الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الشعر عند البلغاء:
وإنما يعتد البلغاء بالموزون إذا كان حسن التأليف، بارع التخيل، غريب المعاني؛ بحيث لا تحضر في ذهن كل ناظم، وتكون واردة في الغرض الذي سيقت إليه مورداً مقبولاً. وعلى قدر حسن السبك، وبراعة التخيل، وغرابة المعاني، وورودها في الغرض الذي سيقت إليه مورداً سائغاً، يرتفع الشعر في مرتبة البلاغة. والذي يكون مجرداً من هذه الغايات لا يسمى عند الأدباء شعراً، كما قال بعضهم:
إذا كنتَ لا تدري سوى الوزن وحده
…
فقلْ: أنا وزّانٌ ولست (1) بشاعرِ
ويشترط بعض البلغاء في الموزون: أن يكون مطابقاً للواقع. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وإنما الشعر عقلُ المرءِ يعرضهُ
…
على البريةِ إن كيْساً وإن حمقا
وإنَّ أشعر بيتٍ أنت قائُلهُ
…
بيتٌ يقال إذا أنشدته: صَدَقا
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"أشعرُ شعرائكم زهير، فإنه لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال".
وقال عمر بن عبد العزيز، لما دخل عليه جرير ليهنئه بالخلافة:"اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً".
ويدخل في قبيل بلاغة الكلام: المجاز العقلي واللغوي، مفرداً أو مركباً، والتشبيه والاستعارة والكناية والتعريض، ومستتبعات التراكيب،
(1) رواية "نفحات الأزهار"، مبحث: التهذيب والتأديب: وما أنا بشاعر.
وهي الوجوه التي يحسن بالمتكلم أن يراعيها عند الكلام، كما يستعمل في المتحدث عنه الموصول لدلالة الصلة على مدحه أو ذمه، ووجود هذه المعاني في الكلام هو الذي به ارتفاع شأنه، ولا يخرج به عن دائرة الصدق، وقد سلك القرآن والحديث بذلك مسلكاً بديعاً.
وهذا الشعر الوعر طرريقه، الصعب مركبه. وأشار إليه من يقول:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمُهْ
…
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُهْ
زلَّت به إلى الحضيض قدمُه
…
يريد أن يُعربَه فيعجِمُه
ومما يعده البلغاء من محاسن البيان: حسن التعليل، وهو أن يذكر المتكلم للأمر علة خيالية غير العلة الحقيقية المعروفة؛ كقول الشاعر في رثاء المصلوب:
ولما ضاق بطنُ الأرضِ عن أن
…
يضمَّ علاكَ من بعدِ الوفاةِ
أصاروا الجوَّ قبرك واستعاضوا
…
عن الأكفانِ ثوبَ السافياتِ
فإن العلة في قتله مصلوباً هي إرادة الانتقام منه، لا أنهم راعوا أن بطن الأرض لا يضم علاه بعد الوفاة.
وكقول بعضهم مترجماً عن الفارسية:
لو لم تكن نيةُ الجوزاءِ خدمته
…
لما رأيت عليها عِقْدَ منتطق
فإن انتطاق الجوزاء ثابت قبل وجود الممدوح.
والقول الفصل الذي يقصد به تقرير الحقائق؛ كالقرآن، والحديث النبوي لا يوجد فيه هذا النوع من حسن التعليل، وإنما البلغاء أجازوه، بل عدّوه من محاسن البديع، فإنه قريب من الاستعارة؛ حيث لا يستعمل إلا إذا كانت
الحقيقة معروفة عند السامعين. والذي لا يجوز باتفاق الأدباء: الكذب المحض؛ كقول أبي نواس:
وأخفتَ أهلَ الشِّرْكِ حتى إنه
…
لتخافك النطفُ التي لم تُخلقِ
ويقال: إن العتبي قال لأبي نواس: "ألا تخاف الله فتقول: وأخفت أهل الشرك؟ " إلى آخره. فقال أبو نواس: وأنت تقول:
ولم تزل دائماً تسعى بلطفك بي
…
حتى اختلست حياتي من يَدَيْ أجلي
فقال له: إنك تعلم أن هذا غير ذاك. والواقع أنهما يتحدان في الكذب.
ويرتفع شعر الشاعر في مراتب البلاغة إذا كانت فطرة الشاعر سليمة، وعاشر شاعراً قديراً؛ كالحطيئة، وأبي تمام، وبشار بن برد. واطلاع الإنسان على دواوين الشعراء يقوم مقام هذه الوسيلة، واطِّلاعه على ما يجري في عصره من معاني الحضارة.
قيل لابن الرومي: لم لا تشبِّه كتشابيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟. وذكروا له بعض تشابيه ابن المعتز، فقال: ذلك يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة. فانظروا إذا وصفت ما أعرفه أين يقع من الناس!!
وأن يعرف أدب لغة أخرى؛ فقد يكون فيها من التخييل والمعاني الغريبة ما لا يكون في اللغة العربية، وقد قدمنا قول الشاعر:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
…
لما رأيت عليها عقد منتطق
مترجماً من الفارسية.
وحدثني صديق لي: أن أحد التونسيين الذين لهم ولوع بالأدب العربي والأدب الفرنسي قال: وجدت في الأدب الفرنسي بيتاً من الشعر لم أجد معناه