المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الصّيام (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(24)«السَّعَادَةُ العُظمَى»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌التّقاريض

- ‌المباحِث العلميّة

- ‌الاعتصامُ بالشّريعة

- ‌الأخذ بالقول الرّاجح

- ‌براءة القرآن مِنَ الشِّعِر

- ‌العمل والبطالة

- ‌حياة الأمّة

- ‌التّربية

- ‌التّقدم بالكتابة

- ‌مدنيّة الإسْلام والعلوم العصريّة

- ‌مدنيّة الإسلام والخطابة

- ‌كبر الهِمَّة

- ‌التّعاون والتّعاضد

- ‌الدّيانة والحريّة المطلقة

- ‌البدْعة

- ‌الزّمان والتّربية

- ‌الصّيام

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌المباحث الأدبيّة

- ‌تقسيم الكلام بحسب أغراضه

- ‌الإبداع في فنون الكلام

- ‌الفصيح من الكلام

- ‌طرُق التّرقي في الكتابة

- ‌الشّعر العصْرىّ

- ‌الكلامُ الجامع

- ‌الأخلاق

- ‌الحياء

- ‌أبو بكر بن العرَبيّ

- ‌ترجمة القاضي أبا الوليد الباجيّ الأندلسيّ

- ‌منذر بن سعيد

- ‌تحقيق مسْألة تاريخيّةٍ

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌عقد نكاح بين ذميين بشهادة مسلمين

- ‌كتابة القرآن بلفظه العربي بالأحرف الفرنسية

- ‌أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان

- ‌هل صوت المرأة عورة

- ‌جواز الاقتباس من القرآن في المقالات

- ‌قصة رتن الهندي

- ‌تقديم الإنسان اسمه على اسم المكتوب إليه

- ‌الطب النبوي

- ‌تلقين الميت لا إله إلا الله

- ‌الاستخارة بالقرآن

- ‌فتوى ابن العربي

- ‌وصول ثواب الذكر للميت

- ‌الخطبة الثانية في الجمعة

- ‌دخول ولد الزنى للجنة

- ‌كيف التخلص من البدع

- ‌الرؤيا والحكم الشرعي

- ‌جوائز التفوق في المسائل العلمية

- ‌إجزاء إخراج القيمة من الزكاة

- ‌حكم الرجل يقول لزوجته أنت طالق ليلة القدر

- ‌الصوم بخبر السلك البرقي

- ‌المستدرك من "السعادة العظمى

- ‌ استدراك

- ‌ التمدن

- ‌ وفاء ذمة

- ‌ تعليق

- ‌ وفاة عالم جليل

- ‌ إحياء سنّة

الفصل: ‌ ‌الصّيام (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ

‌الصّيام

(1)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بيا أيها الناس، فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم، وكذلك جرت سنّة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بيا أيها الذين آمنوا، نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الآية، ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] ، وكقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية إلى غير ذلك.

ويصدر الأوامر الاعتقادية بيا أيها الناس، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان، فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم والمبالغة في التهييج إلى العمل، فكأنه يقول لهم أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال، ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه

(1) العدد السابع عشر - المصادر في غرة رمضان المعظم 1322.

ص: 108

العدول عن يا أيها الناس في الأوامر الفرعية.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الصيام في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح، وفي الشريعة: الإمساك عن المفطرات بياض النهار.

وشرِّع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها، وليذوق الموسرون لباس الجوع فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء.

وللصوم عند من تنبهوا لأسرار العبادات ثلاث درجات:

صوم العامة: وهو كف البطن والفرج عن شهوتيهما، وصوم الخاصة: وهو ما تقدم مع قصر الجوارح عن أفعال المخالفات، وصوم خاصة الخاصة: وهو صوم القلب وترفعه عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية التي لا تراد للدين، وإلا فهي من زاد الآخرة ومطاياها، وهذه هي الدرجة الكاملة التي جمعت بين عمل الظاهر والباطن، وينبئك على حطة الدرجة الأولى، وقصور صاحبها عن الانخراط في زمرة الصائمين حقيقة، قوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال أبو بكر بن العربي:"كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج، فوقعت في ارتكاب الزور واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله سبحانه على لسان رسوله أن من اقترب زوراً أو أتى من القول منكوراً، أن الله سبحانه في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه".

يسمع الناس بحديث "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح

ص: 109

المسك"، وحديث "كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به"، وحديث "الصيام جُنة"، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح.

كيف تكون رائحة فم تقذر بتناول الأعراض، والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟ وكيف يستاهل صيام تجهم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك جل جلاله ويتولى جزاءه بنفسه؟ وكيف يكون الصيام جُنّة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه وتدنّسَ ذيله بقول الزور، والتلبس بالآثام التي تهيء له في نار جهنم وطاء وغطاء؟ نعم لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم فيستحقون هذه الكرامات.

ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل، والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس، ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغامات صبيِّها عندما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية؛ وإنه ليعظم في عينك الرجل بادي الرأي حتى تحسبه من رجال الأمة، فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيئاتها يحللها لك تحليلاً كيماوياً، ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى، وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات وتحسين العادات.

ص: 110

{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، والمعنى أن الصوم لم يفرض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم، بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم، وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره أيضاً لا يُلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته، وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت، وفائدة هذا التشبيه تهوين هذه العبادة الشاقة، وتخفيف وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛ لأن الأمور الشاقة إذا عمَّت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطوق بعهدتها.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] تصيرون أتقياء، فإن الصوم يقهر النفس ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، وقد فسرت "الجُنَّة" في حديث "الصيام جُنَّة" بالوقاية والسترة من المعاصي رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث. أولهما ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنّى عليه الصلاة والسلام عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما كنّى عن تنزيل الرحمة وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله:"إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة -وللبخاري أبواب السماء- وغُلِّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"، وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة، وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً.

ص: 111