائي والثناء الوافي
فجاء إليه بنفسه يعوده ومعه جائزة، وقال له:"هذه الصلة وأنا العائد"، قال القاضي "ابن خلكان":"وهذه لو وقعت لأكابر النحاة ومن هو في ممارسة النحو طول عمره لاستعظمت منه".
ومن تتبع تواريخ الفحول الذين اشتهروا في هذه الصناعة الأدبية أو غيرها من الفنون، وجد الغالب منهم مرموقاً من قبل الدولة بعناية تقوي العزائم، وتبعث في الهمم العالية روح النشاط.