الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة علم البلاغة (1)
*
المحاضرة الثانية:
أتينا في المحاضرة الأولى على بداية علم البيان، وسقنا ليلتئذ الشواهد على أن ثروة من هذا الفن قد تجمعت من أقوال البلغاء، ومباحث علماء العربية، فكانت كالأساس تقام عليه علوم البلاغة بحثًا وتأليفًا، وعطفنا في أثناء تلك المحاضرة على نقد ما يدعيه أحد المحاضرين من أن البيان العربي نشأ من ملاحظات علماء الكلام، وأن علماء الكلام تأثروا فيه بما كان يصل إليهم، من الفلسفة والبلاغة اليونانية.
وسبق لنا أن المحاضر انتزع شبهة من قدامة بن جعفر الذي كان عارفاً باللسان اليوناني، ثم أسلم، وألف في البيان العربي كتابيه:"نقد الشعر"، "ونقد النثر"، فادعى أن قدامة أخذ ما كتبه في النقد من بيان اللغة اليونانية، وناقشناه في هذه الدعوى بأن ليس فيما كتب قدامة ما يشعر بأنه مأخوذ من بيان لغة أخرى.
والقصد من محاضرة هذه الليلة: أن ننبه في شيء من التفصيل على أن قدامة قد استمد ما كتبه في النقد من آداب اللغة العربية، وأقوال بلغائها، ونمر
(1) المحاضرة الثانية للإمام في نشاة علم البلاغة ألقاها في نادي جمعية الهداية الإسلامية، ونشرت في الجزأين الثاني والثالث من المجلد الثاني - مجلة "الهداية الإسلامية".
على كلمات ألقاها المحاضر كشُبه يحاول بها تقرير تلك الدعوى المضروبة في قالب الخيال.
عرضنا على حضراتكم فيما سلف: أن أول من ألف في فن البيان مستقلاً هو عبد الله بن المعتز، وأنه أورد فيما ألف سبعة عشر نوعاً مما يسمونه: البديع، ثم جاء قدامة، وتكلم فيما كتب على عشرين نوعاً، اشترك مع ابن المعتز في سبعة أنواع، وانفرد عنه بثلاثة عشر نوعاً.
لندع السبعة الأنواع المشتركة في ناحية - وهي: الجناس، والطباق، والالتفات، والتشبيه، والمبالغة، والاستعارة (1)؛ إذ ادعاء أن قدامة أخذها من بيان اليونان لا يقبل في حال. وإذا نظرنا إلى ما انفرد به قدامة، نجده يقتدي فيه بأقوال البلغاء، أو علماء العربية، وإليكم الشاهد على ما نقول:
انفرد قدامة بالنوع الذي يسمّى: (صحة التقسيم)، وهو أن يبتدئ الشاعر أو الخطيب، فيضع أقسامًا، فيستوفيها، ولا يغادر قسمًا منها، وكان هذا النوع معروفاً عند علماء العربية من قبل قدامة، وقد ذكره الجاحظ في حد البلاغة عند اليونان، فقال: وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ فقال: "تصحيح الأقسام، واختيار الكلام". ونحن نجد في كتب الأدب ما يدلنا على أن العرب قد عرفوا هذا الوجه من حسن البيان، ومن هذه الدلائل ما يروونه من أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه سمع قول زهير:
وإنّ الحق مقطعه ثلاث
…
يمين أَو نفار أو جلاء
(1) على أن قدامة لم يتحدث عن الاستعارة في نقد الشعر إلا بقوله في المعاظلة: ولا أراها إلا فاحش الاستعارة.
فأعاد عمر البيت متعجباً من تفصيله بين الحقوق، وإقامة أقسامها. وينبه لهذا النوع ما حكاه قدامة نفسه من أنه أنشد في حضرته رجل من بني حنيفة قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثُهم
…
من العبيد وثلث من مواليها
وقيل للرجل: من أيهم أنت؟ فقال: أنا من الثلث الملغى! فقد عرف العرب من قبل قدامة أن إقامة الأقسام من حسن البيان، وأن الإخلال بواحد منها وصمة تقف به دون حد البلاغة.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمّى: "صحة المقابلة". وملاك هذا النوع: المواخاة بين المعاني، ولم يكن قدامة بالذي تحدث عنه في كلام العرب حديثاً لا سلف له فيه، فما نقرأ في كتب الأدب ككتاب "الأغاني"، و"موشح" المرزباني: أن نصيباً، والكميت، وذا الرمة اجتمعوا، فأنشد الكميت:
أم هل ظعائن بالعلياء رابعة
…
وإن تكامل منها الدَّلُّ والشنَبُ
فعقد نصيب واحدة، فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ فقال: خطأك؛ فإنك تباعدت في القول، فأين الدل من الشنب؟! ألا قلت كما قال ذو الرمة:
لَمياءُ في شفتيها حُوة لَعَسٌ
…
وفي اللثاة وفي أنيابها شنبُ
وقد ذكر قدامة نفسه أن الأدباء كانوا يعيبون قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوية
…
ولكنها نفس تساقط أنفسا
حيث جعل "سوية" في مقابلة "تساقط أنفسا"، قال: ولهذا غيّروها وأبدلوهاب "جميعة"؛ لأنه الذي يقع في مقابلة "تساقط أنفسا".
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "المساواة"، وهو أن يكون اللفظ
مساوياً للمعنى حتى لا يزيد عليه، ولا ينقص منه، وللأدباء من قبل قدامة حديث في هذا الشأن، وقدامة نفسه يقص علينا أن بعض الكتاب قال في وصف أحد البلغاء:"كانت ألفاظه قوالب لمعانيه"؛ أي: أنهما متساويتان لا تزيد إحداهما على الأخرى.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "الإيغال"، وهو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل أن يبلغ مقطع البيت، ثم يأتي بالمقطع، فيزيد معنى آخر يزداد به الغرض حسناً وبيانًا. وهذا النوع قد تحدث عنه علماء الأدب من قبل قدامة، وقدامة نفسه يقص علينا أن التوزيَّ قال للأصمعي: من أشعر الناس؟ فقال: من يأتي بالمعنى الخسيس، فيجعله بلفظه كبيراً، أو الكبير، فيجعله بلفظه خسيسًا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها، أفاد بها معنى، قال: قلت: نحو من؟ قال نحو ذي الرمة حيث يقول:
قف العيس في أطلال ميّة فاسألِ
…
رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتم كلامه بالرداء، ثم قال:"المسلسل"، فزاد شيئاً بقوله: المسلسل.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "ائتلاف القافية"، وهو أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من المعنى، وملائمة له. وقد سبق إلى التنبيه على العناية بشأن القافية شبيب بن شيبة حين يقول:"وحظ جودة القافية -وإن كانت كلمة واحدة- أرفعُ من حظ سائر البيت". وكذلك يقول بشر بن المعتمر: "فإن كانت القافية لم تحل مركزها، وكانت قلقة في مكانها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها".
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "إشارة"، وهو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معان كثيرة يدل عليها بايماء، وقد سبقه إلى التنبيه على هذا النوع
أستاذه المبرد إذ قال في كتاب "الكامل": "من كلام العرب: الاختصار المفهم، والإطناب المفحم، وقد يقع الإيماء إلى الشيء، فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه". وساق عليه من الشعر أمثلة، وقدامة نفسه ينقل لنا أن بعضهم، وهو خلف الأحمر، وصف البلاغة، فقال:"في لمحة دالة". ويشابه هذا قول خلف أيضاً: "إن كلام العرب أوعية، والمعاني أمتعة، فربما جعلت ضروب من الأمتعة في وعاء واحد".
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "الارداف"، والإرداف من وادي الكناية؛ فإنه يسوق في أمثلته:"بعيدة مهوى القرط"، وقول امرئ القيس:
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضُّل
والكناية تحدَّث عنها ابن المعتز، ومن تقدم ابن المعتز؛ كالجاحظ، والفراء، وقدامة نفسه يقول: ومن هذا النوع ما يدخل في الأبيات التي يسمونها: "أبيات المعاني (1) ". ونحن نعلم أن ابن قتيبة ألف فيها مجلداً حسناً.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "التمثيل"، وهو أن يريد الشاعر معنى، فيضع كلاماً يدل على معنى آخر، وذلك الكلام ومعناه ينبئان بما أراد الإشارة إليه.
وإذا نظرنا إلى الأمثلة التي ساقها قدامة، وأبو هلال العسكري على
(1) أبيات المعاني من الشعر ما يقع فيه الإبهام من جهة معانيه، وسميت أبيات المعاني؛ لأنها لا تفهم لأول الأمر، بل تحتاج أن يسأل عن معانيها. ومن أمثلتها:
قد وسموا إبلهم بالنار
…
والنار قد تشفي من الأوار
يريد: أنهم أهل عزة ومنعة، فراعي إبلهم يسقي الإبل، ولا يزاحمه أحد من أجل سماتهم الخاصة التي عليها.
هذا النوع، وجدنا فيها ما يرجع إلى الاستعارة بالكناية؛ كقولهم:"نقي الثوب"، أو إلى ما يكون وجه الشبه فيه منتزعاً من هيئة؛ يقول الشاعر:
ألم تك في يمنى يديك جعلتني
…
فلا تجعلَنِّي بعدها في شمالكا
ومن بحثوا في الاستعارة، وعرفوا وجه الشبه فيما يضرب من الأمثال، يعد تمثيل قدامة في متناول مباحثهم، ومن أيسر معلوماتهم.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى بالتصريع، وهو أن يقصد الشاعر إلى مقطع المصراع الأول من البيت الأول في القصيد، فيجعله موافقاً للقافية، وقد سبقه الناس إليه، وهذا أبو تمام يقول:
وتقفو إلى الجدوى بجدوى وإنما
…
يروقك بيت الشعر حين يصرَّع
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسمى: "صحة التفسير"، وهو أن يضع القائل معاني، ثم يذكر أحوالها من غير أن يعدل عنها، ولا يزيد عليها، ولا ينقص منها، ومثاله: قول صالح بن جناح اللخمي:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجمٌ
…
ولي فرس للجهل بالجهل مسرجُ
فمن رام تقويمي فإني مقوَّمٌ
…
ومن رام تعويجي فإني معوَّجُ
ونحن نعلم أن للبلغاء والأدباء في نقد الشعر من حيث عدم مناسبة بعض أجزائه لبعض قصصاً متعددة، وقدامة نفسه يدلنا على أن الأدباء من غيره يعرفون هذا النوع من حسن البيان، فإنه يذكر لنا أن شاعرًا أنشد جماعة من الشعراء قوله:
فيا أيها الحيران في ظُلم الدجى
…
ومن خاف أن يلقاه بغيٌ من العدا
تعال إليه تلق من نور وجهه
…
ضياء ومن كفيه بحراً من الندى
فشعر بعضهم بما في البيتين من العيب، وهو أن قوله:"ومن كفيه بحراً من الندى" إنما يناسب الخوف من الفقر والخصاصة، لا مخافة البغي من العدا.
وإذا كان أصل النوع معروفاً عند الأدباء، ففضل قدامة في أن وضع له حداً، وسماه: صحة التفسير.
وانفرد قدامة بالنوع الذي يسميه: "التوشيح"، وهو أن يكون أول البيت شاهداً بقافيته، وقد سبقه إلى هذا أستاذ علماء العربية الخليل بن أحمد، فإنا نقرأ في كتب الأدب؛ "كالعقد الفريد": أنه قيل له: أي بيت تقول العرب أشعر؟ فقال: البيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته، وما كان من قدامة إلا أن سماه: التوشيح، وسماه غيره:"التسهيم"، وقيل: إن الذي سماه: التسهيم هو علي بن هارون المنجم المولود سنة 277، المتوفى سنة 352، وأما ابن وكيع، وهو أبو محمد الحسن ابن علي المتوفى سنة 393، فيسميه المُطمع.
هذا ما كتب فيه قدامة من وجوه البديع، وكذلك الشأن فيما بحث فيه من العيوب.
تجدونه يورد في عيوب ائتلاف اللفظ والوزن: "الحشو"، وقد بحث الأدباء في هذا من قبله، ومما ينقل في هذا: أن حماد بن إسحاق الموصلي يقول في بيت من شعر أبيه إسحاق، وهو:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
…
إذا دنت الديار من الديار
قد عابوا عليه قوله: "يوماً" بأنه حشو.
وتجدونه يورد في عيوب المعنى: "التناقض"، وقد تحدث عنه الأدباء من قبله، فهذا مسلم بن الوليد عاب قول أبي نواس:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
…
وأملَّه ديك الصباح صياحا
وقال له: كيف ارتياح وملل؟!.
وهذا أبو نواس عاب قول مسلم بن الوليد:
عاصى الشباب فراح غير مفند
…
وأقام بين عزيمة وتجلد
وقال له: هذه مناقضة، قلت:"فراح"، ثم قلت:"فأقام".
وقدامة نفسه يعترف بأنه سبق إليه إذ يقول: وقد أنكر الناس وعابوا قول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
…
بلى وغيّرها الأرواح والديم
وتجدونه يورد في عيوب اللفظ: "الحوشي"، وهو أن يرتكب الشاعر ما لا يستعمل ولا يتكلم به إلا شاذًا، وهذا مما سبقه إلى إنكاره البلغاء، ومن كلام المأمون في وصف البليغ:"ولا يتعمد الغريب الوحشي، ولا الساقط السوقي"، وقدامة نفسه يحكي قول عمر بن الخطاب يمدح شعر زهير:"كان لا يتبع حوشي الكلام".
وتجدونه يورد في عيوب الغزل: أن يأتي فيه الشاعر جفاء لا يلائم دعوى العشق والغرام، وهو مسبوق بهذا النوع من النقد؛ فإنا نقرأ في "الكامل" للمبرد: أن كثيراً عاب قول الأحوص:
فان تصلي أصلك وإن تعودي
…
لهجر بعد وصلك لا أبالي
وقال له: لو كنت من فحول الشعراء، لباليت، هذا قلت كما قال هذا - يعني: نصيباً -:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب
…
وقيل إن تملِّينا فما ملَّكِ القلبُ
وقدامة نفسه يقص علينا أن أبا السائب المخزومي أنشد قول أبي إسحاق
الأعرج:
فلما بدا لي ما رابني
…
نزعت نزوعَ الأبي الكريم
فقال: والله! ما أحبها ساعة قط.
وتجدونه يورد في عيوب الوزن: "القلب"، ورسمه بقوله: هو أن يضطر الوزن الشاعر إلى إحالة المعنى وقلبه إلى خلاف ما قصد به، وقد تحدث أهل العلم من قبله عن القلب، فهذا ابن قتيبة ينشد في "أدب الكاتب" قول النابغة الجعدي:
حتى لحقنا بهم تعدو فوارسنا
…
كأننا رعن قف يرفع الآلا
ويقول: هذا من المقلوب، أراد كأننا رعن قف يرفعه الآل.
وصفرة القول في هذا البحث: أن من أمتع النظر في كتب الأدب وعلم العربية، لا يثق بأن قدامة استمد في كتاب "النقد" من أصول البيان في لغة اليونان. وليست الوجوه التي انفرد بها عن ابن المعتز سوى فنون البيان العربي تستخرج من الألفاظ العربية.
وصف المحاضر قدامة بأنه قرأ فلسفة أرسطاطاليس وشعره وخطابته، ثم خرج إلى الحديث عن الخطابة عند أرسطو، وذكر انها تنقسم عنده إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: الخطابة، والعلاقة بينها ويين المنطق، وتقسيم الخطابة، والكلام عن الخطيب، وعن البحث الذي تدور عنه الخطبة.
ثانيها: الجمهور، أو الذي يحاول الخطيب أن يؤثر فيهم. ثم قال
المحاضر: ولم يأخذ العرب من هذين القسمين شيئاً، أو أخذوا أشياء غامضة نلمحها لمحًا فيما نقرأ من الكتب المختلفة عندما يقولون:"لكل مقام مقال".
يرى المحاضر أن الثقافة العربية تقصر عن أن تدرك أن لكل مقام مقالاً حتى يترجم لها ما تحدث به أرسطو عمن يحاول الخطيب التأثير فيهم!
لم تقصر الثقافة العربية عن أن تقول: "لكل مقام مقال"؛ فإن هذه الحكمة واردة في الأمثال العربية، ساقها الميداني في "مجمع الأمثال"، والزمخشري في "المستقصى"، وجاءت في شعر عربي صحيح، ذلك الشاعر هو الحطيئة - ولا أخاله يعرف أن لأرسطو شعراً وخطابة - إذ يقول متعطفاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:
تحنَّنْ عليَّ هداك المليك
…
فإن لكل مقام مقالا
ثم ذكر المحاضر القسم الثالث من أقسام الخطابة، وتعرض لما تحدث به أرسطو عن أنواع من البيان؛ كالتشبيه، والاستعارة، وأنواعهما، ثم استغرب أن يكون مذهب أرسطو هو مذهب العرب في البيان.
نحو التشبيه والاستعارة أمر يشترك فيه الناس على اختلاف أجيالهم ولغاتهم، وهذا عبد القاهر الجرجاني يقول في "أسرار البلاغة":"التشبيه والاستعارة أمر يستوي فيه العربي والعجمي، وتجده في كل جيل، وتسمعه من كل قبيل".
وتحدث ابن الأثير عن المطابقة، وقال:"هذا النوع من الكلام لم تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات، ومما وجدته في لغة الفرس: أنه لما مات قباد أحد ملوكهم، قال وزيره: "حركنا بسكونه"، وأول كتاب "الفصول" لأبقراط في الطب: "العمر قصير، والصناعة طويلة"، وهذا الكتاب على لغة اليونان".
قال ابن أي الحديد في التعليق على قول ابن الأثير هذا: "أليس كل قبيلة وكل أمة لها لغة تختص بها؟! أو ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس من المعاني؟! فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين، فلا بد لصاحب ذلك الخاطر، سواء كان عربياً أو فارسياً، أو زنجياً أو حبشياً، أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة، وهذا أمر يعم العقلاء كلهم".
وإذا توافقت لغتان في بعض الخصائص، كان من الجائز أن تتشابه مذاهب الكاتبين في هذه الخصائص من علماء اللغتين، دون أن يستمد هؤلاء مما كتب هؤلاء.
قال المحاضر: "ثم يعرض أرسطاطاليس إلى أجزاء الخطبة، فيرى أن تقسم إلى أجزاء يحسن الوقوف عندها، وقد أخذ العرب بذلك؛ فإنا نجد أبا هلال العسكري يقرر ذلك، ويسميه: الازدواج، ويمثل له بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] ".
إذا كان هذا النوع من محاسن البيان شائعاً في كلام العرب، فما الذي يمنع من أن يكون علماء العربية أدركوا حسنه، فأدخلوه في جملة محاسنها، وسموه: الازدواج، وإذا كان حسنه مما يدرك بالطبع، فلمَ لا يكون طبع الباحث في العربية صافياً كطبع أرسطاطاليس، فلا يفوته أن يتنبه لهذا الوجه من الحسن؟!.
على أن الازدواج معروف بهذا الاسم من قبل أبي هلال العسكري؛ فإنا نرى الجاحظ قد عقد في كتاب "البيان" فصلاً عنوانه: (باب: مزدوج الكلام) أورد فيه جملاً تنتظم في هذا السلك، وقال في هذا الكتاب: "ونحن -أبقاك الله- إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن
المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب".
وأذكر في هذا الصدد: أن ابن الأثير قد نفى أن يكون مما ذكره حكماء اليونان في المعاني الخطابية فائدة في بلاغة اللغة العربية وبيانها، فقال في "المثل السائر":"إن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك: حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كلي لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم -يعني: علم البيان-، ولا يفتقر إليه؛ فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه، ولا يخطر بباله، ومع هذا، فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعراً، أو تكلم نثراً".
وذكر ابن الأثير أن أبا نواس، ومسلم بن الوليد كغيرهم من الشعراء والكتاب لم يكن لهم علم بما ذكره علماء اليونان، ثم قال: "فإن ادعيت: أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان، قلت لك في الجواب: هذا باطل بي أنا؛ فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان، ولا عرفته، ومع هذا، فانظر إلى كلامي، فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب.
وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي، وهي عدة مجدات، وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني، علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم - من النظم والنثر - بنجوة من ذلك كله؛ لأنه لا يحتاج إليه أبداً".
فإذا لم نقبل دعوى أن البيان العربي مأخوذ من البيان اليوناني، فلأن صاحب هذه الدعوى لم يسندها إلى بينة:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها
…
بيناتٍ أبناؤها أدعياء
ولا ننكر - مع هذا - أن يكون الأدب العربي قد اكتسب من بعض اللغات العجمية معاني أضافها إلى ما عنده من المعاني البديعة؛ كأمثلة الكتابة التي يقال: إن عبد الحميد الكاتب قد نقلها من الفارسية إلى العربية، والجاحظ يرتاب في أمثال هذه الرسالة، فقال في كتاب "البيان والتبيين":"ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي بأيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، وإذا كان مثل ابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عبيد الله، وعبد الحميد، وغيلان، وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير".