الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلامُ الجامع
(1)
مما يُفضَّل به إنشاء الكلام، فيقع من النفوس أحسن موقع، ويؤثر فيها تأثيراً بليغاً، تذييله بفقرة أو بيت أو شطر على جهة الاستدلال على ما قبله أو على جهة التمثيل، تقريراً للمعنى الأول وتأكيداً لمفهومه، ويسمَّى الكلام الجامع أو إرسال المثال.
وممن سبق إلى هذا النوع الأغر، وحجَّل به مقاطع قصائده ونهاية فصولها زهير، ومن ذلك ما تمثل به في آخر معلقَّته:
"أمن أمّ أوفي دمنةً لم تكلَّمِ"
ثمَّ عُني به من المولدين "أبو الطيِّب المتنبي"، فولع به وأخذ به قريحته حتى أحرز قصبات السبق دون أقرانه.
قال "أبو منصور الثعالبي" في كتابه "يتيمة الدَّهر" عند ترجمة المتنبي:
"ليس اليوم مجالس الدَّرس أعمر بشعر أبي الطيّب من مجالس الإنس، ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون القوّالين والمغنيّين أشغل به من كتب المؤلفين والمصنّفين".
ولا ينبغي الإسراف منه والاستكثار من إيراده عقب كل فصل، ولكن
(1) العدد الثاني عشر - المصادر في 16 جمادى الثانية 1322.
يلمع به في بعض الفواصل دون بعض خوف السآمة والملل، فإن النفوس لا ترتاح لما يرد عليها من أفانين الكلام، إلا إذا غشيها على فترة وكانت زيارته غباً.
وفي كتاب الله من هذا المهيع البديع والنموذج الذي تُنسج عليه الحكم ما تندهش له العقول الراسية، وقد عقد له "جعفر بن شمس الخلافة" في كتاب "الآداب" باباً يخصه.
وروي أن بعضهم كان يستخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فقيل له:"أين تجد في كتاب الله من جهل شيئاً عاداه؟ " قال: "نعم في موضعين، قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] "، وقيل له:"هل تجد ليس الخبر كالعيان؟ " قال: "في قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] "، وقيل له:"هل تجد فيه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟ " قال: "في قوله: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64} "، وقيل له:"هل تجد فيه للحيطان اَذان؟ " فقال: "في قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] "، وقيل له:"هل تجد فيه من أعان ظالماً سُلِّط عليه؟ " قال: "في قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4] "، وقيل له:"هل تجد فيه لا تلد الحية إلا حية؟ " فقال: " {وَلَا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] "، وقيل له:"فهل تجد فيه كما تدين تدان؟ " قال: "في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] " وقيل لآخر: "أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ " قال: "في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] الآية".
ولأبي الطيب وغيره من فرائد هذا النوع ما تحُلَّى به الرسائل، وتُرصَّع به أحاديث المحاضرات على اختلاف أغراضها وتنوع مشاربها، نحو:
إذا لم تكن نفسُ النسيبِ كأصلهِ
…
فماذا الذي تُغني كرامُ المناصبِ
والغِنى في يدِ اللئيمِ قبيحٌ
…
قَدْر قُبحِ الكريمِ في الإِملاقِ
وما منزلُ اللّذاتِ عندي بمنزلٍ
…
إذا لم أُبجَّل عندَه وأُكرَّمِ
وما كلُّ هاوٍ للجميلِ بفاعلٍ
…
ولا كلُّ فعالٍ له بمتمِّمِ
وإنَّ ابن أختِ القومِ مُصفىً إناؤه
…
إذا لم يُزاحِم خالَه باب جِلد
فتىً إن يرضَ لم ينفعكَ شيئاً
…
فإنْ يغضبْ عليك فلا تبالِ
وإذا لم يكنْ من الموتِ بدٌ
…
فمن العجزِ أن تكونَ جبانا
وأشرفُهم من كان أشرفَ هِمةً
…
وأكثرَ إقداماً على كلِّ مُعظَم
إنما تنجحُ المقالةُ في المرءِ
…
إذا وافقتْ هوىً في الفؤادِ
وإذا الخنا حلَّ الحيا من معشرٍ
…
ورأَيتَ أهلَ الطيشِ قاموا فاقعدِ
وللسرِّ مني موضعٌ لا يَنالُه
…
نديمٌ ولايُفضي إليه شَرابُ
يَرى الجبناءُ أن العجزَ عقلٌ
…
وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيمِ
وكلُّ شجاعةٍ في المرء تفنى
…
ولا مثلُ الشجاعة في حكيمِ