الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمل والبطالة
(1)
لا يزال الذين ينظرون إلى ما أنزل الله بعيون حشوها التبصر، وقلوب ملؤها الاعتبار، يؤمنون بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الإرشاد والتهذيب إلا حثَّ عليها، ولا رذيلة أو مفسدة إلا صدَّ عن سبيلها، وبذلك كان المعظِّمون لشأنه، المقيمون لشعائره في أعلى طبقة من أدب النفس وتربيتها على محاسن الشيم وتمرينها على الأعمال النافعة، وهذا مما يعرفه الذين آمنوا، كما يعرفون أبناءهم، ولكن للهمم خمود وللعزائم فترة لا يتقيظ من موتتها إلا من استفزته صروف الحوادث، وأرته كيف ترقى أمة إلى مكانة العز، وتنحط أخرى إلى وهدة السقوط، ولا تفعل ذلك إلا بمن أدركت منه رمق حياة لم يزل نبضها خافقاً. أما من سكنت إحساساته حتى التحق عند أولي البصائر ببهيمة الأنعام فلا يحس لها وجبة ولا يسمع لها ركزاً.
وإن تعجب فعجب ما يتخيله بعض من رُبِّي في مهد الجمود، من أن هذا الدين القيم لم يرشد إخوانه إلا إلى العبادات المحضة، وإنه حجاب مسدول بينهم وبين المدنية، وروَّج هذا التخيل الزائف على البسطاء وقوفهم عند ظواهر آيات وأحاديث واردة في ذم متاع الحياة الدنيا، ولو اتسعت
(1) العدد الخامس - الصادر في غرة ربيع الأنور 1322.
خطواتهم في التدبر لأبصروا ما هو التحقيق، وإيضاحه أن الشارع يفعل بالمكلف فعل الطبيب الرفيق إذا أصابت المريض علة بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجتها على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال.
لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، قال عليه الصلاة والسلام:"إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا"، ولما لم يظهر ذلك منهم ولا مظنته، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، ولما ذمَّ الدنيا ومتاعها، همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وقد كان المتعبدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها، فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم ونهى المسلمين عنها فقال:"لا رهبانية في الإسلام"، ومن الآيات الشاهدة لهذا الغرض قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، لما وقع الأمر بصرف المال إلى الآخرة في قوله:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77] بيَّن الواعظ بعد بقوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، قال مادح عمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
…
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وعلى نحو هذا جرى ذكر التجارة في معرض الحط من شأنها، حيث شغلت عن طاعة، في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11] الآية، ولما فقد ذلك المعنى العارض ذكرت، ولم يهضم من جانبها شيء، كما في قوله تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. فقد أثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجار وباعة، ولكنها لم تشغلهم ضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية.
أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجار أو باعة أصلاً، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر، أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك، لكونها أغلب وقوعاً، وأوفق لذوي المروءات، ومما يزداد به هذا المقصد بياناً قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فقد بين بهاته الآية أن الزينة من علائق العبادة، وأنها غير منافية، وأن العبادة تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة، وبالجملة فإن الآيات التي تحث على العمل والكسب كثيرة قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12]. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
فالحكيم الخبير من يقدِّر الوقت حق قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء وأسخف الكلام، ويعلم أنه أجلُّ شيء يصان عن الإهمال والإضاعة،
ويقصره على المساعي الحميدة التي ترضي الله وتنفع الناس، وبذلك ينتشر العمران في أطراف البلاد، وتتوفر مواد الصلاح وتنقطع أسباب الفساد، وذلك هو معنى المدنية.
أما من كتب على نفسه البطالة، فقد رضي لها بأسوأ الحرف وأخسها، إذ لا صنع لهذا المحترف غالباً إلا التمضمض بكلمات التشنيع والتسخط على ما يفعله غيره، وإن غزرت فائدته، ولا تراه إلا متردداً على المجالس التي تساق إليها بضائع اللغو؛ ليكون أحد الحاملين لأسفارها، ومما يعجب منه أنك تجد الرجل يحسن القراءة، وحواليه كتب مفيدة يمكنه أن يقتبس منها فوائد يستضيء بها صدره من ظلمات الجهالة ولا يفعل، وتجد آخر يتقن صناعة، أو له استعداد لإتقانها، وليس له حركة إلا الانتشار في الطرق، كأنما أوجر على قيسها، ولا توفيق إلا بالله.