المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التفاضل في التخييل: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٧/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(12)«الخَيالُ فِي الشِّعرِ الْعَرَبِيِّ وَدِرَاسَاتٌ أدَبِيَّة»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌الخيال في‌‌ الشعر

- ‌ الشعر

- ‌ التخييل عند علماء البلاغة:

- ‌ التخييل عند الفلاسفة:

- ‌ ماذا نريد من التخييل

- ‌ تداعي المعاني

- ‌ لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني

- ‌ التخييل التحضيري:

- ‌ التخييل الإبداعي:

- ‌ فنون الخيال:

- ‌ حال المعنى والتخييل:

- ‌ أسباب جودة الخيال:

- ‌ بماذا يفضل التخييل

- ‌ التفاضل في التخييل:

- ‌ الغرض من التخييل:

- ‌ أطوار الخيال:

- ‌ خاتمة:

- ‌الشعر البديع في نظر الأدباء

- ‌ حقيقة الشعر:

- ‌ الشعر عند البلغاء:

- ‌ إدراك الشعراء لبراعة الشعر:

- ‌ العلماء والشعر:

- ‌ براعة الشعر عند الخلفاء:

- ‌ آثار الشعر:

- ‌أثر الشعر في التّرويح على النّفس وإثارة العواطف الشّريفة

- ‌نموذج من نقد الشعر

- ‌ تمهيد:

- ‌ وجوه النقد:

- ‌ النقد اللفظي:

- ‌ النقد العائد إلى التركيب:

- ‌ النقد المعنوي:

- ‌الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية

- ‌نظرة في شعر حسّان بن ثابت

- ‌ سمو مكانة حسان في الشعر:

- ‌ الفخر في شعر حسان:

- ‌ المديح في شعر حسان:

- ‌ الهجاء في شعر حسان:

- ‌ النسيب في شعر حسان:

- ‌ الحكمة في شعر حسان:

- ‌الخطابة عند العرب

- ‌ ما هي الخطابة

- ‌ شرف الخطابة:

- ‌ ماذا تفعل الخطابة

- ‌ أطوار الخطابة:

- ‌ أسباب ارتقاء الخطابة:

- ‌ تعلم الخطابة:

- ‌ إعطاء الحروف حقها:

- ‌ حسن الإلقاء:

- ‌ الإشارة في الخطابة:

- ‌ القيام بمكان مرتفع حال الخطابة:

- ‌ الإرتاج في الخطابة:

- ‌ الارتجال في الخطابة:

- ‌نشأة علم البلاغة

- ‌ المحاضرة الأولى:

- ‌ تمهيد:

- ‌ لماذا نهض النحو قبل أن ينهض البيان

- ‌ كيف نشأ علم البيان

- ‌ المحاضرة الثانية:

الفصل: ‌ التفاضل في التخييل:

اطلاع الناس عليه.

ومن المحتمل أن يصوغ الشاعر المعنى، فتأخذ جهة الحسن بقلبه مأخذاً بليغاً، ثم يعثر في صورته على وجه من الخلل، ولا يتمكن من تلافيه وإكمال نقصه إلا برفض الصورة من أصلها، وحيث يرى أن جهة الحسن أرجح، ويرجو أن تسبل على ذلك المغمز فضل ردائها، فلا يشعر به الناقدون، يبقي صورة المعنى على حالها، ويجيزها للرواة، وهو بصير بعلتها. ولا أخال أن النابغة حين قال:

نظرتْ إليكَ لحاجةٍ لم تقضِها

نظَرَ السقيم إلى وجوه العُوَّد

لم يخدش عاطفته أن يضع المحبوبة بمنزلة السقيم، ولكنه عزّ عليه أن يضرب عن هذا التشبيه الذي لا يلحق شأوه، وإن وخز لفظ السقيم في ضميره وخزات بالغة.

*‌

‌ التفاضل في التخييل:

أتينا في الفصل الذي كنا بصدد تحريره على الوجوه التي تفضل بها صور المعاني التخييلية؛ أعني: غرابة الجامع بين الأجزاء المؤلفة، ثم التوسع في الخيال، وبعده عن البساطة، مع الالتئام بالذوق السليم، فيصح لمن انتصب للموازنة بين الشعراء في التخييل، أن يتخذ هذه الوجوه مدخلاً للحكم، وأساساً يبني عليه في التفضيل.

تعقد الموازنة تارة بالنظر إلى معنى خاص يتناوله كل من الشاعرين، وهذا إما أن تتحد الواقعة فيه، أو تختلف. وتارة تجري في غرض خاص يصوره كل منهما بغير ما يصوره به الآخر، فهذه ثلاث حالات تضاف إليها حالة رابعة، وهي المفاضلة بين الشاعرين يختلفان معنى وغرضاً، وحالة

ص: 42

خامسة، وهي أن تقام الموازنة بين الشاعرين على أن يقضى لأحدهما بالأفضلية المطلقة.

الحالة الأولى: أعني: ما تعقد فيه الموازنة بالنظر إلى معنى خاص، والواقعةُ واحدة؛ كقول أبي عبدالله بن الزين النحوي يصف بركة نثر عليها الياسمين:

نثر الغلامُ الياسمينَ ببركةٍ

مملوءةٍ من مائِها المندفقِ

فكأنه نثر النجومَ بأسرها

في يوم صحوٍ في سماءٍ أَزرقِ

فإذا قسته بقول علي بن ظافر في هذه البركة نفسها:

زهرُ الياسمين ينثر في الما

ءِ أمْ الزهرُ في أديم السماء

ظلَّ يحكي عقودَ دُرٍّ على صد

رِ فتاةٍ في حُلَّةٍ زرقاءِ

رأيت كلاً من الشاعرين شبه الياسمين بالنجوم بادية في السماء، وتشبيه ابن الزين في هذا الوجه أجودة لأنه ذهب به الخيال إلى تفاصيل لم يأت عليها ابن ظافر، فإذا التفتَّ إلى تشبيه ابن ظافر في البيت الثاني، رأيت خطور هيئة النجوم والسماء عند مشاهدة الياسمين يطفو فوق الماء، أقرب من خطور عقود الدر تتقلدها الفتاة المتبرجة في حلة زرقاء، فيكون تشبيه علي بن ظافر أجودة لندرة المشبه به، وقلة ابتذاله بمشاهدة كل ذي عين باصرة. ولولا أن ابن الزين أسند نثر النجوم إلى الغلام، ونبّه على كرة الياسمين بقوله: نثر النجوم بأسرها - لانتفت عنه المزية، وكان تشبيهه من التخيلات الموضوعة في طريق كل من خطر على باله أن يذهب في تصوير المعنى من باب التشبيه. ومن هذا الضرب قول ابن المنجم يصف مطلع الهلال عند غروب الشمس:

ص: 43

وعشاءٌ كأنما الأفق فيه

لازوردٌ مرصَّعٌ بنضارِ

قلتُ دنت لمغربها الشمـ

ـسُ ولاحَ الهلالُ للنظّارِ

أقرض الشرق صِنْوَهُ الغربَ دينا

راً فأعطاه الرهنَ نصفَ سوارِ

مع قول ابن قلاقس، ولم يطلع على ما قاله ابن المنجم:

لا تظنّوا الظلامَ قد أخذ الشمـ

ـسَ وأعطى النهارَ هذا الهلالا

إنما الشرقُ أقرضَ الغربَ دينا

راً فأعطاه رهنَه خلخالا

فقد سار الشاعران في التخييل على طريق واحد، وزاد ابن المنجم على ابن قلاقس نظرة في السوار، فلم يأخذ منه إلا المقدار الذي يطابق حال الهلال، وهو الشطر، فكان تخيله أحكم وقعاً.

الحالة الثانية: وهي ما تكون الواقعة فيها مختلفة؛ كقول بعضهم:

خلقنا لهم في كل عينٍ وحاجبٍ

بسمرِ القنا والبيضِ عيناً وحاجبا

مع قول ابن نباتة:

خرقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيوناً لها وقعُ السيوفِ حواجب

فقد اتفق الشاعران على تصوير المعنى، وهو تأثير السيوف والرماح في أجسام الأعداء، ولكن تصوير ابن نباتة أجود؛ لأنه يزيد على الأول بما فيه من الإيماء إلى انهزامهم وتوليهم بظهورهم حتى تصنع فيها الرماح والسيوف عيوناً وحواجب.

ولا يغيب عنك أن تفضيل بيت ابن نباتة إنما يتم إذا تماثلت الواقعتان، أوكان كل من البيتين صادراًعن تخييل محض، وأما إذا قصد كل من الشاعرين وصف الواقع، وكان الأعداء المشار إليهم في البيت الأول لم ينهزموا، بل

ص: 44

ثبتوا للطعن في وجوههم إلى أن وقعوا في مضاجعهم، أو لم ينلهم السلاح بعد أن ولّوا مدبرين، لم يكن لك أن تفضل عليه بيت ابن نباتة من جهة التخييل، وإن أشار إلى معنى يعود إلى مدح قومه بالشجاعة والمهارة في الطعن والضرب.

ومن قبيل هذا الضرب: قول عبد الرحمن الفنداقي في وصف حال الندى، وتقاطره من زهر النرجس:

والندى يقطرُ من نرجسه

كدموعٍ أسكبتهن الجفون

وقول ابن زيدون في مثله:

نلهو بما يستميلُ العينَ من زَهَرٍ

جالَ الندى فيهِ حتى مالَ أعناقا

كأن أعيُنَه إذ عاينتْ أرقي

بكت لما بي فجالَ الدمعُ رقراقا

ومما يفضل به هذان البيتان على بيت الفنداقي: إيماؤهما إلى سبب إرسال الأزهار للمدامع، وهو معاينتها لأرق الشاعر، وإشفاقها عليه.

الحالة الثالثة: وهي ما يقصد الشاعران فيه إلى غرض واحد، ويختلفان في المعنى الذي يصورانه فيه، ومثال هذا: أن يكون الغرض وصف شخص بالندى، فيقع الاختلاف في الطريق الذي يقرر به هذا الوصف؛ كما قال بعضهم:

سألتُ الندى هلْ أنتَ حرٌّ؟ فقال: لا

ولكنَّني عبدٌ ليحيى بنِ خالدِ

فقلتُ: شراءً؟ قال: لا بل وراثةً

توارثني عن والد بعد والد

وقال الآخر:

ولما رأيت البحرَ في الجود آية

ومن جوده الدرُّ الثمين المقلدُ

سألته من في الناس علَّمك الندى

فقال أمير المؤمنين محمَّد

ص: 45

ومثل هذا مما يرجع بالتفضيل فيه إلى القوانين السابقة، فما كان أقل خطوراً على الذاكرة، أو أوسع نطاقاً في التخييل، أو ألذ وقعاً على الذوق، فهو المشهود له بمزية الرجحان. ومن الجليّ أن تشبيه الكريم بالبحر من المعاني التي وعاها كل قلب، وتناولها كل إنسان، فصاحب البيتين الأخيرين بنى محاورته على أمر اشتهر ذكره عند الحديث في هذا الغرض، وإنما زاد عليه شيئاً من التخييل، فتكون المحاورة الأولى أبدع؛ لأنها قائمة من أول حالها على شعور غريب، فضلاً عما امتازت به من الإيماء إلى دعوى قصر الندى على الممدوح، وهذا ما يجعلها أبلغ في الدلالة على ما يرمي إليه الشاعر من غرض الوصف بالسخاء.

ويدخل في هذا القسم قول عنترة:

ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ

منّي وبيضُ الهندِ تقطر من دمي

فوددت تقبيلَ السيوفِ لأنها

لمعت كبارقِ ثغرك المتبسمِ

مع قول بعضهم:

ولقد ذكرتُكِ في السفينة والردى

مُتوقَّعٌ بتلاطم الأمواج

وعلى السواحل للأعادي جولةٌ

والليلُ مسوَدُّ الذوائبِ داجي

فعلت لأصحاب السفينةِ ضجةٌ

وأنا وذكرُكِ في أَلذِّ تناجي

فغرض الشاعرين واحد، وهو أنهما ذكرا الحبيب في حال تقتضي لشدة هولها وعظم خطرها دهشة القلب، وتفرغه لانتظار الفرج، أو الاحتيال على وسيلة النجاة، وإنما يصح لنا أن ندخل للمفاضلة بين الشعرين إذا كانا من التخييل المحض، فنقول: إن شعر عنترة أبلغ؛ لأنه صوَّر ذكره للحبيب بوقوعه

ص: 46

في حال انتشاب الخطر به، حيث ترتوي الرماح وتقطر السيوف من دمه الذي هو مادة حياته، ثم تمنى زيادة الاتصال بالسيوف التي هي مهبط العطب، وشاقه أن يقبلها؛ لأن بريقها يخيل إليه ثغر المحبوبة حال تبسمها، وأما شاعر السفينة، فاقصى غمراته توقع الهلاك بما أحاط به من أسبابه القريبة، فمزية من تذكر الحبيب وقد أنشب به الردى مخالبه، أعظم من مزية من يتذكره وهو يبصر الخطر، ولم يبسط إليه يده، فإن كان كل من الشاعرين حكى واقعة عرضت له في حياته، فلا تفاضل بينهما إلا من جهة تأليف اللفظ وصفاء ديباجته.

الحالة الرابعة: وهي ما يختلف فيه الشعران معنى وغرضاً، وعقد المفاضلة في مثل هذا النوع قلَّما يخطر على بال الأديب، ولو قصد إلى ذلك، لوجد المسلك وعراً؛ إذ من المحتمل أن يكون كل من الشعرين ورد على أبدع غاية ممكنة في المقصد الذي سيق إليه، وإن كان أحدهما أوسع نطاقاً في الخيال. فلو نظرت إلى قول بشار:

كأنَّ مثارَ النَّقْع فَوْقَ رؤوسنا

وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه

سهل عليك الدخول إلى المفاضلة بينه وبين قول ابن المعتز:

وعمّ السماءَ النقعُ حتى كأنها

دخانٌ وأطرافُ الرماحِ شَرارُ

ولو عمدت إلى الموازنة بينه وبين قول أحمد بن دراج يصف حالة وداعه لزوجته وابنه الرضيع: تناشدني عهد المودةِ والهوى

وفي المهدِ مبغومُ النداء صغيرُ

عَيِيٌّ بمرجوعِ الخطابِ ولحظُهُ

بموقع أهواءِ النفوسِ خبير

ص: 47

أو قول بعضهم:

لئن بكيتُ دماً والعزمُ من شيمي

على الخليط فقد يبكي الحسامُ دما

لم تجد الطريق إلى التفضيل بينهما أمراً ميسوراً. وليس لك أن تعول على ابتهاج النفس واهتزازها، وتجعل تفاوته ميزاناً للتفاضل؛ لأن شدة الابتهاج لسماع الشعر قد تكون تابعة للعواطف والأهواء، فمن رقت عاطفته لولده الصغير حتى كاد قلبه يذوب لنظراته المكحولة بالتبسم، يهتز لقول أحمد بن دراج:"ولحظه بموقع أهواء النفوس خبير" بأشد مما يهتز لغيره، ومن لم يذق حلاوة العطف على البنين، وكان كلفاً بمواقع الحروب، مغرماً بالحديث عن آثارها، يلتذ ببيت بشّار أكثر من التذاذه ببيت ابن دراج وما ذكر بعدهما.

فلا أنكر أن يكون بين التخيلات المختلفة في المعنى والغرض فرق جليّ، وتفاوت واسع من جهة التركيب أو الغرابة، فيبني عليه الأديب حكمه بالتفضيل، وإنما أعني: أن الأشعار المتفقة في معنى أو غرض تجد المدخل للمفاضلة بينها سهلاً؛ إذ يتبين لك التفاوت بينها في التركيب، أو الغرابة من غير إطالة نظر، وعلى فرض اتحادها في ذلك، يمكنك الرجوع إلى وقعها على حاسة الذوق، وأخذها بالروح التي يتقوم بها المراد من الكلام، وأما الأشعار المختلفة في المعنى والغرض، فيتيسر القضاء فيها متى كان التفاوت بينها جلياً، فإذا كانت في مراتب متقاربة في الغرابة والتركيب، والتمكن من روح المعنى، أو الغرض الذي أفرغ فيها، فباب المفاضلة بينهما لا يطرقه إلا الماهرون في هذه الصناعة، حيث وصلوا إلى أن هذا الشعر لم يتجاوز في الغرض الذي عبّر عنه الدرجة الوسطى مثلاً، وأن الآخر انتهى في وجهته

ص: 48

إلى غاية ليس وراءها مرتقى.

وقد يكون مناط التخييل أمراً واحداً، ويختلف نظر الشاعرين بتوجه أحدهما إلى حال أو صفة قد أخذ نظر الآخر بغيرها، فيصير التخييل بهذا من قبيل التخييل في أمرين مختلفين في خفاء التفاضل بينهما، وهذا كما قال الوزير أبو فارس يصف النهر من جهة منظره:

فنضنضَ ما بين الغروس كأنه

وقد رقرقت حصباؤه حيةٌ رقطا

وقال أبو القاسم الأبرش يصفه من جهة خريره:

وأنَّ النهرَ يشكو من حصاه

جراحاتٍ كما أنَّ الجريحُ

وقد يجيد أحد شاعرين من جهة الغرابة، ويجيد الآخر من حيث التركيب؛ كقول الصنوبري يصف الشمعة:

كأنها عمر الفتى

والنار فيها كالأجل

مع قول الأرجاني يصفها أيضاً:

تنفست نفس المهجورِ إذ ذكرت

عهدَ الخليطِ فبات الوجدُ يذكيها

فإن تشبيه الشمعة حين تدب فيها النار، وتتناقص شيئاً فشيئاً إلى أن تذهب في الجو هباء منثوراً بعمر الفتى حين ينقضي ساعة فساعة إلى أن يلتقي الأجل بآخر نفس منه فيعود إلى الفناء- تشبيه أدق وأخفى من تشبيهها بصب ذكر عهد الخليط، فقدحت الذكرى في مهجته وجداً بات يحترق بلوعته الملتهبة، ولكن هذا التشبيه أوسع، نطاقاً وأحلى مساقاً.

وربما فاق أحدهما من جهة الغرابة، وفاقه الآخر من جهة المطابقة لحال المعنى؛ كقول ابن الخطيب يصف ليلة:

ص: 49

رعشت كواكبُ جوها فكأنها

وَرِقٌ تُقَلّبُها بَنانُ شحيح

وقول عنترة:

أراعي نجومَ الليلِ وهي كأنها

قواريرُ فيها زئبقٌ يترجرجُ

فتشبيه ابن الخطيب أدق وأخفى، وتشبيه عنترة أشد مطابقة لحال النجوم.

الحالة الخامسة: وهي ما يجري فيه تفضيل أحد الشاعرين على آخر بإطلاق، وهذا لا يستقيم إلا ممن أتى على معظم شعرهما، حتى عرف الذي يستوفي في تخيلاته شرائط الجودة أكثر من غيره، ولا سيما إذا اهتدى للمقايسة بينهما في كثير من المعاني أو الأغراض التي يتفقان في نظمها.

ومن الخطأ الحكم بتفوق شاعر على غيره لمجرد تخييل بديع يتفق له في بيت أو أبيات، فربما ترجح شاعر في معنى مرة، وفاقه غيره في معان أخرى، فلا يصح لك متى وقفت على قول ابن زمرك يصف البرق:

وجرَّد من غمد الغمامةِ صارماً

من البرق مصقولَ الصفيحةِ صافيا

ورأيته متوغلاً في الخيال أكثر من قول ابن الخطيب:

لك اللهُ من برق كأن وميضَه

يد الساهرِ المقرورِ قد قَدحتْ زندا

أن تقضي بتفضيل ابن زمرك على ابن الخطيب؛ إذ قد يكون لابن الخطيب تخيلات أخرى أدرك فيها شأواً لم يلحق ابن زمرك غباره، بل تجد له في هذا المعنى نفسه تخييلاً سبق فيه إلى الغاية القصوى، وهو قوله:

وميض رأى برد الغمامة مغفلاً

فمد يداً بالتبرأ علمت البردا

ومما يصدك أن تكتفي في تفضيل الشاعر بإجادته في البيت أو الأبيات: أنك ترى حازماً الأندلسي قد فاق ابن هانئ في وصف التقاء الصبح بآخر

ص: 50

الليل، حيث يقول الأول:

كأن بياضَ الصبحِ معصمُ غادةٍ

جنت يدها أزهارَ زهرِ الدجى لقطا

ويقول الثاني:

كأن عمودَ الصبح خاقانُ عسكر

من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى

وترى ابن هانئ يقول في وصف الثريا:

وولَّت نجومٌ للثريا كأنها

خواتيمُ تبدو في بَنان يدٍ تخفى

ففاق حازماً حين قال:

كأن الثريا كاعبٌ أزمعت نوى

وأمَّت بأقصى الغربِ منزلة شحطا

وقد لوحنا فيما سلف إلى بعض الأسباب التي تقوم للشاعر، فيفضل في بعض المعاني أو الأغراض من هو كفؤاً له، أو أرسخ منه قدماً؛ كالتفاوت في قوة الباعث على النظم، فمن يخاطب إنساناً وقد ماجت مهجته بعواطف وده الخالص، وأضرمت النوى في فؤاده شوقاً إليه، يقع على دفائن من المعاني يقف دونها من يخاطبه تقصياً من ملامة، أو تعرضاً لمسألة ليست بذات بال، ويضاف إلى هذا: أن أحد الشعراء قد يمتاز بمعرفة العناصر التي يؤلف منها المعنى، كما امتاز البارودي عن بعض أدباء عصره بمشاهدة الكهرباءوإشراقها في أجرام كروية، فقال يصف الثريا:

وكأنها أكرٌ توقَّد نورها

بالكهرباءةِ في سماوةِ مصنعِ

وقد يستوي الشاعران في الاطلاع على العناصر البسيطة، ولكن أحدهما يشاهدها مؤلفة في صورة لم يشهدها الآخر، فيساعده استحضار تلك الهيئة على انتزاع معنى لا يخطر على بال غيره، فصفوان بن إدريس الأندلسي عاش

ص: 51

في قطر يرى فيه المقلة الزرقاء تلوح عليها حمرة الرمد، فقال يصف الورد مفتحاً على شاطئ الخليج:

والورد في شطِّ الخليج كأنه

رمدٌ أَلَمَّ بمقلةِ زرقاء

ومن الشعراء من لم يأخذ في حافظته صورة المقلة الزرقاء وعليها مسحة من الرمد، كمن نشأ في ناحية الجنوب، وإنما رأى المقلة الرمداء، ولون الزرقة ينفرد أحدهما عن الآخر. وانظر إلى ابن الرومي- حين قال بعض اللائمين: لم لا تشبه تشابيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ ثم قص عليه تشبيهه للهلال بزورق من فضة وعليه حمولة من عنبر، وتشبيه الآذريون بمداهن من ذهب فيها بقايا غالية- قال ابن الرومي:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ذلك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا أنا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس.

وقد يتفق الشاعران في معرفة العناصر والهيئة المؤلفة، ويكون أحدهما أشد علقة بها، وكثر تردداً عليها، فيكون خطورها على قريحته أكثر من خطورها على قريحة من شاهدها مرة أو مرتين. كنت رأيت مرة الآلة المصورة، وعرفت كيف ترسم الصورة في زجاجاتها، ولم يسنح لي أن أستمد منها معنى خيالياً حتى نزل بجواري في بعض البلاد أحد المولعين بها، وتكررت ملاحظتي لها، فريثما جال في خاطري معنى الخطأ في فهم الحقيقة، هجمت على صورة الآلة والزجاجة، فقلت:

عذرتك إذ صوَّرت في نفسك الهدى

ضلالاً وصورتَ الضلال رشادا

فإن زجاجات المصوِّر تقلب الـ

ـسوادَ بياضاً والبياضَ سوادا

قد يستمد الشاعر من غيره تخييلاً يضيف إليه ما يوسع في نطاقه،

ص: 52

ولهذا ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون الأصل من المعاني النادرة، والزيادة تساويه في غرابتها، أو تنقص عنه، وهنا لا يكون صاحب الزيادة أرجح ممن أنشأ أصل المعنى قطعاً؛ إذ من المحتمل أن تنبهه لهذه الزيادة، وإدراجه لها في صورة المعنى إنما تيسر له من تلقيه لذلك الأصل الذي أقامه له الشاعر الأول؛ بحيث لا يكون في قريحته فضل قوة على تحصيل هذا الأساس بنفسه، ومثال هذا قول علي الكوفي يصف النجوم:

كأن التي حول المجرَّة أوردت

لتكرع في ماء هناك صبيب

وقول البارودي يصفها أيضاً:

وكأنهاحول المجرِّ حمائمٌ

بيضٌ عكفن على جوانب مشرعِ

فلم يزد البارودي عما خيل إليك الكوفي، سوى أن جعل تلك النجوم الواردة حمائم بيضاً.

ومن هذا القبيل قول المعتمد بن عباد يصف نهراً في روض:

ولربما سلَّت لنا من مائها

سيفاً وكان عن النواظر مغمدا

وقول أبي القاسم البخاري:

والنهر شقَّ بساطَ الروضِ تحسبه

سيفاً ولكنه في السِلْمِ مشهورُ

فهذا البيت أخذ في ضمنه معنى البيت الأول، وإنما زاد عليه بأن السيف مجرد في حال السلم.

ثانيها: أن يكون المعنى الأصلي غريباً، وتكون الزيادة أدلّ منه على البراعة، ويصح لك في هذا الحال أن تقضي بفضل الثاني؛ إذ في يدك ما ينهض

ص: 53

بالحجة على أن في قريحته قوة تمكنها من إنشاء الصورة من أصلها. ومثال هذا قول الخفاجي:

كأن الدجى لما تولت نجومه

مدبِّرُ حرب قد هَزَمْنَ له صفّا

وقول البارودي يصف الليل أيضاً:

متوشِّحٌ بالنيرات كباسلٍ

من نسل حامٍ باللجين مدرعِ

حسب النجوم تخلفت عن أمره

فوحى لهن من الهلالِ بأصبعِ

فإن كان البارودي قد تنبه إلى تشبيه الليل بأمير حرب من بيت الخفاجي، فقد زاد عليه ماهو أغرب منه؛ أعني: ظنه أن النجوم تخلفت عن أمره، ثم إشارته إليها بأصبع من الهلال.

ثالثها: أن يكون الأصل من المعاني التي تتناولها القرائح لأول لفتة؛ إذ أصبحت مبذولة ابتذال تمثيلك جميل الطلعة بالقمر، والمقدام بالأسد، ويسوغ لك بدون شبهة أن تعد التخييل فيما يرجح به وزن صاحب الزيادة البديعة، فالذين شبهوا الزهر بالدراهم كثير، ولكن ابن زمرك أضاف إلى ذلك أن جعل النسيم جابياً لها، فقال:

كأنما الزهر في حافاتها سحراً

دراهم والنسيم اللَّدْنُ يَجيبها

ومن المتداول تشبيه الأقاح بالثغور، وقد بنى عليه ابن رشيق أن جعل الشمس ترشف منه ريق الغوادي، فقال:

باكر إلى اللذات واركب لها

سوابقَ اللهوِ ذوات المزاحِ

من قبل أن ترشف شمسُ الضحى

ريقَ الغوادي من ثغورِ الأقاحِ

ومن المعهود تشبيه الليل بالغراب، فتناوله عبد الرحمن الفنداقي

ص: 54

الأندلسي، ورفعه في الحسن درجات، فقال:

وانبرى جنحُ الدجى عن صبحهِ

كغرابٍ طار عن بَيضٍ كَنين

وقد يذهب الشاعران إلى محاكاة أمر، فيحاكيه أحدهما ناظراً إليه بانفراده، ويحاكيه الآخر ناظراً إليه في حال اقترانه بأمور أُخرى، فلا يحق لك متى قايست بينهما، ورأيت الأول أحكم، أن تقضي لصاحبه بالرجحان؛ إذ قد تكون محاكاة الثاني إنما جاءتها الجودة من ملاحظة ما اتصل به من المعاني، ولولا هذه المقارنة، لم يقدم صاحبه على هذه المحاكاة. ربما تسمع أن أبا جعفر الأندلسي خيل أصوات الحمام في الصباح بالخصام، فيبدو لك أن تشبيهها بالغناء أو النواح أقرب إلى الجودة، وأشد مطابقة لحالها، ولكنك إذا وقفت على قوله:

فالصبحُ قد ذبح الظلامَ بنصله

فغدت تخاصمه الحمائمُ فيه

أدركت جودة التخييل التي أحرزها بما انضم إليه من تمهيد سبب الخصام، وهو اعتداء الصبح على الظلام، وقتله بالنصل ذبحاً.

يعدون في تخيلات (فكتور هيغو) تشبيهه الموج بالغنم، فإذا قيل لك: إن الشاعر العربي معروف الرصافي قد شبهه بالرجال، حسبت أنه وقع التشبيه إلى الحضيض، حتى إذا قرأت قوله يصف قصر البحر في بيروت:

كأن الموجَ في الدأما رجالٌ

وهذا القصر بينهم خطيبُ

تخاطبهم مبانيه فيعلو

من الأمواجِ تصفيقٌ رحيب

تيقنت أن الرجل قد ذهب في التخييل البديع إلى الدرجة القصوى. فتشبيه الموج بالغنم هو أحكم من تشبيهه بالرجال متى نظرت إليه مستقلاً،

ص: 55