الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي كالمستعصية عليه.
*
بماذا يفضل التخييل
؟
عرف مما سبق أن التخييل يدور على انتقاء مواد متفرقة في الحافظة، ثم تأليفها وإبرازها في صورة جديدة، فيرجع فضله والبراعة فيه إلى ثلاث مزايا: إحداها: أن يكون وجه المناسبة بين تلك الجواهر - أعني: المواد المؤلفة منها صورة المعنى - غامضاً، فمزية من يتخيل الكواكب أزهاراً باسمة في روضة ناضرة دون مزية من يقول:
وضوءُ الشهبِ فوقَ الليل بادٍ
…
كأطراف الأسنَّةِ في الدروعِ
فإن المشابهة بين الكواكب والأزهار لا تغيب عن كثير من الناس، أما التشابه بين النجوم وبين أطراف الأسنة اللامعة عند نفوذها في الدروع لا يحوم عليه إلا خيال بارع.
ولا فضل لمن يرى الشمعة فيحاكيها بالرمح، إذا قسته بمن ينظر إليها فيقول:
كأنها عُمْرُ الفتى
…
والنارُ فيها كالأجلْ
فإن محاكاتها بالرمح لا تكاد تخفى على ذي بصر، وإنما الخيال الفائق هو الذي ينتقل منها إلى العمر والأجل؛ حيث يشعر بالمناسبة الدقيقة بينهما، وهو أن الأجل يدنو من الإنسان حيناً فحيناً، ويتقاضى عمره رويداً رويداً، إلى أن تتقلص عنه أشعة الحياة؛ كلهيب الفتيلة يدب في جسم الشمعة، وينتقصها قليلاً قليلاً إلى أن يأتي على آخرها، وتذهب في الجو هباء منثوراً.
ثانيتها: أن يكون التخييل مبنياً على ملاحظة أمور متعددة، فالصورة التي
يراعى في تأليفها ثلاثة معان - مثلاً - تكون أرجح وزناً، وأنفس قيمة من الصورة التي تبنى على رعاية معنيين، فمن الشعراء من يصور لك الرمح شهاباً ثاقباً، فهل يحق لك أن تساويه بمن يخيله لك ورؤوس الأعداء منصوبة على طرفه بالغصن يوم يكون مكللاً بالثمار؟ كما قال ابن عمار يخاطب المعتصم صاحب "المرية":
أثمرتَ رمحك من رؤوس كُماتِهم
…
لما رأيتَ الغصنَ يُعشق مثمِرا
يقف الناس في تصوير الحرب بمعنى الرحى عند قولهم: دارت رحى الحرب، وكان عمرو بن كلثوم أبسطهم في هذا التخييل باعاً، حيث يقول في وصف الحرب:
متى ننقل إلى قومٍ رحاها
…
يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكونُ ثِفالهُا شرقيَّ نجدٍ
…
ولهوتُها قضاعةَ أجمعينا
فالثفال: ما يُبسط تحت الرحى ليتساقط عليه الدقيق، واللهوة: القبضة من الحب تُلقى في فم الرحى لتطحنها، وقضاعة: هي القبيلة التي يهمدها هذا الشاعر بالحرب الطاحنة، وكأني به عندما حضر في نفسه معنى الحرب، انساق إليه معنى الرحى لما بينهما من التشابه المعهود، ثم تنقل نظره من الرحى إلى ما هو من خواصها، فوقع على الثفال واللهوة، ثم انقلب إلى معنى الحرب، وألقى نظره إلى ما حوله، فتراءى له ميدانها مبسوطاً كالثفال، والرجال الذين يتهافتون عليها فتتناثر رؤوسهم، وتتساقط أشلاؤهم على ذلك الميدان في صورة اللهوة، فصاغ الأبيات على هذا الوجه الذي يدل على حسن تصرفه في ضم المعاني إلى أشكالها.
والأدباء الذين أروك الحصى في صورة الدر ليسوا بقليل، وإنما المزية
لمن اتسع في صورة هذا المعنى، ونظر في تركيبها إلى أمور متعددة، فقال يصف وادياً:
وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ
…
سقاه مضاعَفُ الغيثِ العميمِ
نزلنا دوحَهُ فحنا علينا
…
حُنُوَّ المرضعاتِ على الفطيمِ
وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً
…
ألذَّ من المدامةِ للنديمِ
يروع حصاه حاليةَ العذارى
…
فتلمَسُ جانبَ العقدِ النظيمِ
كأني بالشاعر عندما فتح جفنه على الحصى، وهي في ملاستها وصفاء منظرها، انصرف خياله إلى ما يحاكيها من الجواهر النفيسة، ثم إلى حال تناسقها في هيئة قلادة، وتذكر بهذا موقعها من الصدر، فخطرت على قلبه الفتاة، وشرع يتصور كيف تنظر إلى تلك الحصى، فيهجم على ظنها بغتة أن قلادتها انفرطت، وأن ما تراه من الحصى إنما هو اللؤلؤ الذي كان متناسقاً في نحرها قد تساقط إلى مواطئ أقدامها، فلا تتمالك أن تضرب يدها على العقد حتى تحفظ البقية من السقوط، أو لتتيقن صدق ظنها، فتسعى إلى التقاطها.
ثالثتها: أن يجري الشاعر في استخلاص المعاني وتأليفها على ما يوافق الذوق السليم، فهو الحافظ لنظام المعاني؛ كما أن القواعد العربية تحفظ نظام الألفاظ، ومن الشعراء من تأخذه سنة عن هذا الشرط، فيضع المعنى الخيالي على مثال تشمئز منه النفس، كما أن ناسج الثياب من غزل اختلفت ألوانه، إذا لم يكن صاحب ذوق فائق، لم يحكم وضعها، وأخرجها في صورة تقذفها العيون.
ومثال هذا: أن أبا القاسم بن فرناس أنشد الأمير محمداً أبياتاً يقول فيها:
رأيتُ أمير المؤمنين محمداً
…
وفي وجههِ بِذْرُ المحبَّةِ يثمرُ
فقال له مؤمن بن سعيد: قبحاً لما ارتكبته، جعلت وجه الخليفة محراثاً تثمر فيه البذور؟ فغشيه الخجل، وجعل جوابه عن هذا النقد الصائب سباباً.
ووقع في مثل هذه الزلّة كثير من كبار الشعراء، فهذا أبو تمام يقول في مدح أحد الأبطال:
ضاحي المحيا للهجير وللقنا
…
تحت العجاج تخاله محراثا
فجعل ممدوحه محراثاً، كما جعله هاذياً حين قال:
لا زال يهذي بالمكارم والعُلا
…
حتى ظننّا أنه محمومُ
وهذا بشار بن برد يقول:
وجذّتْ رقابَ الوصل أسيافُ هجرِها
…
وقَدَّتْ لِرِجْلِ البين نعلين من خدي
فإثبات الرقاب للوصل، والرجل للبين من التخيلات المستهجنة.
قد يخطر لسائل أن يقول: إن لهؤلاء الشعراء براعة مسلمة، وأذواقاً لا نرتاب في صحتها وصفائها، وقد مرت هذه المعاني التي رميتموها بسبة السخافة على أذواقهم، فألقت إليها بالتسليم، أفلا يكون رضاهم عنها، واستحسانهم لها شاهداً ببراءتها مما تصفونها به من سماجة الوضع، ومنافرة الذوق؟
والجواب: أن القبح في هذه المعاني وما كان على شاكلتها محقق بما يجده الإنسان في نفسه من أثر النكرة لها، وعدم الأنس لسماعها، فضلاً عن شهادة فريق لا تقصر بهم سلامة الذوق والمعرفة بحرفة الأدب عن طبقة أولئك الشعراء. وهذا ابن رشيق يقول عقب إيراد البيت الأول من بيتي أبي تمام:
"فلعنة الله على المحراث هاهنا ما أقبحه وأركه! ". ولم يبق سوى النظر في عدم تنبههم لذلك القبح، وكيف خفي عنهم وجهه، وهو كاشف لثامه، حتى بلغ وضوحه في بعض الأبيات أن لا يمتاز بإدراكه الأدباء عن غيرهم.
والوجه في هذا: أن البصيرة مثل البصر، والمشاهد للصورة عن عيان قد يفوته أن يحدق فيها من بعض الجهات، فلا يشعر بما فيها من عيب، فكذلك الشاعر قد يصوغ المعنى، ولا يأخذه بالنقد من جميع أطرافه، فيصدر على عوج قد يبصر به من هو أضعف بصيرة منه، والعلة في عدم تنبه الشاعر لذلك الخلل: قصر المدة فيما بين إنشاء القصيدة، وإراءتها للملأ؛ بحيث لا يتمكن من تجريد نظره إلى كل بيت، ونقد معناه من سائر وجوهه.
وربما أصيب الشاعر من اعتماده على براعته ومكانة سمعته؛ إذ كثيراً ما يستفيد الشاعر من المقام والشهرة التي يدركها بين قومه، فيتلقون شعره باستحسان فوق ما يتلقون به شعر غيره ممن لم يقم لهم صيت، وإن كان في نفسه أبعد أمداً، وأحكم نسجاً، فكثرة الإجادة وسعة الذكر قد تؤثر في همة الشاعر في بعض الأحيان، فيلقي القصيدة على علاتها، ولا يحمل نفسه على التدقيق في نقدها. ومن ثمّ ترى أكثر الذين يقعون في هذه العثرات، إنما هم كبار الشعراء، والمكثرون منهم؛ كأبي تمام، والمتنبي، ومن كان في طبقتهم.
ويؤكد لك أن سيئات الشعراء في هذا الصدد، إنما لصقت بهم من جهة عدم نقدهم المعنى بعد أن تقذفه القريحة نقداً وافياً، إما لضيق الوقت، أو اغتراراً بما ملكوا من البراعة، وأحرزوا من الشهرة: أن أحدهم قد ترسل قريحته معنى، فيقع منه موقع الإعجاب، حتى إذا أعاد إليه النظر مرة ثانية، انكشف له من مساويه ما يجعله في أسف على إذاعته، أو في ارتياح من عدم