الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق مسْألة تاريخيّةٍ
(1)
ابتُليت بطون بعض التواريخ بأمراض من الأراجيف، وإنها لبلية كبرى على من لم يكن له باع مديد في تمييز الخبيث من الطيِّب، فحذار أيها السائر تحت لواء الحق، إذا أغطشت ليلها أمامك أن تفتتن بها فتوناً، لا سيما ما يعزونه إلى "الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه " (2) استناداً إلى روايات تتصل بأقوام يلمزونه بها لحاجة في أنفسهم قضوها:
منها قولهم: أزعج "أبا ذر" من "الشام" حين غيّر على "معاوية" المنكر، وأجلاه إلى "الربذة". قلنا: "ما أتى معاوية منكراً يغير عليه، وإنما كان أبو ذر على طريقة من الزهد لا تمكن لجميع الخلق، وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس فينكر ذلك عليهم، ويدعوهم إلى تفريقه في وجوه البر وهو غير لازم لهم؛ لأن ما أُديت زكاته ليس بكنز، فخشي معاوية من أن تثور من العامة فتنة، إذ كان أبو ذر يأمرهم من الزهد بما لا يحتمله الناس كلهم، وإنما يقوى عليه بعضهم، ورفع الأمر إلى عثمان فاسترده إلى
(1) العدد الرابع - المصادر في 16 صفر 1322.
(2)
للإمام بحث تحت عنوان "نظرة في ناحية من خلافة عثمان رضي الله عنه " في كتابه "تراجم الرجال".
مجاورته بالمدينة، فاجتمع إليه الناس، وجعل يسلك بهم ذلك الطريق، فقال له عثمان:"لو اعتزلت". معناه أن من كان على هذا المذهب فحاله ينبغي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويُسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام من الشريعة، فخرج إلى "الربذة" زاهداً فاضلاً وترك أجلَّة فضلاء"، وكلٌّ أوتي حكماً وعلماً، وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين.
ومنها قولهم: "ضرب "عماراً" و"ابن مسعود" ومنعه عطاءه، قلنا: "هذا باطل سنداً ومتناً، ولا يلتجأ إلى الاعتذار عنه وان تشاغل به بعضهم، لأن الروايات المختلقة ليس لها حد تنتهي إليه، فالاشتغال بتأويلاتها لا يسعه العمر الذي له أجل مسمى".
ومنها قولهم: ردَّ "الحكم" بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا:"كان قال: "لأبي بكر" و"عمر" إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رده فسمح به ثم مات، فطلبا منه الشهادة معه فلم يجدها، فلما ولي قضى بعلمه، وقضاء الحاكم بعلمه له أصل في الشريعة، وإنما تردد فيه الناس من بعد لما حدث من التهمة، قالوا: وصله بمال الله، قلنا: وصله بماله، وكان من أغنياء الصحابة وذلك مستحب".
ومنها قولهم: عزل "عمرو بن العاص" وولى "عبد الله بن أبي سرح"، قلنا:"الولاية موكول أمرها إلى الاجتهاد، وقد عزل "عمر بن الخطاب" "سعد ابن أبي وقاص" وقدَّم أقل منه درجة، وكان "عبد الله بن أبي سرح" ممن يناط بعهدته مقاليد الأمور، ولهذا فتح الفتوح في بحر المغرب وبرِّه، ورضي عنه من معه من أبناء الصحابة وأطاعوه".
ومنها قولهم: ابتدع في جمع القرآن فأحرق المصاحف، قلنا: "هذه
من الأيادي التي أثقل به كواهل المسلمين، اختلف الناس في القراءة، فأدركهم بالرد إلى مصحف جمعه "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه، وأحرق غيره من المصاحف حسماً لمنشأ الاختلاف في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفها.
ومنها قولهم: زاد في الحمى، قلنا:"شرع الحمى للحاجة الداعية إليه، فزاد فيه لزيادتها"،
ومنها قولهم: كتب مع غلامه إلى "عبد الله بن أبي سرح" يأمره بقتل من ذكر في الكتاب، قلنا:"قد يكتب على لسان الرجل، وينقش على خاتمه، ويرسم على خطه"، ولقد قال لهم عثمان:"إما أن تقيموا شاهدين على ذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت".
قالوا لم يسلِّم إليهم "مروان" حين طلبوا ذلك منه، قلنا:"لو سلَّمه لكان ظالماً، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان".
ومنها قولهم: ولّى مروان، ولم يكن من أهل الولاية، قلنا:"مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وغيرهم، أما الصحابة فإن "سهل بن سعد الساعدي" روى عنه، وأما التابعون فروى عنه "عروة بن الزبير" و"علي بن الحسن"، أثبت ذلك "ابن عبد البر" في "الاستيعاب"، وأما فقهاء الأمصار فإنهم يعظمونه ويعتبرون إمارته وينقادون إلى روايته، قال "أبو بكر ابن العربي" في "العواصم": "وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم".
ومنها قولهم: عزل "أبا موسى" عن "البصرة" وولي "عبد الله بن عامر"، ابن خالة عثمان، قلنا: "إنَّ عزله لأبي موسى لاختلاف الجند عليه جند البصرة
والكوفة، وولى عبد الله لأنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمها "أم حكيم"، وأي حرج على الحاكم أن يولي أخاه أو قريبه ولاية هو لها أهل، وإنما ينكر من ذلك ما كان عن غير أهلية"، قال "ابن عبد البر": "لم يختلفوا أن "عبد الله بن عامر" افتتح أطراف "فارس" كلها و"عامة خراسان" و"أصبهان" و"حلوان" و"كرمان"، وهو الذي شق نهر البصرة".
ومنها قولهم: كان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا، وأعطى لمروان خمس "أفريقية"، قلنا:"هذه دعاوي باطلة ينسجها الَحسَدَةُ على منوال أغراضهم، فاضرب أيها المستبرئ لدينه عن سماعها صفحاً"، وأما ما يضعونه في قصة قتله من تلويث جانب الصحابة بدمه، فقد قال فيه "صاحب العواصم":"قد انتدب المردة الجهلة إلى أن يقولوا: "أن كل فاضل من الصحابة كان عليه شاغباً، وبما جرى عليه راضياً، واخترعوا كتاباً فيه فصاحة وأمثال كتب "عثمان " بها إلى "علي" مستصرخاً، وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين، وإن الصحابة براء من دمه بأجمعهم"، وقال في "العارضة": "ولقد قُتل عثمان، وطالبوه أربعة آلاف، وفي المدينة أربعون ألفاً كلهم لا يريد قتله ويريد نصره، لكنه استسلم للأمر ولم يرض أن يراق بسببه دم، ورضي أن يكون عند الله المظلوم ولا يكون عند الله الظالم" اهـ.
وجاء "زيد بن ثابت" فقال له: "إن هؤلاء الأنصار بالباب، يقولون: إن شئت كنَّا أنصار الله مرتين"، قال:"لا حاجة لي في ذلك"، فسلموا له رأيه في إسلام نفسه. فاربأ أيها العاقل بنفسك الزكية من أن يعلق بها ما يلصقه المؤرخون بالصحابة، مما يثلم شيئاً من عدالتهم، وجنِّبْ اعتقاداتك الصحيحة
من أن تختلط بغثَّه، فإنَّا لم نجد من ذلك النوع ما رواه عدل ضابط عن مثله، ولولا خشية الاغترار بما سُودت به الصحائف التي لا تمحص الصحيح من المريض، لما عرَّجنا على الخوض في مثل هذا، وما توفيقي إلا بالله.