الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ابن العميل راوية الشاعر مسلم بن الوليد، والبحتري تعلم الشعر من أبي تمام، ومهار الديلمي أخذ عن الشريف الرضي، وكان خلف الأحمر من الكوفيين يضع على ألسنة الشعراء شعراً، وكل شعر يشبه شعر الذي يضعه على لسانه، وكان حماد الراوية يعرف شعر القدماء والمحدَثين، وقال: لا ينشدني أحد شعراً قديماً أو حديثاً إلا ميزت بينهما.
روي أن الخليفة المهدي عقد مجلساً عاماً، وكان بالحضرة بشار بن برد، فدخل أبو العتاهية، وهنأ المهدي بالخلافة بقصيدته التي يقول فيها:
ولو رامها أحد غيره
…
لزلزلت الأرض زلزالها
ولولم تطعه بنات القلوب
…
لما قبل الله أعمالها
فالتفت بشار إلى شاعر بجانبه، وقال له: هل طار الخليفة من فراشه؟ يعني: طرب للأبيات.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: اتفقت مع عباس بن الأحنف على أنه إذا سمع شعراً بليغاً، أطرفني به، وأنا أفعل ذلك. فجاءني يوماً، وأنشد أبيات ابن الدمينة التي يقول فيها:
أإنْ هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى
…
على فَنَنٍ غضِّ النباتِ من الرندِ
وقد ترنح طرباً من حسنها.
وكان بعض الأدباء كثيراً ما يعجب بقول شوقي:
وللحرية الحمراء باب
…
بكل يد مضرجة يُدَقُّ
*
براعة الشعر عند الخلفاء:
وقد يدرك الخلفاء والملوك والوزراء براعة الشعر؛ لكثرة من ورد عليهم
من الشعراء، فيعرفون من يأتي بالمعنى الغريب، ومن يتخيل التخيل الرائع.
ويروى: أن الرشيد قال ليزيد بن مزيد: أتعرف من يقول فيك:
تراه في الأمن في درعٍ مضاعفة
…
لا يأمن الدهرَ أن يأتي على عجلِ
قال: لا يا أمير المؤمنين، لا أعرف قائله.
فقال الرشيد: قد بلغ هذا الشعر أمير المؤمنين، فرواه وأجازه، وأنت لا تعرف قائله؟! وقائله هو مسلم بن الوليد.
وقد يكون الخليفة أو الملك أو الوزير هو الذي يدرك بلاغة القصيدة؛ لكثرة ورود الشعراء لمجلسه، وتقريبه لهم؛ لنشر مفاخره ومآثره بين الناس، وإن لم يكن الشعر في مدحه.
روي: أن هشام بن عبد الملك قال لأهله وولده: ليقل كل واحد منكم أحسن ما سمع من شعر، فواحد يذكر شعر امرئ القيس، وآخر يذكر شعر الأعشى، وآخر يذكر شعر طرفة، وأكثروا حتى أتوا على محاسنهم.
فقال لهم: أشعرهم - والله - الذي يقول:
وذي رحم قلَّمت أظفارَ ضِغنه
…
بحلميَ عنه وهو ليس له حلمُ
وذكر الأبيات، وهي لمعن بن أوس المزني، وأعجب بها؛ لسلاسة لفظها، ودلالتها على خلق قلما نجد من يتصف به.
ويقال: إن الرشيد قال لمروان بن أبي حفصة: أنشدني مرثيتك في معن ابن زائدة، فأنشده إياها، فتأثر الرشيد وأجازه.
وكذلك يروى: أن الوزير جعفر البرمكي قال لمروان بن أبي حفصة: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده إياها، فتأثر من نظمها البليغ،
وأجازه عن مرثية قيلت في معن بن زائدة.
وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية مصلوباً، ورثاه ابن الأنباري بقصيدته التي يقول في طالعها:
علوٌ في الحياة وفي المماتِ
…
لحقٌ أنت إحدى المعجزات
وهرب من وجه عضد الدولة، ولما انتهت القصيدة إلى عضد الدولة، أمَّن الشاعرَ، وتمنى أن يكون هو المصلوب دون ابن بقية، وقيلت فيه هذه القصيدة.
ولما أنشد ابن الأنباري هذه القصيدة بمجلس الصاحب بن عباد، ووصل إلى قوله:
فلم أر قبلَ جذعك قبلُ جذعاً
…
تمكن من عناق المكرمات
قام الصاحب بن عباد، وقبَّله؛ لشدة إعجابه بالبيت.
وكان سيف الدولة يعجب من قول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهزولا
وينشده كثيراً. وهذا ما دعا أبا علي الفارسي أن يذكر البيت في كتاب "الإيضاح "، مع أنه ليس من عادته الاستشهاد بمثل قول أبي تمام السابق. وإعجاب الخلفاء والملوك والوجهاء بالقصائد التي يمدحون بها قد يكون من بلاغة الشعر، ويزيدهم طرباً أن يكون في ذكر مفاخرهم؛ كما ذكر أن مروان بن أبي حفصة أنشد بين يدي المهدي قصيدته التي يقول في طالعها:
طرقتك زائرةٌ فحيِّ خيالَها
…
حسناء تخلط بالجمال دلالها
فأنصت له المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً منها، حتى صار
على البساط؛ إعجاباً بما سمع.
ودخل أبو الفضل محمد بن شرف على المعتصم بالأندلس، ومدحه بقصيدته التي يقول فيها:
مطل الليلُ بوعد الفلق
…
وتشكّى النجمُ طول الأرقِ
هربت ريح الصبا مسك الدجا
…
فاستفاد الروض طيب العبق
فطرب المعتصم للقصيدة، وقضى له كل مطالبه، وهو (أي: أبو الفضل) صاحب القصيدة التي يقول فيها:
لم يبق للجور في أيامهم أثر
…
غير الذي في عيون الغيد من حور
ودخل ابن جناح على المعتضد بن عباد في اليوم الذي أعده للشعراء، وكان الشعراء لا يعرفونه، ويظنونه لا يجيد الشعر، فاتفقوا على تقديمه، فأنشده قصيدته الفائقة التي يقول في مطلعها:
قطَّعتَ يا يوم النوى أكبادي
…
ونفيتَ عن عيني لذيذَ رقادي
فلما انتهى منها، قال له: قد وليتك رياسة الشعراء، ولم يسمع من غيره في ذلك اليوم. وهذه القصيدة يقول فيها:
إن القريضَ لكاسدٌ في أرضنا
…
وله هنا سوقٌ بغيركساد
ودخل إبراهيم بن هرمة على المنصور، وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظاتٌ في خفايا سريرِه
…
إذا كرها فيها عقاب ونائل
فرفع الحجاب له وأقبل عليه.
وروي: أن عبد المؤمن بن علي مدحه أبو العباس التيفاشي بقصيدته التي قال في أولها:
ما هزَّ عطفيه بين البيضِ والأَسَلِ
…
مثلُ الخليفة عبد المؤمن بنِ علي
فأشار عليه أن يقتصر على هذا البيت؛ لأنه يغني عن بقية القصيدة.
ومدح عبد الرحمن الفنداقي الخليفة إدريس بن يحى بقصيدته التي يقول فيها:
أَلِبَرْقٍ لائح من أندرين
…
ذرفت عيناك بالماء المعين؟
ويقول:
ومصابيحُ الدجى قد طفئت
…
في بقايامن سواد الليل جون
وكأن الطلَّ مسكٌ في الدجى
…
وكأن الطل درٌّ في الغصون
والندى يقطر من نرجسه
…
كدموع أسكبتهن العيون
فرفع الخليفة الحجاب بينهما من شدة طربه بالقصيدة.
وقد يتفق الأدباء في فهم بلاغة البيت، ولكن ينظر كل واحد منهم إلى ناحية من المعنى، فيجعلها بالوجه الذي كان به البيت بليغاً؛ كما روي أن الشاعر أبا الحسن البقال سمع قصيدة إبراهيم الصولي، فاستحسنها، ولما وصل إلى قوله فيها:
رأى خلَّتي من حيث يخفى مكانهُا
…
فكانت قذى عينيه حتى تجلَّتِ
كرره استحساناً له. وكان بمرأى منه أبو الفرج الحسين الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني "، فأرسل إليه يقول له: أسرفت في استحسان هذا البيت، فأين موقع الصنعة فيه؟ فقال: قوله: "فكانت قذى عينيه حتى تجلت "، فقال صاحب "الأغاني " للرسول: قل له أخطأت، فالصنعة في قوله:"من حيث يخفى مكانها".