الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من شقائق النعمان.
ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق: قول الشاعر:
ترى الثيابَ من الكتان يلمحها
…
نورمن البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها (1)
…
والبدر في كل وقت طالعٌ فيها
أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت، فحاول التماس وجه يجعل ذلك الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصوّر طلعة القمر، وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادعى مبالغاً في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا: أن تعجّب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق.
ففي هذا التصرف ادعاء أن وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفرّ له من قبول التشبيه متى تحقق الوجه بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه، إنما هو دعوى أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعاً لوجهها المسمّى بالقمر على وجه المجاز.
*
ماذا نريد من التخييل
؟
يفهم من صريح المقالة الفلسفية: أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها: مفكِّرة، وعندما تنفلت منه يسمونها: مخيّلة.
(1) معاجرها: ثيابها.
وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس، فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة تصرفاً تصوغ به معنى مبتدعاً، سواء أذعن له العقل، أو تجافى عنه، لم يكونوا صنعوا شيئاً سوى تغيير الاصطلاح، وإدخال القسمين تحت اسم واحد.
واطلاق لفظ التخييل أو الخيال في صدد الحديث عن المعاني الصادقة، والتصورات المعقولة، لا يحط من قيمتها، أو يمس حرمتها بنقيصة؛ فإن علماء البلاغة أنفسَهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور الخاصة بالمشبّه به، ويثبته للمشبّه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: "أنشبت المنية أظفارها" تخييل، أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسّموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا أن يضربوالجميع تلك المباحث أمثلة من آيات الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة.
فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل، ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة حيث خصوا بهما ما لا يصادق عليه العقل، والمخالفة في الاصطلاح ما دامت الحقائق قائمة، والمقاصد ثابتة بحالها، لا يبعد تبديل العبارة أو الاسلوب.
يقول الناس عندما يسمعون بيتاً أو أبياتاً لأحد الشعراء: "هذا خيالٌ واسغٌ" أو: "هذا تخيُّلٌ بديعٌ"، فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها: أن لصاحب هذا الشعر قدرة على سبك المعاني، وصوغها في شكل بديع.
ولو قالوا: "ما أضيق هذا الخيال! "، أو:"ما أسخف هذا التخيُّل! "، فهم السامع أن ليس له قدرة على إخراج المعاني في صورة مبتكرة.
فيصح لنا أن نأخذ هذا المعنى الذي يحضر في الذهن عند سماع تلك الجمل، ونشرح به معنى المخيلة، فنقول: هي قوة تتصرف في المعاني؛ لتنتزع منها صوراً بديعة.
وهذه القوة إنما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق الحس أو الوجدان، وليس في إمكانها أن تبدع شيئاً من عناصر لم يتقدم للمتخيل معرفتها، ومثال هذا من الصور المحسوسة: أن قدماء اليونان رمزوا إلى صناعة الشعر بصورة فرس له جناحان، وهي صورة إنما انتزعها الخيال بعد أن تصور كلاً من الفرس والطير بانفراده.
وقد يجول في خاطرك عندما تمر على قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي
…
ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أَغوالِ (1)
أن هذا الشاعر قد تخيل الأغوال وأنيابها، ولم تسبق له معرفة بها، إذ لا أثر للغول وأنيابها، ولا لشيء من موادها في العيان، فيلوح لك أن هذا التصرف يقدح في قولنا: إن المخيّلة لا تؤلف الصور إلا من مواد عرفتها بوسيلة الحس أو الوجدان.
والذي يكشف الشبهة: أن كلاً من الغول وأنيابها صورة وهمية، ولكن لم يحدثها الخيال من نفسه، بل أخذ من الحيوانات الفظيعة المنظر أعضاء متفرقة، وأنياباً حادة، وتصرف فيها بالتكبير، ثم ركَّبها في صورة رائعة، وهي
(1) المشرفي: السيف.