الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منذر بن سعيد
(1)
القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي"، كان واسع العلم، غزير الفضل، قوي الجأش، لا تأخذه في نصرة الحق لومة لائم، ولد سنة خمس وستين ومائتين، وسمع من "عبيد الله بن يحيى" ونظرائه، ثم رحل حاجاً سنة ثمان وثلاثمائة، فالتقى بعدة أعلام من فحول العلماء، واشتهر فضله بالمشرق، وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم "بمكة محمد بن المنذر النيسابوري" أخذ عنه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمَّى "الإشراف"، وروى بمصر كتاب "العين" "للخليل" عن "أبي العباس بن ولاد"، وروى عن "أبي جعفر ابن النحاس"، قال القاضي منذر: أتيت وأبو جعفر ابن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر "قيس المجنون" حيث يقول:
خليليَّ هل بالشام عينٌ حزينةٌ
…
تبكي على نجدٍ لعلّي أعينُها
قد أسلمها الباكون إلا حمامةً
…
مطوقة باتت وباتَ قرينُها
تجاوبها أخرى على خيزرانةٍ
…
يكاد يدنيها من الأرض لينها
فقلت له: "يا جعفر ماذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان؟ " فقال لي: "وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ "، فقلت له:"بانت وبان قرينها"، فسكت وما زال
(1) العدد السابع عشر - المصادر في غرة رمضان المعظم 1322.
يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب "العين" وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته، فلما قطع بي قيل لي:"أين أنت من أبي العباس بن ولاد"، فقصدته، فلقيت رجلاً كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب فأخرجه إليّ، ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أَبي العباس الكتاب إلي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.
ثم عاد منذر وولي قضاء الجماعة "بقرطبة" زمن ولاية "عبد الرحمن الناصر لدين الله". قال "الفتح بن خاقان" في "مطمح الأنفس": "وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور قبض، ومن حق رفع ومن باطل خفض، وكان مهيباً طيباً صارماً، غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم".
واستمر في القضاء إلى أن مات "الناصر لدين الله"، ثم ولي ابنه "الحكم" فاقره وفي خلافته توفي بعد أن استعفى مراراً فما أعفي، فلم يحفظ عليه مدة ولايته قضية جور، ولا عدّت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم، كثير الأدب، متكلماً بالحق، متبيناً بالصدق له، وقال:"وكان القاضي "منذر ابن سعيد" شديد الصلابة في أحكامه والمهابة في أقضيته، وقوة القلب في القيام بالحق في جميع ما يجري على يديه، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه".
وأول سببه في التعلق في "الناصر لدين الله"، ما حكى "المقري" قال: "لما احتفل الناصر لدين الله لدخول رسول ملك الروم بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره، أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة في دولته، وتقدم إلى الأمير
الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه "محمد بن عبد البر الكسيباني" بالتأهب لذلك، واعداد خطبة بليغة يقدم بها بين يدي الخليفة، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى، هاله وبهره هول المقام وأُبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظه، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل "لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي" صاحب "الأمالي والنوادر"، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة، قم فارقع هذا الوهي، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم "، هكذا ذكر "ابن حبّان" وغيره، وكلام "ابن خلدون" يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أولاً والخطب سهل، ثم انقطع القول بالقالي، قال في "المطمح": "إن" أبا علي القالي انقطع، وبهت وما وصل إلا قطع، ووقف ساكتاً متفكراً لا ناسياً ولا متذكراً، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء، قام بذاته بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب، ونادى في ذلك المقام كل مجيب، وقال: "أما بعد، فإن لكل حادثة مقاماً ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إليّ بأسماعكم، وأمنوا عليَّ بأفئدتكم، معاشر الملأ إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت"، ثم استرسل في خطبته، وقد ذكرها الفتح بتمامها، وختمها بإنشاد أبيات يقول في طالعها:
مقالٌ كحد السيف وسْطَ المحافلِ
…
فَرَقْتَ به ما بين حقٍ وباطلِ
بقلب ذكي ترتمي جنباته
…
كبارق رعدٍ عند رقشِ الأناصلِ
فما دحضتْ رجلي ولا زلَّ مقولي
…
ولا طار عقلي يوم تلك البلابل
إلخ". ثم قال: "فخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه وثبات جنانه وبلاغة لسانه، وكان الناصر لدين الله أشدَّ تعجباً منه، وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفة عينه وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضعْ يدل يا حكم عليه واستخلصه وذكّرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه". وذكر "ابن سعيد" في "المغرِب" أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه:"لقد أحسن ما شاء، فلئن كان حَبَّر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فتيلاً في الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب".
ثم قال: "وكان الخليفة الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وتكثير مياهها، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه وعزّة سلطانه وعلو همته، فأمضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة "الزهراء" الشائع ذكره الذائع خُبره المنتشر في الأرض خبره، واستفرغ وسعه في تنجيدها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، فانهمك في ذلك حتى عطَّل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد رحمه الله في أن يعظه ويُقرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة والتذكير بالإنابة، فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129] إلخ الآية.
ووصل ذلك بكلام جزل وقول فصل، جاش به صدره وقذف به على
لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا وتلا فيه قوله تعالى:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 109 - 110].
وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت والتحذير منه، حتى بكى الناس وخشعوا وضجّوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى، فعلم الخليفة أنه هو المقصود به والمعتمد بسببه، فاستجدى وبكى وندم على ما سلف من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته، إلا أنه وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه الذي به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد انصرافه، وقال:"والله لقد تعمدني منذر بخطبته وأسرف في ترويعي، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخي"، ثم استشاط وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبداً، فقال له الحكم:"وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ "، فزجره وانتهره، وقال:"أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعمله وحلمه لا أمّ لك، يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله تعالى ألا أجعل بيني وبينه شفيعاً في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد، ولكنه وقذ نفسي وكاد يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبداً".
"السعادة" هكذا ينبغي أن تكون حَمَلة الشريعة في الترفع عن المحاباة في الحق والتحاشي عن مجاراة الوجهاء والأعيان ابتغاء مرضاتهم، وهكذا
ينبغي أن يكون أولو الأمر في إطراح الأغراض وعدم الانتصار لها متى خاطبهم العلماء بألسنة تطهرت من المداهنة، وساقوا إليهم النصائح البليغة من سرائر لا تضمر إلا خيراً، أما تزلف العالم فمما يخلد له في وجه خطته وصمة لا ترتفع لها الأنظار إلا بسوء، ومثله تعاصي أولي الأمر عن الرجوع إلى النصائح الشرعية.
ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر، ما روى "الحجاري" في "المسهب" قال:"إنه دخل عليه مرة وهو في قبة، قد جعل قرمدها من ذهب وفضة، واحتفل فيها احتفالاً ظنَّ أن أحداً من الملوك لم يصل إليه فقام منذر خطيباً، والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة، فتلا قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] الآية، وأتبعها بما يليق بذلك، فوجم الملك وأظهر الكآبة، ولم يسعه إلا الاحتمال لعظم قدر منذر في علمه ودينه"، وحضر معه يوماً في "الزهراء" فقام الرئيس "أبو عثمان بن إدريس" فأنشد للناصر قصيدة منها:
سيشهدُ ما أَبقيتَ أنك لم تكن
…
مضيتَ وقد مكنتَ للدين والدنيا
فبالجامع المعمور للعلم والتقى
…
وبالزهرةِ الزهراء للملك والعليا
فاهتز الناصر وابتهج، وأطرق منذر بن سعيد ساعة، ثم قام منشداً:
يا بانيَ الزهراء مستغرقاً
…
أوقاته فيها أما تمهلُ
لله ما أحسنها رونقاً
…
لو لم تكن زهرتها تذبلُ
فقال الناصر: "إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين، وسقتها مدامع
الخشوع يا أبا الحكم فلا تذبل إن شاء الله تعالى"، فقال منذر: "اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحاً".
وقال "المقري": "كان منذر خطيباً، بليغاً، عالماً، بالجدل، حاذقاً فيه، شديد العارضة، حاضر الجواب، عتيده، ثابت الحجة، ذا إشارة عجيبة، ومنظر جميل، وخلق حميد، وتواضع لأهل الطلب وانحطاط إليهم، وإقبال عليهم، وكان مع وقاره التام فيه دعابة مستملحة (من الناس من يتخذ الدعابة وسيلة لإذاية مجالسيه، فلا تكون مستملحة وخصوصاً عند ذوي النفوس الأبية والنباهة التي لا تنخدع بالظواهر) "، ثم قال:"وله نوادر مستحسنة، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولبث قاضياً من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته، ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي -رحمه الله تعالى- عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، فكانت ولايته لقضاء الجماعة المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاماً كاملة، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية، ولا قسم لغير سوية، ولا ميل إلى هوى ولا إصغاء إلى غاية".
ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة -أعادها الله تعالى-، وفي مسجد "السدة الكبرى" بقرب داره، وله رحمه الله تعالى تآليف مفيدة منها كتاب "أحكام القرآن"، و"الناسخ والمنسوخ"، وغير ذلك.