المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فنون الخيال: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٧/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(12)«الخَيالُ فِي الشِّعرِ الْعَرَبِيِّ وَدِرَاسَاتٌ أدَبِيَّة»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌الخيال في‌‌ الشعر

- ‌ الشعر

- ‌ التخييل عند علماء البلاغة:

- ‌ التخييل عند الفلاسفة:

- ‌ ماذا نريد من التخييل

- ‌ تداعي المعاني

- ‌ لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني

- ‌ التخييل التحضيري:

- ‌ التخييل الإبداعي:

- ‌ فنون الخيال:

- ‌ حال المعنى والتخييل:

- ‌ أسباب جودة الخيال:

- ‌ بماذا يفضل التخييل

- ‌ التفاضل في التخييل:

- ‌ الغرض من التخييل:

- ‌ أطوار الخيال:

- ‌ خاتمة:

- ‌الشعر البديع في نظر الأدباء

- ‌ حقيقة الشعر:

- ‌ الشعر عند البلغاء:

- ‌ إدراك الشعراء لبراعة الشعر:

- ‌ العلماء والشعر:

- ‌ براعة الشعر عند الخلفاء:

- ‌ آثار الشعر:

- ‌أثر الشعر في التّرويح على النّفس وإثارة العواطف الشّريفة

- ‌نموذج من نقد الشعر

- ‌ تمهيد:

- ‌ وجوه النقد:

- ‌ النقد اللفظي:

- ‌ النقد العائد إلى التركيب:

- ‌ النقد المعنوي:

- ‌الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية

- ‌نظرة في شعر حسّان بن ثابت

- ‌ سمو مكانة حسان في الشعر:

- ‌ الفخر في شعر حسان:

- ‌ المديح في شعر حسان:

- ‌ الهجاء في شعر حسان:

- ‌ النسيب في شعر حسان:

- ‌ الحكمة في شعر حسان:

- ‌الخطابة عند العرب

- ‌ ما هي الخطابة

- ‌ شرف الخطابة:

- ‌ ماذا تفعل الخطابة

- ‌ أطوار الخطابة:

- ‌ أسباب ارتقاء الخطابة:

- ‌ تعلم الخطابة:

- ‌ إعطاء الحروف حقها:

- ‌ حسن الإلقاء:

- ‌ الإشارة في الخطابة:

- ‌ القيام بمكان مرتفع حال الخطابة:

- ‌ الإرتاج في الخطابة:

- ‌ الارتجال في الخطابة:

- ‌نشأة علم البلاغة

- ‌ المحاضرة الأولى:

- ‌ تمهيد:

- ‌ لماذا نهض النحو قبل أن ينهض البيان

- ‌ كيف نشأ علم البيان

- ‌ المحاضرة الثانية:

الفصل: ‌ فنون الخيال:

لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية المعقول؛ كقول الطائي:

ولا يروعك إيماض القتير به (1)

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب اللذين هما محبوبان ومحترمان لكل أحد؛ ابتغاء أن تأنس العين لرؤيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به، وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق، وإن استحكم تأليفها، ودقَّ مأخذها.

ومنه ما يستملحه الذوق، ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير:

لونال حيٌّ من الدنيابمكرمةٍ

أفقَ السماء لنالت كفُّه الأفقا

فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من حساب التخيلات المقبولة، ويلوغ كفّ الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح، غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال على امتناعه، قد خلصه من زلة الكذب، وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى القضايا الوهمية.

*‌

‌ فنون الخيال:

يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا يسع المقام استيعابها، وتقصّي آثارها فنلمَّ لك بمهماتها، وما يصلح أن

(1) القتير: أول ما يظهر من الشيب. "المعجم المدرسي".

ص: 23

يكون بمنزلة أصل تتفرع عليه تفاصيلها:

أحدها: تكثير القليل؛ كقول عمرو بن كلثوم:

ملأنا البرَّ حتى ضاق عنا

وظهر البحر نملؤه سفينا

فإنه اطرد في حلية الفخر حتى وصل إلى التعبير عن منعة الجانب، والسطوة التي لا يفوتها هارب، فخطر له أن يثبت له ولقومه من القوة ووسائل الفوز ما يرهبون به عدوهم، فذكر أنهم ملؤوا البر جنداً حتى لم يبق فيه متسع، ويملؤون ظهر البحر بالمنشآت من السفن؛ ليدل بهذا على أنهم لا يبالون بالعدو من أي ناحية هجم، ولا يتعاصى عليهم إدراكه في أي موطن ضرب بخيامه.

والذي صنع خيال الشاعر في هذا البيت: أنه تجاوز في الإخبار بكثرة قبيلته وسفنه حد الحقيقة، وتطوحت به نشوة الفخر إلى أن تخيل البر قد غصَّ كما تغص الثكنة بجنودهم، وأن البحر يتموج بسفنهم كتموج السماء المصحية بكواكبها الزاهرة.

ومنها: تكبير الصغير؛ كقول بشر يصف وقعة الأسد حين قسمه بالضربة القاضية على شطرين:

فخرَّ مضرَّجاً بديمٍ كأني

هدمت به بناء مشمخرّا

فقد تخيل عندما سقط الأسد إلى الأرض دفعة: أنه أتى إلى بناء شامخ، ونقضه من أساسه، فانقضت أعاليه على أسافله، فالخيال هو الذي بلغ بجثة الأسد إلى أن جعلها في العظم بمقدار بناء ارتفعت شرفاته، حتى اتخذت من السحب أطواقاً.

ومنها: تصغير الكبير؛ كقول المتنبي:

ص: 24

كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ

لولامخاطبتي إياك لم ترني

وقوله:

ولو قَلَمٌ أُلقيتُ في شقِّ رأسه

وخُطَّ به ما غيَّر الخط كاتبُ

فالصبُّ، وإن تقلب على فراش الهجر أمداً طويلاً، وأكل الوجد من لحمه حتى شبع، وشرب من دمه حتى ارتوى، لا يصل في نحافة الجسم إلى أن يسعه شقُّ رأس القلم، أو يخفى عن عين الناظر إليه، وإن كانت عشواء، وإنما هو الخيال أخذ يستصغر ذلك الجسم، حتى ادعى في البيت الأول أن مخاطبته للناس هي التي تهديهم إلى مكانه فيبصرونه، ولولاها لبقي محجوباً عن أبصارهم، وإن وقف قبالتهم، وادّعى في البيت الثاني: أنه لو وقع في شق اليراعة، وانطلقت به اليد في الكتابة، لاستمر الخط بحاله.

ومنها: جعل الموجود بمنزلة المعدوم؛ كقول المتنبي:

ومطالب فيها الهلاكُ أتيتُها

ثبتَ الجنان كأنني لم آتها

وصف نفسه بالإقدام على مواقع الردى، واقتحام الأخطار بجنان ثابت، وعزم لا يتزلزل، حتى تخيل؛ لقلة المبالاة بها، وعدم الفزع لملتقاها: أنه لم يكن قد خاض غمارها، ورآها كيف تنشب أظفارها، وإنما نشأ هذا الخيال من جهة أن الخطوب المدلهمة لا يسلم من روعتها والدهشة لوقعتها في مجرى العادة إلا من حاد عن ساحتها، وجذب عنانه عن السير في ناحيتها.

ومنها: تصوير الأمر بصورة حقيقة أخرى، ولها في هذا المقام أربعة أحوال:

أحدها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس؛ كما في قول زهير:

ص: 25

يجرّون البرود وقد تمشت

حُمَيّا الكأسِ فيهم والغناءُ

تمش بين قتلى قد أصيبت

مقاتلُهم ولم تُهرقْ دماءُ

فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم بمثل خنق، أوسقاء سم دبَّ دبيب الخمر في مفاصلهم.

ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس؛ كما في قول الشاعر:

مررت على المروءة وهي تبكي

فقلت علامَ تنتحب الفتاةُ

فقالتْ: كيف لا أبكي وأهلي

جميعاً دون خلق الله ماتوا

تصوَّرَ المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء، ويعقد بينه وبينها هذه المحاورة.

ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى الكفر، فقال:

أمطري لؤلؤاً جبال سرنديـ

ب وفيضي جبال تكرور تبرا

منزلي منزلُ الكرام ونفسي

نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا

رابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول، وهذا لم نعثر له على مثال في كلام العرب، ولكن التشبيه الذي هو أساس هذا الفن قد جرى في كلام المولَّدين بإيراد المحسوس في معرض المعقول؛ كقول التنوخي:

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا

وقول الفاروقي:

تمر مع الأتراب بالخيْفِ من منًى

مرورَ المعاني في مفاوز أفكاري

ص: 26

وقد يعمد الشاعر إلى بعض المعاني، وينفيه عن أفراده المعهودة، ويثبته لأفراد مفهوم آخر، وتجد هذا في قول بعضهم:

ليس من مات فاستراح بميْت

إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء

إنما الميْت من يعيش كئيباً

كاسفاً بالُه قليلَ الرجاء

فقد نفى أن يكون من قضى نحبه ميتاً، وأطلق اسم الميت على من فاضت نفسه كآبة، وضاق صدره يأساً، على طريقة القصر، بدعوى أن المعنى الذي علق عليه الواضع اسم الميت إنما يتحقق فيمن يعيش في نكد وبلاء لا يرجو خلاصاً منه، والذي أخذ به إلى هذه الدعوى: ما تخيله من أن خواص الراحل إلى القبر، وهي مفارقة ما كان يتمتع به من طيبات الحياة، وانقطاع أمله منها، ونكث يده من العمل فيها، توجد بأجمعها في الكئيب اليائس من صفاء العيش، بأشد مما توجد فيمن ركبوا مطية المنون، حيث يزيد عليهم في الشقاء بأنه يصلى نار الحسرة والأسف بكرة وعشياً.

وقد يكون الأمر مربوطاً بعلة محققة ظاهرة، فيضرب عنها، ويخترع له علة من عنده، وتجد هذا في قول أبي العباس الضبّي:

لا تركنَنَّ إلى الفرا

ق فإنه مرُّ المذاق

فالشمس عند غروبها

تصفرُّ من فَرَقِ الفراق

ادعى أن العلة في الاصفرار الذي يبدو على وجه الشمس حين تتدلى إلى الغروب، وتنطفئ بهرتها، إنما هو الوجل والهلع من مفارقة الناس الذين طلعت عليهم ذلك اليوم، حيث اتصلت بينهم وبينها - فيما يزعم - عاطفه ألفة وإيناس.

ومما صَنَعْتُ على هذا النمط وقد أخذ البَرَدُ يتساقط في حديقة:

ص: 27

هزَّ النسيم غصونَ الروضِ في سحر

كما يهز بنانُ الغادةِ الوترا

لذَّ الحفيف على أذن السحاب أما

تراه يحثو على أدواحها دُرَرا

وقلت وقد أخذت الريح تنسف في روض:

قام هذا الروض يشدو مادحاً

بلسان البلبل الزاهي سحابا

وتمادى غالياً في مدحه

فحثت في وجهه الريح ترابا

وقلت في حال أشجار تراكم عليها الثلج، ثم ضربت فيها الشمس، فأخذ يتقاطر عن جوانبها:

نسج الغمام لهذه الأشجار من

غزل الثلوج براقعاً وجلاببا

والشمس تبعث في الضحى بأشعة

تسطو على تلك الثياب نواهبا

فبكت لكشف حجابها أو ما ترى

عبراتها بين الغصون سواكبا

وقلت في حمرة الشفق:

قتل الدجى هذا النهارَ ودسَّه

تحت التراب مضرجاً بدمائه

فخذوا من الشفق الشهادة إنه

لطخ من الدم نال ذيل ردائه

وربما يصاغ التعليل في قالب التشبيه؛ كقول أبي تمام:

كأن السحاب الغُرَّ غيبن تحتها

حبيباً فلا ترقا لهن مدامع

فلو حذفت أداة التشبيه هنا، لكان الباقي بمنزلة العلة الخيالية لنزول الغيث المنسجم من ينابيع السحاب، واقترانه بأداة التشبيه يجعله بحيث يسكت عنه العقل، ولا يمانعه من أن يدخل في سبيل المعاني الصادقة.

ومما نظمت على هذا المثال، وكان الجو يقذف وقت السحر

ص: 28

بنثار من الثلج:

تطاولَ هذا الليلُ والجوُّ مزبدٌ

فضاقت بأمواج الثلوج مسالكه

كأني أذيب الصبح بالحدق التي

يقلبها وجدي وتلك سبائكه

وقد يقرر الشاعر معنى، ثم يقابله بأمر أوضح منه عند المخاطب، دون أن يصرح فيه بأداة تشبيه، بل تكون مصدرة بأداة استفهام؛ كقول مسكين الدارمي:

وإن ابن عم المرء فاعلم جناحُه

وهل ينهض البازي بغير جناح

أو بأداة التوكيد فقط؛ كقول أبي العتاهية:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

أو تقرن أداة التوكيد بالفاء؛ كقول بشّار:

فلاتجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

أو بالفاء وحدها؛ كقول بعضهم:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب

فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

ولنوجه البحث إلى معنى البيت الأول، ثم لا يشتبه عليك بعد تحرير الغرض منه أن بقية الأبيات جارية بمعنى التمثيل، أو ذاهبة مذهب الاستدلال والتعليل.

صدر الدارمي البيت بجعل ابن عم المرء بمكان الجناح له، والشطر الثاني ينفي عن البازي أن ينهض بغير جناح، ومعنى الشطرين لا يلتئم إلا بملاحظة جملة مطوية ما بين الصدر والعجز لم يفصح عنها الشاعر؛ لسهولة مأخذها، وبعد ملاحظة تلك الجملة يكون مفاد البيت أن ابن عم المرء بمنزلة

ص: 29