الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جناحه، فلا يقدر أن يقوم بأعباء الحياة، أو يدرك فيها غاية شريفة إلا بمعاضدته، كما أن البازي لا ينهض إلى الطيران إلا إذا ساعده جناحه؛ فالقصد تمثيل حاجة الإنسان إلى ابن عمه بحاجة البازي إلى جناحه، وليس القصد الاستدلال حتى يلتحق ببيت أبي تمام المسوق فيما سلف للاستشهاد على التخييل الذي يراد منه المخادعة، وقول الدماميني:
فلا تعجبوا يوماً لكسر جفونها
…
فإن إناء الخمر في الشرع يُكسر
فالأسلوب في نفسه وارد في الغرضين، غير أن فحوى الكلام، ومجرى الخطاب، وطبيعة المعنى تصرفك إلى التمثيل، أو تأخذ بك إلى الاستدلال والتعليل.
وقد يعمد إلى أمرين يعدهما الناس بشدة التباين وغاية الاختلاف، فيعقد بينهما تشابهاً، وتجد هذا في قول المعري:
وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قيـ
…
س بصوت البشير في كل نادِ
أبكت تلكمُ الحمامةُ أم غَنْـ
…
نَتْ على غصن دوحها الميّاد
فالمعهود أن النفس ترتاع لصوت النعي، وتتفطر حزناً، وترتاح لصوت البشير، وتأنس له طرباً، ولكن الحكيم يغوص في أعماق الحوادث، وينظر إلى ما تصير إليه من العواقب، فيتراءى له أن ليس في الحياة ما يدعو إلى لذة، أو يستشير النفس إلى جزع، فتكون نغمة البشير وصيحة الناعي في أذنه سواء، ولا يرى فارقاً ما بين النواح والحداء.
*
حال المعنى والتخييل:
قد يصوغ الشاعر المعنى لأول الخطاب في صورة خيالية، فلا يدركه إلا من صفت قريحته، ورقت حاشية ألمعيته؛ ككثير من الأشعار الواردة على
طريق المعميات والألغاز، أو من سبق إليه ما يهديه إلى المراد، ويساعده على فهمه من قرينة حال أو مقال؛ كبعض المحاورات التي يقصد فيها المتخاطبان إلى إخفاء الغرض، وكتمه عمن يصغي إلى حديثهم، أو يطلع على رسائلهم.
وقد يصرح بالمعنى، ثم يدخل به في طريق التخييل، وهذا:
إما أن يخرج الصريح بالتخييل، فيفصل المعنى، ويضع بإزاء كل قطعة منه صورة خيالية؛ كما قال العتابي يصف السحاب:
والغيمُ كالثوب في الآفاق منتشرٌ
…
من فوقه طبقٌ من تحته طبقُ
تظنه مصمتاً لا فتق فيه فإن
…
سالت عزاليه قلت الثوب منفتق
إن معمع الرعد فيه قلت: منخرق
…
أو لألأ البرق فيه قلت: محترق
مثَّل الغيم الضارب في الأفق بالثوب المنشور، ثم أخذ يقرن كل حال من أحواله بما يقابلها من أحوال الثوب، فجعل إمساكه عن المطر مظنة الصحة والمتانة، وانسكاب الغيث من خلاله منبئاً بتفتقه، ومعمعة الرعد إعلاناً بانخراقه، ووميض البرق شظايا من اللهب تؤذن باحتراقه.
وإما أن يستوفى المعنى بالصراحة، ثم يأتي بمثاله الخيالي متواصل الأجزاء، وهذا كقول بعضهم:
رأيتكم تبدونَ للحرب عدة
…
ولا يمنع الأسلابَ منكم مقاتلُ
فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه
…
ولا يمنع الخرَّاف ما هو حاملُ
استقصى المعنى الصريح، وهو تظاهرهم بالأهبة للحرب، وقعودهم عن قتال عدوهم، وافتكاك ما سلب من حقوقهم، ثم ضرب له المثل على نسق واحد بالنخل يشرع نصالاً مسنونة من الشوك المتأهب للذود بها عمّا يحمل
من الثمار، فيعمد الخرّاف لها، ويجتنيها بأجمعها، دون أن يناله ذلك الشوك بأذى.
ومن أبدع ما جاء على هذا النمط: قول ابن رشيق القيرواني:
رجوتك للأمر المهم وفي يدي
…
بقايا أُمنّي النفس فيها الأمانيا
وساوفت لي الأيام حتى إذا انقضت
…
أواخر ما عندي قطعت رجائيا
وكنت كأني نازف البئر طالباً
…
لأجمامها أو يرجع الماء صافيا
فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه
…
ولا هي أعطته الذي كان راجيا
وإما أن يصرح لك بالمحل الذي يجعله مناطاً للحديث عنه، ثم يسوق القول كله على طريق التخييل؛ كقول بعضهم:
إني داياك كالصادي رأى نهلاً
…
ودونه هوة يخشى بها التلفا
رأى بعينيه ماءً عزَّ موردُهُ
…
وليس يملك دون الماء منصرفا
فقد أراك أول الشعر أنه يريد الحديث عن حاله مع المخاطب، ثم اطَّرد في مجال التخييل الذي أفاد به أن الحاجة تحثه على القرب منه، والخطر المعترض في سبيله ينصح له بالإحجام عنه.
ومن أبدع الوصف المنسوج على هذا المثال: قول شرف الدين التيفاشي:
أما ترى الأرض من زلزالها عجباً
…
تدعو إلى طاعة الرحمن كل تقي
أضحت كوالدة خرقاء مرضعة
…
أولادَها درَّ ثدي حافل غدقِ
قد مهدتهم مهاداً غير مضطرب
…
وأفرشتهم فراشاً غير ما قلق
حتى إذا أبصرت بعض الذي كرهت
…
مما يشق من الأولاد من خلق
هزت بهم مهدهم شيئاً تنبههم
…
ثم استشاطت وآل الطبع للخرق