الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"دع ذا"، أو نحوه، كما نرى هذا في شعر هاجى به قيسَ بن الخطيم إذ قال في أوائله:
ما كنت أدري بوشك بينهم
…
حتى رأيت الحدوجَ قد عزفوا
فغادروني والنفس غالبها
…
ما شفَّها والهموم تعتكف
دع ذا وعد القريض في نفر
…
يرجون مدحي ومدحي الشرف
والقصيدة التي افتتح بها ديوان حسان الذي بأيدينا، قصيدة هاجى بها أبا سفيان بن الحارث، وهي مصدرة بنحو عشرة أبيات من النسيب، وأولها:
عفت ذات الأصابع فالجواء
…
إلى عذراء منزلها خلاء
وقال بعد العشرة الأبيات متخلصاً إلى مخاطبة قريش وأبي سفيان بن الحارث:
عدمنا خيلَنا إن لم تروها
…
تثير النقعَ موعدُها كداءُ
يبارين الأعنَّة مُصعداتٍ
…
على أكتافها الأَسَلُ الظماء
تظل جيادُنا مُتمطِّراتٍ
…
تلطِّمهن بالخمُر النساء
ونقل عن حسان أن أبيات النسيب من هذه القصيدة قالها في زمن الجاهلية، ثم وضعها في أول هذه المهاجاة بعد الإسلام. ومن نظر في تلك الأبيات، وجد عليها طابع شعر حسان في الجاهلية.
*
الحكمة في شعر حسان:
من فنون الشعر التي برع فيها حسان: إرسال الحكم البالغة، ومن هذا الباب: قوله فيمن يوثق بصحبته من الإخوان:
أخلّاء الرخاء هم كثيرٌ
…
ولكن في البلاء هم قليلُ
فلايغررك خلة من تؤاخي
…
فمالك عند نائبة خليلُ
وكلُّ أخٍ يقول أنا وفيٌّ
…
ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خلٍّ له حَسَبٌ ودين
…
فذاك لما يقول هو الفعول
وقال مشيراً إلى أن الشباب محفوف بالأهواء، وناصحاً بعدم إطالته في كل أمر:
إنَّ شرخ الشباب والشَّعَر الأسـ
…
ـودَ مالم يعاص كان جنونا
وقال يحذر من عاقبة اتخاذ وسائل الكيد للنفوس المقبلة على شأنها:
وكم حافرٍ حفرةً لامرئ
…
سيصرعه البغيُ فيما احتفر
وقد تؤخذ الحكمة مما يقوله في الفخر؛ كقوله في بذل المال صيانة للعرض:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
…
لا بارك الله بعد العرض بالمال
أحتال للمال إن أودى فأجمعه
…
ولست للعرض إن أودى بمحتال
وربما أخذت الحكمة مما يقوله في المهاجاة؛ كقوله مشيراً إلى أن عاقبة الجبن والهرب من مواقع الدفاع ذل وهوان:
كرهوا الموتَ فاستبيح حماهم
…
وأقاموا فعل اللئيم الذليل
أمن الموت يهربون فإن الـ
…
ـموتَ موتُ النذال غير جميل
ومما يدخل في قبيل الحكمة، ويدل على جودة تخيله لاصطيادها: قوله يصف القول المزخرف للغرور به:
إني لأعجب من قولٍ غررت به
…
حلوٍ يمد إليه السمع والبصرُ
لو تسمع العصم من شم الجبال به
…
ظلت من الراسيات العصم تنحدر
كالخمروالشهد يجري فوق ظاهره
…
وما لباطنه طعمٌ ولاخبر
وكالسراب شبيهاً بالغدير وإن
…
تبغ السراب فلا عين ولا أثر
لا ينبت العشب عن برق وراعدة
…
غرّاء ليس له سيل ولا مطر
وخلاصة البحث: أن الشعر الذي تنسبه الرواية إلى حسان، ويوافق الرواية فيه النقد والفكر، هو شعر بالغ في براعة النظم، وجودة صياغة المعاني المرتبة التي هي أقصى ما بلغه الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام.