الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بممارسة كلام البلغاء، والتنبه لما تكنه تراكيبهم من المعاني الدقيقة.
وما زال أئمة البيان يرشدون إلى أن صناعة البلاغة ليست كصناعة النحو، ويلهجون بأن عمادها الذوق والإحساس الرقيق، فهذا الإمام عبد القاهر يقول في "دلائل الإعجاز":"واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة". وهذا السكاكي يقول في "مفتاحه": "وكان شيخنا الحاتمي يحيلنا، بحسن كثير من مستحسنات الكلام إذا راجعناه، على الذوق". وهذا سعد الدين التفتازاني يتحدث عن معاني أدوات الإنشاء من شرحه المطول، فيقول: ولا تنحصر فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب.
وتوقُّفُ أحكام صناعة البيان على الذوق كان السبب في أن من ألّفوا فيها كتباً قيمة أقلَّ عدداً ممن ألّفوا في النحو، فأجادوا البحث والأسلوب.
*
كيف نشأ علم البيان
؟
لامراء أن العرب الخلص - جاهلية وإسلاماً - كانوا يحسون وجوه البلاغة ومحاسن البيان، وتأخذهم لسماع القول البليغ هزة ارتياح وإعجاب، ويصفونه بنحو الفصاحة والبلاغة.
وليس بعيداً من المعقول أنهم كانوا يخوضون في الوجوه التي يرتفع بها شأن القول، ويضعون أيديهم على الناحية التي يظهر فيها أثر الصنعة، فيقولون: في هذه الناحية معنى دقيق، أو وجه من الصياغة بديع. أو يضعونها على الناحية التي يكبو فيها ذوق الشاعر أو الخطيب، فيذكرون عيبها، ويعدونها سقطة لصاحبها.
وممن صرح بأن العرب كانوا يتحدثون عن محاسن الكلام ومعايبه، ويتدارسونها بينهم: أبو الحسن حازم (1) الأنصاري الأندلسي في كتابه "المناهج الأدبية" حين قال:
"لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها عن تسديدها وتقويمها، باعتبار معاني الكلم، بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علماً تتدارسه في أنديتها، ويستدرك به بعضهم على بعض، وقد نقل الرواة في ذلك الشيء الكثير، لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك، لاستخرج منه علماً كثيراً موافقاً للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة".
ثم قال: "وكيف يظن ظان أن العرب -على ما اختصت به من جودة الطباع- كانت تستغني في قولها الشعر عن التعليم والإرشاد إلى كيفية المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام، والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك، والتنبيه على الجهات التي يداخل الخلل المعاني، وأنت لا تجد شاعرًا مجيدًا منهم إلا وقد لزم شاعراً آخر المدة الطويلة، وتعلّم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية".
ومراد حازم بما ينقل من الروايات في هذا الشأن: ما يشبه قصة النابغة حين نقد قول حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغرُّ يلمعن في الضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقال له: "قللت جفانك وأسيافك".
(1) قال فيه أبو حيان: لا نعلم أحداً ممن لقيناه جمع من علم اللسان ما جمع، ولا أحكم من معاقد البيان ما أحكم من منقول ومبتدع.
هذا ما يصرح به أحد جهابذة البيان مستنداً إلى الروايات الكثيرة، ومقتضاه: أن الحديث في صناعة البيان قد بدئ في عهد الجاهلية، وليس في قوانين النظر، ولا في سنن نشء العلوم ما يقضي بامتناعه، فإذا كان الكلام العربي تقلب في أطوار البلاغة، وخرج في زينة البيان منذ عهد الجاهلية، فما الذي يمنع الطبقة المستنيرة الممتازة منهم أن يتحاوروا في هذا الذي يتنافسون في حلبته، ويراعونه عندما يفضلون شاعرًا على شاعر، أو خطيباً على خطيب؟.
ويذهب ذلك المحاضر إلى ان البيان العربي إنما نشأ عند علماء الكلام، فقال:
"وكما أن البيان اليوناني بعد نشأته في القرن الخامس قبل المسيح قد أخذ يتطور شيئاً فشيئاً بفضل المعلمين والمؤدبين قبل أن يصل إلى أن يكون علماً منظمًا توضع له القواعد، وتؤلف فيه الكتب، كذلك كان البيان عند العرب. فبعد أن نشأ عند المتكلمين أخذ يتطور شيئاً فشيئاً قبل أن تؤلف فيه الكتب، وتوضع له القواعد الفنية". وقال:
"لم ينشأ علم البيان عند العرب من الشعر، إنما نشأ من النثر حين ظهرت مذاهب الكلام عند المسلمين، وأخذ كل فريق منهم ينتصر لرأيه، ويأخذ على مناظره الحجة، ويعد عليه سقطته في اللفظ والمعنى".
لننظر في معنى نشأة العلم، أيراد بها: مبدأ الحديث عما يعده في مباحثه، ويدخل في موضوعه؟ أم يراد بها: حالة ما يأخذ الناس في وضع قواعده وجمع مسائله؟.
لا يصح للمحاضر أن يريد الوجه الأول، ويعني بنشأة البيان عند المتكلمين:
أنهم سبقوا إلى الحديث عنه؛ فإن الحديث عن بعض فنونه قد جرى من قبل أن يظهر علماء الكلام، ومما يمنع المحاضر أن يريد من نشأة البيان عند المتكلمين: مبدأ الحديث عنه: أنه يعترف بشيء من هذا الذي يقوله حازم؛ إذ يقول في محاضرته الأولى: "إن الشعراء في آخر العصر الجاهلي كانوا قد وصلوا إلى تعلم الشعر بالصناعة"، وبعد أن ذكر تعليم أوس بن حجر زهيراً، وتعليم زهير ابنه كعبًا والحطيئة، وتعليم الحطيئة لكثير من شعراء الإسلام، قال:"وليس من شك في أن المعلمين كانوا حين يستحسنون شعراً يقولون: استحسن لكذا، وحين يستقبحونه يقولون: استقبح لكذا. وهذه العلل التي يذكرونها في الاستحسان إنما هي أوجه البديع".
ولا أظن المحاضر يقصد بقوله: "إنما هي أوجه البديع" إلى أن الذي كان يتعلم في الجاهلية أو في صدر الإسلام هو البديع دون غيره من فنون البيان؛ فإن الروايات في هذا الباب مطلقة، وقد سمعتم قول حازم:"لاستخرج منه علماً كثيراً موافقاً للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة".
وهذا المحاضر يعد فيما أخذه البيانيون من الجاهليين لفظ الإيجاز والمجاز، فيقول في المحاضرة الأولى:"وهناك ألفاظ أخذها البيانيون عن الجاهليين، ولم يضعوها، ولم يخترعوها اختراعاً؛ فقد عرف شعراء الجاهلية ألفاظ الإيجاز والأسباب والمجاز، وغير ذلك من الألفاظ".
ونحن لا نثق بأن كلمة المجاز بالمعنى الذي يريده البيانيون من أوضاع الجاهلية؛ إذ لا نعرف له شاهداً في شعر أو نثر، ولو كان معروفاً عند العرب بهذا المعنى، لاتخذ الجمهور من هذا الاستعمال حجة على من أنكروا أن يكون في كلام العرب مجاز، وما رأيناهم يفعلون.
ونجد أبا عبيدة في كتاب "مجاز القرآن" يستعمل كلمة "مجاز" - عند تفسير اللفظ بمعنى فيه خفاء، كما قال: والرحمن مجازه ذو الرحمة، والرحيم مجازه الراحم، وكما قال في قوله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2]: مجازه: ولا يحملنكم، ولا يغرينكم، ومجاز {شَنَآنُ قَوْمٍ} أي: بغضاء قوم، وكما قال في قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ} [البقرة: 173]، أي: ما أريد به، وله مجاز آخر، أي: ما ذكر عليه من أسماء آلهتهم. فليس المراد من المجاز في هذا المقام ما يقابل الحقيقة، وإنما يراد به: مخرج الكلام، وما يقال في تفسيره.
فإن أراد المحاضر من دعوى نشأة البيان عند المتكلمين: أنهم الذين أخذوا في وضع قواعده، وتنظيم مسائله، قلنا له: قد سميت هذا الذي كان يدور بين المتكلمين بملاحظات، فقلت:"وإن الجاحظ يرجع في ذلك إلى علماء الكلام، يعتمد على ملاحظاتهم التي كان يأخذها على بعضهم البعض".
وإذا كان ما يجري بين المتكلمين من قبيل الملاحظات، فهو من نوع ما يلاحظه البلغاء من غير المتكلمين عندما ينقدون شعراً أو خطبة، وليس النقد عند الأدباء ورواة الأشعار بعزيز.
ولم يقدم لنا المحاضر أمثلة من الملاحظات التي أخذها بعض المتكلمين على بعض حتى نستبين الفرق بينها وبين ملاحظات غيرهم من الأدباء، ونقضي بأن أصول البيان إنما نشأت عند علماء الكلام، ولو وجدنا شيئاً من هذه الملاحظات في مثل كتاب "البيان والتبيين"، لقلنا: إن المحاضر اجتزأ بما احتوته هذه الكتب عن ذكر أمثلتها.
وإذا كنا نجد الجاحظ قد نقل عن بشر بن المعتمر أحدِ جهابذة علم
الكلام صحيفة تشتمل على شيء من أصول الخطابة وآدابها، فإن بشراً هذا كان معدوداً في أكابر البلغاء، فيصح أن يكون ما في هذه الصحيفة صادراً من ناحية ما تجمَّع لديه من وسائل البلاغة، لا من ناحية كونه متكلمًا؛ إذ لم يكن ما تحمله تلك الصحيفة بعيدَ المأخذ من مدارك البلغاء ونقاد الخطب ممن لم يدرسوا علم الكلام.
والصواب فيما نرى: أن نبحث عن نشأة علم البيان من طريق البلغاء وعلماء العربية، وسواء بعد هذا أكان البليغ أو العالم بالعربية من علماء الكلام؛ كالجاحظ، وبشر بن المعتمر، أم لم يملك سوى مزية البلاغة، ولم ينظر في غير علوم اللسان.
إذا وجهنا النظر إلى صدر الاسلام وعهد الدولة الأموية، وأخذنا نتحسس من الكلمات التي تقع على ناحية من نواحي علم البيان، نجد آثاراً تعزى إلى بلغاء من رجال ذلك العصر، مثل ما يروى في تعريف البلاغة عن الإمام علي ابن أبي طالب، وابنيه الحسن ومحمد بن الحنفية، وكما يروى عن يزيد بن معاوية في شأن الفصل والوصل، إذ يقول:"إياكم أن تجعلوا الفصل وصلاً؛ فإنه أشد وأعيب من اللحن". ونجدهم ينبهون في مقام النقد على شيء من فنون البيان.
ومثل هذا: قصة ذي الرمة حين أنشد بلال بن أبي بردة قوله:
رأيتُ الناسَ يَنْتجِعون غيثاً
…
فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
فقال بلال: يا غلام! اعلفها قتاً ونوى. قال هذا تعريضاً بقلة فطنة ذي الرمة للوجه اللائق بالمديح، ونقرأ في هذه القصة: أن أبا عمرو أحدَ الحاضرين لإنشاد البيت قال لذي الرمة بعد أن انصرف: هلّا قلت له: إنما عنيتُ بانتجاع
الناقة صاحبَها، كما قال الله عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] يريد: أهلها، وهلاّ أنشدته قول الحارثي:
وقفت على الديار فكلمتني
…
فما ملكت مدامعها القلوص
يريد: صاحبها. وهذا من أبي عمرو حديث عما يسميه البيانيون: مجاز الحذف.
أما ما يشبه هذه الكلمات وهذا النقد، فهو في صدر الدولة العباسية غير قليل.
نجد في آثارهم: أن أبا العباس السفاح مؤسسَ تلك الدولة يصف البلاغة، ويجعل من حليتها المعرفةَ بمواضع الفصل والوصل، يروون عنه أنه قال لكاتبه:"قف عند مقاطع الكلام وحدوده، وإياك أن تخلي المرعى بالهمل، ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل".
وتجد في آثارهم أن المفضل الضبي سأل أعرابياً عن البلاغة، فقال:"الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل". قال ابن الأعرابي راوي هذا الأثر: فقلت للمفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.
وذكر ابن خلدون جعفرَ بن يحيى فيمن كتبوا في فن البيان، فقال في مقدمة "تاريخه":"وكتب في هذه العلوم جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة إملاءات غير كافية".
وتحدث شبيب بن شيبة عن ثلاثة أنواع من البديع: حسن الابتداء، وحسن الانتهاء، وجودة القافية. فقال: والناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة المقطع، وبمدح صاحبه، وحظ
جودة القافية - وإن كانت كلمة واحدة - أرفع من حظ سائر البيت.
وإذا صرفنا النظر عن البلغاء إلى علماء اللغة والنحو، نجدهم كانوا يعرجون على جانب من وجوه البيان ومحاسنه.
نجد أبا عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 يشرح الأبيات، ويلوّح إلى ما فيها من مجاز. يورد الرواة هذا البيت:
أقامت به حتى ذوى العود والتوى
…
وساق الثريا في ملاءته الفجر
ويقولون كان أبا عمرو يقول: "ألا ترى كيف جعل للفجر ملاءة، ولا ملاءة له؟ ". ونجده يذكر كلمة "قيد الأوابد" من قول امرئ القيس:
بمنجردِ قيدِ الأوابد هيكلِ (1)
ويقول: إنه أحسن في هذه اللفظة، وإنه اتبع فيها فلم يُلحق.
ونجد الخليل بن أحمد المتوفى سنة 175 و 170، قد تحدث عن الجناس والمطابقة، وعن الاستعمال المجازي، قال سيبويه:"وسألت الخليل ابن أحمد عن قول العرب: ما أُميلحه! فقال: حقّروا هذا اللفظ، وإنما يعنون الذي تصفه بالملح، كأنك مُليّح، شبهوه بالشيء الذي تلفظ به وأنت تعني شيئاً آخر، نحو قولهم: يطؤهم الطريق: أهل الطريق، وصيد عليه يومان: صيد عليه الصيد يومين، فحذف الصيد، وأقام اليومين مقامه".
ونجد سيبويه المتوفى سنة 180 يأتي في الكتاب على مباحث تدخل في فن البيان، نجده قد تناول في عدة مواضع من كتابه: التقديم والتأخير من الوجه الذي يبحث عنه علماء البلاغة، منها: قوله في باب الفاعل: "إنما يقدمون الذي
(1)"الإعجاز" للباقلَّاني.
بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم".
ونجده تناول شيئاً من دواعي الحذف، وهو الاستغناء عن المحذوف بعلم المخاطب، وبما يرى من شواهد الأحوال، وأقام له الشاهد من القرآن والحديث، وقول قيس بن الخطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
وقول ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
…
فإني وقيّارٌ بها لغريبُ
وعرج في مواضع من كتابه على المجاز، ولكنه يسميه بسعة الكلام، أورد قول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
…
فإنما هي إقبال وإدبار
ثم قال: "فجعلها الإقبال والإدبار مجاز على سعة الكلام؛ كقولك: "نهارك صائم، وليلك قائم"، ومثل ذلك قول الشاعر متمم بن نويرة:
لعمري ما دهري بتأبين هالك
…
ولا جزع مما أصاب فأوجعا
وتحدث سيبويه عن مجاز الحذف إذ قال في قولهم: "هذه تميم، وهذه سلول": إنما تريد: هذه بنو تميم، وهذه بنو سلول، غير أنك حذفت المضاف تخفيفًا، كما قال عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقولهم: "ويطؤهم الطريق"، وإنما تريد: أهل القرية، وأهل الطريق، وهذا في كلام العرب كثير".
وتناول الحديث عن التشبيه، وفرَّق بين ما اقترن بالأداة، وما لم يكن مقروناً بها، فقال: "تقول: مررت برجل أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله
شديداً، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنت تشبِّهه".
ونجد الفراء المتوفى سنة 207 يتعرض في تفسيره معاني القرآن إلى وجوه تعد من فنون البيان، كتنبيهه على المجاز العقلي في قوله تعالى:{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] حين قال: "ربما قال قائل: كيف تربح التجارة، وإنما يربح الرجل التاجر، وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وحسن بيعك، وحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم".
ونبّه على بعض أنواع المجاز المرسل، كما نبه على إطلاق المحل وإرادة الحالّ في قوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17]. وقال: العرب يجعلون النادي والمجلس والمشهد والشاهد: القوم.
ونجد أبا عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 يأتي في تفسيره "مجاز القرآن" على جانب من فنون البيان، كما نبه على الالتفات في قوله تعالى:{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 33 - 34]. وفي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِبَةٍ} [يونس: 22]. ونبّه على بعض أنواع المجاز المرسل؛ كاستعمال المصدر في اسم الفاعل أو اسم المفعول، في قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، وقوله تعالى:{أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30]، ونبهَ على ما يسمونه: القلب في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76].
ونجد الأصمعي المتوفى سنة 116 يتحدثُ عن النوع الذي يسميه بعض البيانيين: التفاتاً. روى محمد بن يحيى الصولي: أن الأصمعي قال له: أتعرف التفاتات جرير؟ فقال: لا، ما هي؟ قال:
أتنسى إذ تودعنا سليمى
…
بعود بشامة سُقي البشام
ألا تراه مقبلاً على شعره، ثم التفت إلى البشام، فدعا له؟.
وتحدث عن التغليب، فقال: إذا كان أخوان أو صاحبان، وكان أحدهما أشهر من الآخر، سمِّيا باسم الأشهر، من هذا الباب: الأسودان: التمر والماء، والأبيضان: الخبز والماء.
جاء بعد هؤلاء عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255، وهو ممن جمع بين علم الكلام والرسوخ في اللغة وآدابها، ومن مؤلفاته كتاب "البيان والتبيين"، أورد فيه ما قيل في تعريف البلاغة، وتحدث عما يرجع إلى وصف الفصاحة من حسن الألفاظ، وخلوص الكلمات من التنافر والتعقيد، وتعرض إلى شيء من فنون البيان، وما يسمونه: البديع. وصفه أبو هلال العسكري بمثل ما وصفنا، ثم قال:"إلا أن إبانته عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومتنثرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير".
ولم يقل الجاحظ: إني استمد من ملاحظات المتكلمين، ولا حدثنا عما يلاحظه بعضهم على بعض، فقول المحاضر في محاضرته الثانية:"وإن الجاحظ يرجع في ذلك إلى علماء الكلام، ويعتمد على ملاحظاتهم التي كان يأخذها على بعضهم البعض" هو إلى الفرض أقرب منه إلى التحقيق، وقد نطق المحاضر في محاضرته الثانية بغير هذا، فقال:"إن الجاحظ لم يرد أن يؤلف كتاباً في البيان، وإنما أراد تدوين خواطر كانت شائعة في ذلك الوقت عند الأدباء والشعراء".
وهل ما كتبه الجاحظ في البيان مأخوذ مما ترجم عن اليونان والفرس؟
يقول ذلك المحاضر: "إن الجاحظ لم يقتصر في وضعه لأصول علم البيان على علماء الكلام، بل أخذ عن الفرس والعجم، بفضل ما كان هناك من اتصال بين الأمة العربية وبين الأمم الأخرى بواسطة الترجمة". وقال: "هذه القواعد التي ذكرت في "البيان والتبيين" لم يأخذها الجاحظ عن المتكلمين وحدهم، أو أن المتكلمين لم يخترعوها اختراعاً من عند أنفسهم، وإنما تأثروا فيها بما كان يصل إليهم من الفلسفة والبلاغة اليونانية".
هل يستطيع المحاضر أن يثبت أن في الكتب المنقولة إلى العربية كتاباً في أصول البيان اليوناني أو الفارسي غير كتابي "الخطابة"والشعر، لأرسطو؟ أو يستطيع أن يثبت أن الجاحظ عرف بيان اللسان اليوناني أو الفارسي، فاستمد منه فيما وضعه من أصول البلاغة العربية؟.
ولم يأت الجاحظ في كتابه بما فيه رائحة البيان اليوناني أو الفارسي إلا نحو ما رواه له الكاتبان: أبو الزبير، ومحمد بن أبان في حد البلاغة عند الفرس واليونان، وهذا لا يقتضي أن البيان العربي مأخوذ من البيان اليوناني، وإن هي إلا كلمة وقعت إلى الجاحظ على طريق هذين الكاتبين كما وقعت إليه كلمة في حد البلاغة عند أهل الهند. وقد ذكر المحاضر في محاضرته الثانية أن الجاحظ يجهل أن لليونان خطابة وشعرًا، فقال: إن الجاحظ حين جعل الخطابة والشعر من خصائص العرب، وقال عن اليونان: إنهم أهل منطق، كان يجهل أن عند اليونان خطابة وشعرًا، ولم يقرأ كتاب أرسطاطاليس في الخطابة والشعر، ولو قرأه، لما قال ذلك عن العرب واليونان.
وممن كتبوا في آداب اللغة، ونشؤوا في عهد الجاحظ: عبد الله بن قتيبة المتوفى سنة 267، وقد تكلم في شيء من فنون البيان، كما نبه على المجاز
في "أدب الكاتب" حين قال: "والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاوراً له، وكان منه بسبب ما بينت لك في باب تسمية الشيء باسم غيره". وحكى عنه صاحب "العمدة" بحثاً في باب المجاز، وأنه رد على من أنكر أن يكون في لغة العرب مجاز، وقال: لو كان المجاز كذباً، لكان أكثر كلامنا باطلاً.
وإذا وقع إنكار المجاز في عهد ابن قتيبة، أو قبله (1)، عرفنا أن أبا إسحاق الإسفرائيني الذي يعزى إليه هذا المذهب، أو أبا علي الفارسي الذي يحكيه عنه بعض المؤلفين، لم يكن بأول من أنكر المجاز؛ لأن أبا أسحاق الإسفرائيني توفي سنة 418، وأبا علي توفي سنة 377.
وممن نشؤوا في عهد الجاحظ، وابن قتيبة: أبو العباس المبّرد المتوفى سنة 282 هـ ، فقد تكلم على بعض فنون البيان، كما نبّه في كتاب "الكامل" على نوع من أنواع المجاز المرسل، وهو استعمال الكلمة في ضد معناها الأصلي، إذ قال: والسليم: الملسوع، وقيل له: سليم على جهة التفاؤل،
(1) ورد تصحيح بقلم الإمام في الجزء الثاني عشر من المجلد الأول كما يلي: جاء في محاضرة: نشأة علم البلاغة: أن ابن قتيبة رد على من أنكر أن يكون في لغة العرب مجاز، وأخذنا من هذا أن يكون القول بإنكار المجاز في اللغة قد جرى في عهد ابن قتيبة، أو قبله.
والحقيقة أن كلام ابن قتيبة إنما يصلح أن يكون رداً على من أنكر أن يكون في القرآن مجاز، وممن يعزى إليه هذا القول: داود الظاهري، وكان معاصراً لابن قتيبة، فداود توفي سنة 270، وابن قتيبة توفي سنة 267. أما إنكار أن يكون في اللغة مجاز، فلم نقف على رواية تنسبه إلى أحد تقدم أبا إسحاق الإسفرائيني، وأبا علي الفارسي.
كما يقال للمهلكة: مفازة، وللغراب: الأعور على المغيرة منه لصحة بصره، وكما نبه على الفن الذي يسميه قدامة:"إشارة"، وسيأتي بيانه.
والمبرّد أول من نظر في سر التأكيد - على ما نعلم -، وفرَّق بين قولهم:"عبد الله القائم"، و"إنّ عبد الله قائم"، و"إن عبد الله لقائم"، فنبه على أن الأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال، والثالث جواب عن إنكار منكر لقيامه، وصار كلام المبرد هذا أصلاً من أصول علم المعاني تتفرع منه مباحث دقيقة.
وممن نشؤوا في عهد هؤلاء، وتكلموا في بعض وجوه البيان: ابن دريد المولود سنة 223، المتوفى سنة 311، ومن أثره في هذا: أن نراه قد عقد في كتاب "الجمهرة" بحثًا عنوانه: (باب الاستعارات)، ولم يسلك في هذا الباب طريق الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل، بل ساق أمثلة وشواهد هي قائمة على التشبيه، كما قال:
الظمأ: العطش، وشهوة الماء، ثم ذكر ذلك حتى قالوا: ظمئت إلى لقائك، وقالوا: الوجور: ما أوجره الإنسان من دواء أو غيره، ثم قالوا: أوجره الرمح: إذا طعنه في فيه. وساق أمثلة وشواهد أخرى ترجع إلى المجاز المرسل، كما قال: والغيث المطر، ثم صار ما نبت بالغيث: غيثاً، وقال: الوغى: اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثرت وصارت الحرب وغى، وقال: الظعينة: المرأة في الهودج، ثم صار البعير والهودج ظعينة.
وظهر بعد ابن قتيبة والمبرد عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296، فألّف كتاباً سمّاه:"البديع"، ونبّه على أنه أول من كتب في هذا الفن مستقلاً، فقال في ديباجة هذا التأليف: "وما جمع قبلي فنون الأدب أحد،
ولا سبقني إلى تأليفها مؤلف".
أورد ابن المعتز في هذا الكتاب سبعة عشر نوعاً من فنون البيان والبديع، وهي: التشبيه، وا لاستعارة، والتجنيس، والطباق، ورد العجز على الصدر، والمذهب الكلامي، والالتفات، والتمام، والاستطراد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، وحسن التضمين، والإفراط في الصفة، وعتاب المرء نفسه، وحسن الابتداء، والهزل الذي يراد به الجد.
وممن نشؤوا في عهد ابن المعتز وابن دريد: قدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 كما يقول ابن الجوزي في "تاريخه"(1)، وكان قد أدرك زمن ثعلب، والمبرد، وابن قتيبة، فقرأ مجتهداً حتى برع في صناعة البلاغة، وصنف كتابه المعروف بـ "نقد الشعر" سنة 302، وهو الكتاب الشائع اسمه، الحاضر لدينا بشخصه، وصنف كتاب "نقد النثر"، ولا نعرف لهذا الكتاب اليوم طريقاً ولا أثراً. وقد بحث قدامة في نقد الشعر عن عشرين نوعاً من أنواع البديع، اشترك مع ابن المعتز في سبعة أنواع، وانفرد عنه بثلاثة عشر نوعاً.
هل ما كتبه قدامة مستمد من بيان اليونان؟
يقول ذلك المحاضر: "وفي القرن الثالث للهجرة حدثت ظاهرة في تاريخ البيان العربي؛ فإنا نجد رجلاً نصرانيًا ذا بيان ومنطق أسلمَ حين رأى نصرانيته تحول بينه وبين الحظوة عند الرؤساء، ذلك الرجل هو قدامة بن جعفر".
(1) نقل ياقوت في "معجم الأدباء" ما قاله ابن الجوزي، وقال: إن قدامة كان قد حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي، ومتى المنطقي سنة 320.
ولم يحاول المحاضر هنا إقامة الدليل على أن قدامة إنما أسلم لينال الخطوة عند الرؤساء، لا لأنه بصر بالحجة، واهتدى إلى أن الإسلام دين القيمة، ولعله يوفق إليه في محاضرة أخرى.
ونحن لا نستطيع أن نقول في هذا شيئاً سوى أن المحاضر يريد أن يقضي وطر التملق لأهل ديانة أخرى؛ إذ لا نجد في تاريخ قدامة ما يثير الشبهة في أنه أسلم بإخلاص، وقد أسلم قدامة على يد المكتفي بالله، والمكتفي بالله من خلفاء بني العباس الذين لا يبخلون بالحفاوة لديهم عن نصراني يجدون عنده أثارة من علم، وقد كان المكتفي من قبل أن يتقلد الخلافة قد اتخذ كاتبًا نصرانيًا اسمه: الحسين بن عمرو، وهذا ابن جرير الطبري يقول في "تاريخه": لما توفي المعتضد، ووصل الخبر إلى المكتفي، وكان مقيمًا بالرقة، "أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من بعسكره، ففعل ذلك الحسين".
ثم قال المحاضر: "ونحن نلاحظ عندما نقرأ كتاب قدامة: أنه قد قرأ ما كان معروفاً عند العرب من الأدب العربي الخالص، وما كان الشعراء قد استكشفوه من أنواع البديع، كما أنه قد قرأ ما كان معروفاً في ذلك الوقت من فلسفة أرسطاطاليس وشعره وخطاباته. وقال: "إن قدامة قد تأثر باليونان، وأخذ عنهم ما كتب من قواعد البيان في كتابه: نقد الشعر".
قدامة ضربَ في نقد البيان بسهم، وخطا به خطوة واسعة، ولكنها ليست من الغرابة بحيث تحملنا على فرض أن تكون مستمدة من بيان اليونان، بل إن ذلك المقدار الذي نتج من أقوال البلغاء، وأبحاث علماء العربية، وما وضع عبد الله بن المعتز، إذا انتهى إلى المعنى جلس إلى علماء اللغة حيناً من الدهر
أمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به قدامة، وإن لم يكن ملمًا بقواعد البيان في لغة اليونان، ونحن لا نجد قدامة يستأنس في شيء من كتابه بما يعرفه من بيان اليونان، إلا كلمة قالها في فصل استحسن فيه الغلو الذي مثل له يقول أبي نواس:
وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه
…
لتخافك النطفُ التي لم تخلق
فقال: وهذا مذهب فلاسفة الشعر من اليونان، وهذا الرأي الذي اختاره واستأنس له بمذهب فلاسفة الشعر من اليونان، قد رده عليه أهل الذوق والنظر الصائب في البيان.
ونجده يسلك في بعض مباحثه طريقة العاطفة كما قال في حد الشعر: "إنه موزون مقفّى يدل على معنى". ثم أخذ يشرح كلمات هذا الحد، ويبين ما هو جنس، وما هو فصل، ويسلك طريقة الفلسفة؛ كبحثه في نعت المدح عن أصول الفضائل، وأصناف تركيب بعضها مع بعض، ومثل هذا الوجه من البحث لا يدخل في قوانين البلاغة، ولا يجعل لقوانين البيان اليوناني أثراً في نشأة البيان العربي.
ونقف في هذه المحاضرة عند هذا الحد، وسنأخذ في محاضرتنا الثانية -إن شاء الله- ببسط القول فيما كتب قدامة، وفي حال البيان بعد قدامة، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أُنيب.