الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك الشأن في سائر الصناعات؛ فإنها تُعِدّ النفس لعمل خاص. ثم إن الناس يكونون فيها على درجات متفاوتة متفاضلة.
وإنما قال: "في كل واحد من الأشياء المفردة"؛ لأن الخطابة تتناول كل العلوم والفنون، ويسوغ لها أن تدخل في كل شيء، صغيرًا كان أو كبيراً، معقولاً كان أو محسوساً. ومن هنا قال الباحثون في شؤونها: يلزم الخطيب أن يكون ملمًّا بالعلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائبًا إلى أن يزداد في كل يوم علماً.
أما الخطابة في لسان الأدباءِ والبلغاء، فهي إلقاء الكلام المنثور، سجعاً أو مرسلاً؛ لاستمالة السامعين إلى رأي، أو ترغيبهم في عمل، وهذا ما يريدونه عندما يذكرون الخطابة، ويقولون: فلان يقوم على الخطابة أكثر مما يقوم على الكتابة.
والخطابة عند هؤلاء - وإن كانت تعتمد على الأقوال المظنونة أو المقبولة - قد يدخل فيها ما يسمى عند المناطقة: برهانًا، قال صاحب "المناهج الأدبية": والأقوال الصادقة يقينًا لا تقع في الخطابة من حيث إنها خطابة، فإن ألمَّ بها الخطيب، فقد عدل بالخطابة عن أصلها. وربما أتى الخطيب على أقوال مموهة؛ أي: ذات جمل تشبه ما يكون صادقاً، وليست في نفسها صادقة، أو ذات هيئة تشبه ما يكون صحيحاً، وليست في نفسها بصحيحة، قال مالك ابن دينار: رأيت الحجّاج يتكلم على منبره، ويذكر حسن صنيعه لأهل العراق، وسوء صنيعهم له، حتى إنه صادق مظلوم.
*
شرف الخطابة:
تشرف العلوم والصنائع بمقدار ما تشرف غاياتها. وللخطابة غاية ذات
شأن خطير، وهي إرشاد الناس إلى الحقائق، وتشويقهم إلى ما ينفعهم في هذه الحياة وفي تلك الحياة. والخطابة معدودة في وسائل السيادة والزعامة، سمع الإِمام علي بن أبي طالب زيادًا يخطب - وكان زياد لا يدعي يومئذ لأبي سفيان -،فقال: لو كان هذا الفتى قرشياً، لساق العرب بعصاه. وكانوا يعدونها شرطاً للإمارة، ألا ترون إلى عبد الله بن زياد - وكان خطيباً على لكنة في لسانه - كيف يقول: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البرد، والتشرُّف للخطب.
وقد عني الإِسلام بالخطابة إذ شرعها في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج، شرع الخطابة وما شرعها إلا ليتولاها ذو نباهة وعلم وبلاغة.
يتولاها ذو نباهة؛ ليكون بصيراً بما يطرأ على نظام الجماعة من خلل، وبما ينصبه أعداؤها من مكايد، وبما يبيته منافقوها من تضليل. يتولاها ذو علم حتى يفرق بين المعروف والمنكر، ويميز الأوهام من الحقائق، ويكون إرشاده مملوءاً بالمواعظ الحسنة، والحكم السامية.
يتولاها ذو بلاغة؛ ليختار من أساليب البيان ما تألفه الأذواق، وتنفتح له الصدور. وكذلك كانت الخطابة يوم كانت اللغة في حياتها الزاهرة، وكان الخطباء كما ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
ففي الخطابة شرف عظيم، وشرفها في أن يكون القائم عليها نبيهاً عالماً بليغاً.
قد يبلغ الخطيب بحذقه في فنون البيان أن يريك الباطل في صورة الحق، ويخيل إليك الشقاء سعادة. وهذا لا يزري بقدر الخطابة، وإن هي إلا ككثير من وسائل الخير التي قد يذهب بها بعض الناس في غير مذهبها، ويصفها فيما ليس من شأنها، ومثلها في هذا مثل السيف تهزه يد العدل لتضرب به الباطل