المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترجمة القاضي أبا الوليد الباجي الأندلسي - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(24)«السَّعَادَةُ العُظمَى»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌التّقاريض

- ‌المباحِث العلميّة

- ‌الاعتصامُ بالشّريعة

- ‌الأخذ بالقول الرّاجح

- ‌براءة القرآن مِنَ الشِّعِر

- ‌العمل والبطالة

- ‌حياة الأمّة

- ‌التّربية

- ‌التّقدم بالكتابة

- ‌مدنيّة الإسْلام والعلوم العصريّة

- ‌مدنيّة الإسلام والخطابة

- ‌كبر الهِمَّة

- ‌التّعاون والتّعاضد

- ‌الدّيانة والحريّة المطلقة

- ‌البدْعة

- ‌الزّمان والتّربية

- ‌الصّيام

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌المباحث الأدبيّة

- ‌تقسيم الكلام بحسب أغراضه

- ‌الإبداع في فنون الكلام

- ‌الفصيح من الكلام

- ‌طرُق التّرقي في الكتابة

- ‌الشّعر العصْرىّ

- ‌الكلامُ الجامع

- ‌الأخلاق

- ‌الحياء

- ‌أبو بكر بن العرَبيّ

- ‌ترجمة القاضي أبا الوليد الباجيّ الأندلسيّ

- ‌منذر بن سعيد

- ‌تحقيق مسْألة تاريخيّةٍ

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌عقد نكاح بين ذميين بشهادة مسلمين

- ‌كتابة القرآن بلفظه العربي بالأحرف الفرنسية

- ‌أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان

- ‌هل صوت المرأة عورة

- ‌جواز الاقتباس من القرآن في المقالات

- ‌قصة رتن الهندي

- ‌تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه

- ‌الطب النبوي

- ‌تلقين الميت لا إله إلا الله

- ‌الاستخارة بالقرآن

- ‌فتوى ابن العربي

- ‌وصول ثواب الذكر للميت

- ‌الخطبة الثانية في الجمعة

- ‌دخول ولد الزنى للجنة

- ‌كيف التخلص من البدع

- ‌الرؤيا والحكم الشرعي

- ‌جوائز التفوق في المسائل العلمية

- ‌إجزاء إخراج القيمة من الزكاة

- ‌حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر

- ‌الصوم بخبر السلك البرقي

- ‌المستدرك من "السعادة العظمى

- ‌ استدراك

- ‌ التمدن

- ‌ وفاء ذمة

- ‌ تعليق

- ‌ وفاة عالم جليل

- ‌ إحياء سنّة

الفصل: ‌ترجمة القاضي أبا الوليد الباجي الأندلسي

‌ترجمة القاضي أبا الوليد الباجيّ الأندلسيّ

(1)

سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، أصله من "بطليوس"، ثم انتقل جدّه إلى "باجة"(2) وإليها نسب أبو الوليد، ثم سكنوا بعد "قرطبة"، ولد في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة، وكان على عهد دولة "المعتضد عبّاد" ملك "إشبيلية" ووالد "المعتمد بن عباد"، وله فيه من شعره قوله:

عبّاد استعبد البرايا

بأنعُمٍ تبلغ النعائم

مديحه ضمن كل قلبٍ

حتى تغنت به الحمائم

(1) العدد الثامن عشر - الصادر في 16 رمضان المعظم 1322.

(2)

باجة هذه إحدى كور الأندلس العربية، كانت في التقسيم القديم متابعة لمملكة إشبيلية زمان تشعب الطوائف أيام دولة بني عبَّاد ملوك إشبيلية "وتسمى حمصاً لنزول جيش حمص ولوائِهم بها عند وفود الأموية" وبباجة كان مولد المعتمد بن عباد أحد ملوك إشبيلية الشهير في التاريخ وكتب الأدب الأندلسي.

أما اليوم فقد انفصلت عن إشبيلية، وأصبحت في نصيب مملكة البرتغال من تركة العرب، وهي إحدى المدن الكبرى من ولاية "النتيجو -أو- اليمتيجو" البرتغالية. وربما وقعت تسميتها في بعض الخرائِط العربية الجديدة "بيجا" وهو خطأ منشؤه نقلها عن بعض الخرائط الفرنسية وما كلها سمَّتها كذلك.

ص: 148

وتوفي "بالمرية" سنة أربع وسبعين وأربعمائة لسبع عشرة خلت من رجب.

* نشأته العلمية:

أخذ العلم بالأندلس عن "ابن الرحوي"، و"أبي محمد مكي"، والقاضي

"يونس بن مغيث" الموثِّق الشهير، ثم بدا له أن يرحل إلى طلب العلم ليجمع

بين الطريقة المشرقية فيمزجها بالطريقة الأندلسية، فرحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فحجَّ وأخذ بالحجاز عن الحافظ "الإِمام أبي ذر الهروي" الذي ترجع إلى روايته أكثر نسخ "صحيح البخاري" بالمغرب بواسطة "أبي الوليد الباجي"، لازمه ثلاث سنين، ثم وفد على "بغداد" فدرس بها الفقه والحديث عن جلَّة من العلماء، منهم "أبو إسحاق الشيرازي"، والقاضي "أبو الطيب الطبري"، و"الصيرفي"، و"ابن عمورس"، ومكث بها ثلاث سنين، ثم وقد على "الموصل" فأقام بها سنة في صحبة "أبي جعفر السمناني" يأخذ عنه علم الكلام، ولقي الحافظ "أبا بكر الخطيب البغدادي" فروى كل واحد منهما عن الآخر، فمكث في رحلته كلها نحواً من ثلاثة عشر عاماً.

وكان في سني رحلته ضيق الحال، حتى كان قد قصد بشعره، وحتى استأجر نفسه في بغداد لحراسة درب، فكان يستعين بمقدار أجرته على نفقته ومطالعته، ثم قفل راجعاً إلى الأندلس سنة 439 هـ، فدخلها على ضنك حاله، فكان يخلط أوقات تدريسه ومطالعته بضرب ورق الذهب، حتى اشتهر من خبره أنه كان يخرج إلى درسه إذا جاء التلامذة للقراءة وفي يديه أثر المطرقة وصدأ العمل.

دام على ذلك إلى أن اشتهرت تآليفه وفشا علمه، فعُرف حقه وعَظُم

ص: 149

جاهه، وقرَّبه الملوك حتى مات عن مال كثير. أخذ عنه الإِمام "أبو بكر الطرطوشي"، والقاضي "ابن شيرين"، و"أبو الصدفي الحافظ"، والقاضي "أبو القاسم المعافري"، وروى عنه حافظاً المغرب والمشرق "أبو عمر ابن عبد البر"، و"الخطيب أبو بكر ابن ثابت البغدادي".

كان أبو الوليد رحمه الله فقيهاً، نظاراً، محققاً راوية محدِّثاً، يفهم صفة الحديث ورجاله، متكلماً أصولياً، فصيحاً، حسن التأليف، ألَّف كتباً مهمة أكبرها في الفقه ومعاني الحديث كتاب "المنتقى شرح الموطأ"، وهو موجود غالبه، طالعنا منه جزأين ضخمين يقربان من نصفه أو أكثر، قيل كان ابتداء تأليفه كتاب سمّاه "الاستيفاء على الموطأ" بلغ فيه الغاية من التطويل، لكنه لم يأت فيه بغير شرح الطهارة في مجلدات، واختصر من المنتقى كتاباً سمّاه "الإيماء"، وكتاب "السراج في مسائل الخلاف" لم يتم، وكتاب "المقتبس في علم مالك بن أنس" لم يتم، وكتاب "المهذب" اختصار المدونة، "وشرح المدونة" لم يتم، وكتاب "اختلافات الموطأ"، وكتاب "التعديل والتجريح لمن خرَّج عنه البخاري في الصحيح"، وله في الكلام كتاب "التسديد لمعرفة طريق التوحيد"، وفي الأصول كتاب "أحكام الأصول"، وكتاب "الإشارة في الأصول" موجود وهو مؤلف في جزء صغير يشتمل على علم كثير، و"تفسير القرآن" لم يتم، وكتاب "الانتصار لأعراض الأئمة الأخيار"، ورسائل، ورسالة في الجدل توجد ببعض مجاميع خزائن الجامع الأعظم.

كان له مع ذلك شعر مطبوع حسن، لكنه لم يبلغ به صناعة الشعر، وهاك نموذجاً منه في مقام تنقدح فيه القرائح الشعرية، وتبرز المكنونات النفسية،

ص: 150

قوله في رثاء ابنه وأخيه وماتا مغتربين عنه (1):

رعى اللهُ قبرين استكانا ببلدةٍ

هما أسكناها في السوادِ من القلب

لئن غُيّبا عن ناظري وتبوّءا

فؤادي لقد زاد التباعدُ في القرب

يقرُّ بعيني أن أزورَ ثراهما

وألزق مكنون الترائبِ بالتُّرب

وأبكي وأبكي ساكِنَيها لعلَّني

سأنجدُ من صحبٍ وأسعدُ من سُحب

فما ساعدت ورقُ الحمام أخا أساً

ولا روَّجت ريحُ الصبا عن أخي كرب

ولا استعذبت عيناي بعدَهما كرى

ولا ظمأت نفسي إلى البارد العذبِ

أحنُّ ويثني اليأسُ نفسي عن الأسى

كما اضطر محمولٌ على المركب الصعب

فما زاد رحمه الله في شعره على الطبع اللفظي والمحسنات، وما أودع فيه من معنى الخطب إلا معاني مطروقة معلومة لا تستحق أن توصف بوصف الشعر، وكذلك رثى ابنه في قصيدة أخرى بمعان وإن كانت أقل شهرة من هذا إلا أنها سبق بها جمع كثير من الشعراء، وهي بعد على طرف الثمام، فلا يفيدنا سردها حكماً جديداً على شعر أبي الوليد.

* نهضته بالنظر في فقهاء الأندلس:

قلنا: إن أبا الوليد الباجي قد بعثته نفسه على الرحلة للمشرق في طلب العلم، وتلك علامة على كبر نفسه وطلبها للمعالي، فاستفاد من الثلاثة عشر عاماً التي قضاها علماً زاخراً من أئمة العصر يومئذ، وجمع بين

(1) وَهمَ من ظن أن القصيدة في رثاء ابنيه، لأنه إنما فقد أحد ابنيه في حياته وهو أبو الحسن محمد وكان ذكياً نبيلاً مرجواً لمرتبة علمية، أما ثاني ابنيه فهو أبو القاسم بلغ من العلم مبلغ خلف أبيه في مجلسه ودرسه.

ص: 151

الطريقتين، ورجع مزجاً من إقليمين.

وقد كان فقهاء الأندلس يومئذ يقتصرون من الفقه على تخريج مسائل المدونة شرحاً واستنباطاً، ويضمون إلى ذلك ما ينزل بهم من الأقضية المحدثة تحت اسم "العمل"، فجاءت عدة أعمال، "عمل قرطبة""عمل طيطلة"

إلخ، إلا أن ذلك كله كان في فصاحة عبارة وحسن تبويب كما تشهد بذلك كتبهم التي ترى لنا اليوم، ولم يكن فيها من النظارين يومئذ إلا "أبا محمد ابن حزم" الإِمام الشهير، لكنه كان منبوذاً بينهم بمتابعته مذهب "داوود الظاهري"، على أنه كان ينال من الفقهاء وطريقتهم بالشتم والتحقير ما أضاق نفوسهم منه، ولم يجدوا من سعة العلم والعرفان بالسنّة والعلوم الكلامية من يقدر على مناظرته أو إقناعه في الأقل، فكانوا متشوقين لمن يقوم بذلك، فلما قدم أبو الوليد، قام بمناظرة ابن حزم وبيَّن له مسائل كان يخلط فيها، حتى اضطره إلى مفارقة البلد الذي هو فيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يجري بينهما شيء زائد على المناظرة من نحو سباب الجهال وتنابز الطغام، حتى لقد كان كل منهما يعترف لصاحبه بقوة العلم والنظر، قال عياض:"بلغني أن أبا محمد ابن حزم على بعد ما بينهما كان يقول: لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد".

قال الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: "أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبتَه وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى سعة ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال له ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته،

ص: 152

فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة"، فأفحمه.

وأدخل للأندلس طريقة النظر في الفقه، فكان ينزع منازع الاجتهاد على طريق النظّار من البغداديين وحذّاق أئمة القرويين والقيام بالمعنى والتأويل، قال عياض:"وكانت كتبه مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه". قال القاضي أبو بكر بن العربي: "ولولا أن طائفة نفرت إلى ديار العلم، وجاءت منه بلباب كالباجي والأصيلي فرشت على هذه القلوب الميتة، وعطرت أنفاس الأمة الزفرة، لكان الدين قد ذهب".

كانت الفلسفة اليونانية يومئذ قد مدَّت أطنابها على الأندلس، وروَّجت كثيراً من العقائد المقارنة لها في كتب أصحابها، في قلوب كثير من ضعفاء الذين مازجوها حتى أفضت ببعضهم إلى الإلحاد في الدين، ولم يجدوا مع ذلك كله من يقوم بتبيان الحق ويفسِّر حقائق الإِسلام وآدابه للذين استهوتهم فلسفة الأخلاق اليونانية والفارسية على ما فيهما من تبديل وقِدَمٍ، ومن خلط العقائد بالفلسفة، فلما جاء أبو الوليد ابتدأ يبين لخاصة المتفلسفين أن الفلسفة شيء والعقيدة شيء، وأن لهم في كتابهم من فضائل الأخلاق ما لو شرحوه ودوَّنوه لفاق غيره، ومن حديثه في ذلك أنه كان يوماً في مُناخ "أحمد بن هود" الملقب "بالمقتدر ملك سرقسطة" ينتظر إذنه، فجالسه ابنه "يوسف" الملقب "بالمؤتمن" الذي ورث بعده ملك سرقسطة سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان قائماً على الفلسفة والعلوم الرياضية وله فيها تآليف مثل "الاستهلال والمناظر"، وجاذبه ذيل الحديث، فقال أبو الوليد للمؤتمن:"هل قرأت زجر النَّفس لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟ "، يُعرِّض له "بكتاب أفلاطون" في الأخلاق الذي يُسمّى "زجر النَّفس"، وعنى ما تضمنت الشريعة في هداية النُّفوس.

ص: 153

بهاته النهضة وما تبعتها، ممن خطَّ على تسطير أبي الوليد الباجي مثل "ابن العربي"، و"ابن رشد الحفيد"، و"ابن السيد"، كملت النهضة العلمية بالأندلس وجمعت طرق العلم والتعليم، ونخلت العلوم المختلطة، دام ذلك الأمر إلى أن خبت نارها بِبرْكة التفرق والتنازع.

نال أبو الوليد وجاهة عند الملوك والرؤساء ما بين "سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية"، فاغتنم وجاهته هذه فرصة، فسعى بين ملوك الطوائف يؤلفهم على وحدة الإِسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود المغرب المرابطين، ليحفظوا الأندلس من السقوط المتوقع، وهم يجلّونه في الظاهر ويستثقلون نزعته في الباطن، ولذلك لم يفلح له سهم فيما أراد حتى مات "بالمرية" في هذا الغرض.

* ماذا لقي أبو الوليد من جزاء على حسن صنيعه؟

كان أن لم تتخلف سنَّة الزمان عن اطرادها، حتى لحقت الباجي على سعة علمه وشهادة الأمة له ونصحه لها وإيقاده بصائرها ومكانه من الوقار، فإنه ما لبث شجى في حلوق حاسديه لم يجدوا فيه مغمزاً أوهنة ينسبونها إليه، ليسقطوا من جنبه في نظر الأمة، ويمحوا من اسمه ما اشتهر، ولم يرقبوا فيه حقاً، فتربصوا به الملجأ الأخير مخالفة المعتاد والإتيان بشيء جديد، ذلك الأمر الذي يسخط صغار العقول من العلماء، فيسعون به لدى العامة يستعينون بغضبها الأعمى على اضطهاد الرجال الكبار، فإن أبا الوليد لما كان بالمنزلة التي عرفتم، وكان علم الحديث كدأبه يتضاءل في الأمة بعد القرون الأولى، لا يجد حاملاً لا ينوء به حمله، فكان درس "حديث صلح الحديبية" من "صحيح البخاري" حين أبي المشركون أن يكتب كاتب رسم الصلح كلمة

ص: 154

رسول الله، وألحوا في استبدالها بابن عبد الله، فحين أبي أن يمحوا هذا الوصف محاه رسول الله وكتب ما طلبوا. فأنكره عليه "ابن الصايغ" وكفَّره بإجازته الكتابة على رسول الله، وهي تكذِّب الأمية الموصوف بها في القرآن، وأكبرها الناس إذ لم يسمعوها من قبل، وكان من حقهم لو كانوا يعلمون، أن يكبروا الحديث لا مقال أبي الوليد، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وأكثر المقالة فيه من لم يفهم غرضه حتى أطلق عليه اللعنة علماؤهم، وضمنوا البراءة منه في أشعارهم، وحتى قام بذلك بعض خطبائهم في الجمع، وحتى قال "عبد الله بن هند" فيه قصيدة استهلها بقوله:

برئتُ ممن شرى دنيا بآخرة

وقال إنَّ رسول الله قد كتبا

قال عياض: "ولم ينكر عليه أولو التحقيق في العلم، وكتب بالمسألة إلى شيوخ صقلية فأثنوا عليه وسوغوا تأويله، وأنكروا على من أنكر عليه، وألَّف في ذلك رسالة بيّن فيها وجوه المسألة، وأنها لا تقدح في المعجزة كما لم تقدح القراءة في ذلك بعد إن لم يكن قارئاً من قبل، بل في هذا معجزة أخرى"، ولولا تعلقه بجانب من الدولة لخشي من هاته العصبية الضالة على حياته، رُوي عنه أنه كان يقول -وقد ذكرت له صحبة السلطان-:"لولا السلطان لنقلني الذر من الظل إلى الشمس". من أجل هذا لم يُولَّ إلا قضاء مواضع من الأندلس تقصر عن قدره، فكان يبعث لذلك خلفاءه.

* ثناء الأفاضل عليه:

مثل أبي الوليد لا تذعن له النفوس حتى يموت، فشهد له "ابن العربي"، و"عياض"، و"ابن بسام"، و"ابن خلكان"، و"ابن بشكوال"، وسُئل عنه "الصدفي الحافظ" فقال: "هو أحد أئمة المسلمين لا يُسأل عن مثله وما رأيت

ص: 155

مثله"، وذكره تلامذته كلهم بأحسن ما يذكر به تلامذة نجباء بارّون شيخاً نوَّر عقولهم في الظلمات مثله، وأبى الله إلا أن يتم نوره ويخلِّد اسمه ولو كره الضالون.

ص: 156