الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنده أن المحدثين ابتكروها، وأن القدماء لم يعرفوها، وذلك لما أراد أن يفخم أمر المحدثين".
وصدرت من ابن أفلح البغدادي مقالة فخَّم فيها من شأن المحدثين، وأسرف في التفخيم إذ قال في مقدمته:"أما المعاني المبتدعة، فليس للعرب منها شيء، وإنما اختص بها المحدثون". وقد ردّ ابن الأثير في المثل السائر" على هذه المقالة الجائرة، وقال عقب الرد عليها: "لو قال: إن المحدثين أكثر ابتداعًا للمعاني، وألطف مأخذًا، وأدق نظراً، لكان قوله صواباً؛ لأن المحدثين عظم الملك في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون".
وقال ابن أبي الحديد: "إن هذا الفن من البديع لا يوجد منه في كلام غير الإمام علي ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غير مقصودة". وإنما يريد بالقصد في قوله "غير مقصودة": أنها تجيء عفوًا من غير تصنع وإجهاد نظر، وإلا، فالعرب كانوا يشعرون بوجه حسنها، فإذا صاغوا كلامهم في استعارة أو طباق أو جناس، أدركوا ما فيه من بديع، وفضّلوه على غيره مما يساويه في كل شيء إلا أنه لم يشاركه في هذا الوجه من الحسن.
*
لماذا نهض النحو قبل أن ينهض البيان
؟
نهض علم النحو بالتأليف وتقرير القواعد قبل أن ينهض علم البيان ذلك النهوض، فكنا نرى النحاة يستنبطون القواعد، ويختلفون فيها مذاهب، ويودعونها الكتب الضخمة، في حين أناّ لا نرى من فنون البيان إلا كلمًا تجري على ألسنة البلغاء، أو تصدر من نقاد الخطب والأشعار، أو تقع في مباحث اللغويين أو النحاة، أو تجيء في بيان آيات من القرآن الكريم.
علة تأخر نهضة البيان عن نهضة - النحو فيما يظهر - هي: ما أومأنا إليه
آنفاً من أن العرب على اختلاف طبقاتهم كانوا يقومون على قانون الإعراب، فأول لحن طرق آذانهم أشعرهم بالخطر الذي جعل ينتاب لغتهم الفصحى، فقاموا سراعًا يستخرجون القوانين التي تجري عليها هذه اللغة؛ حفظاً للألسنة من تحريف الكلم عن هيئاتها.
أما فنون البيان، فإن العرب يتفاوتون في مراعاتها، والنسج على منوالها، ففي العرب من يخرج المعاني في صورة جميلة، ويصوغ الكلام في وجوه بديعة، وفيهم من لا يطيق سوى تأدية المعنى الذي يستوي فيه الغبي والألمعي، والقروي والبدوي، وهو عما وراء ذلك من الغافلين.
ولوجود أفراد لا يذكرون في حساب البلغاء، حتى في عهد الجاهلية وصدر الإسلام، لم يكن ما نشأ عن اختلاط العرب بالعجم من قصور الألسن عن أمد الفصاحة، وجفافها من ماء البلاغة حادثاً مكشوف الوجه كحادث الخطأ في مباني الكلم أو الإعراب.
فلا غرابة أن ينهض علم الإعراب ومباني الكلم تلك النهضة البالغة، ويبقى علم البيان جملاً تطرح في المجالس، أو مباحث تلقى مفرقة في الكتب، أو صحفًا تحتوي قطعاً غير شافية، ولا ينهض نهضته العبقرية إلا في خلال المئة الخامسة.
وتفترق قوانين النحو من قوانين البيان من ناحية أخرى، هي: أن قوانين النحو تعرف بالاستقراء من غير أن يكون للذوق حكم نافذ في تقريرها.
أما قوانين البيان، ومزايا النظم، فلا يكفي في إدراكها الاطلاع على ما يصدر من البلغاء منظوماً ومنثوراً، بل لا يحكم صناعتها إلا من حاز ذوقاً صافياً فوق ما يملك من الذكاء. ونريد من الذوق: تلك الملكة التي تتربى