الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنقدُ الشعر من أسباب إبداع الشعر، وإبداعه من وسائل تثقيف الأخلاق، وإيقاظ الهمم، وعرض الحكمة في ثوب فاخر أنيق. وإذا كانت جمعية الهداية الإسلامية قد أنشئت لنصرة الفضيلة، وإعلاء شأن اللغة العربية، فجدير بها أن تعنى بالوسائل التي يبلغ بها الشعر مكانته العليا، وهذا ما بعثني على أن ألقي كلمة أعرض فيها نموذجًا من النواحي التي يلحظها الأدباء عند نقد الشعر، وإذا فاتني شيء منها، فلتفلُّته عن الذاكرة، أو لأنه بقي فيما لا أعلم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
*
تمهيد:
نقد الشعر فن من فنون الأدب قديم، تجد له في عهد في الجاهلية وصدر الإِسلام اَثارًا وشواهد كثيرة؛ أما تخصيصه بالتأليف، فإننا نعلم أن عبد الله بن المعتّز المتوفى سنة 296 هـ قد ألّف في نقد شعر أبي تمام، ومحمد ابن طباطبا العلوي المتوفى سنة 322 هـ ألّف كتاب "عيار الشعر"، وقدامة بن جعفر المتوفى حوالي سنة 330 هـ ألف كتاب "نقد الشعر"، وكتابًا ناقش فيه ابن المعتز في نقد شعر أبي تمام؛ وجاء على أثر هؤلاء: محمد بن عمران المرزباني، وألّف في مآخذ العلماء على الشعراء كتابه المسمّى "بالموشح"، فأخرجه للناس كتاباً حافلاً.
وقد أسرف فريق في النقد، حتى عابوا ما ليس في الحقيقة بمعيب؛ ومن هؤلاء: الأصمعي؛ فإنه كان مغرّى بالأخذ على الشعراء، وعاب عليهم أشياء وجهُ الجواب عنها واضح مقبول. ووقف تجاه هؤلاء آخرون يحرصون على أن يكون ما قيل من الشعر بريئًا من العيب، ويتعسفون في دفع ما يرمى به بعض الشعر من خلل في اللفظ أو المعنى؛ وعلى هذين الفريقين يصدق قول أبي العباس
المبرد: "من طلب عيباً، وجده، ومن طلب مخرجاً، لم يفته".
وممن عني بالدفاع عن الأشعار المعيبة: أبو عبد الله محمد بن جعفر القيرواني التميمي النحوي المتوفى سنة 412 هـ، ومن مؤلفاته كتاب "ضرائر الشعر"(1) تكلم فيه عما يجوز للشاعر دون الناثر، وأوشك أن يأتي لكل ما عيب به الشعر من ناحية مخالفة قوانين اللغة، ويجعله من الرخص الشعرية.
والواقع أن في الشعر مآخذ ينظر فيها إلى ما هو أحسن في النظم، وأظهر في الغرض.
ومن هذا: عيب بلال بن بردة لقول ذي الرمة من قصيدة أنشدها بين يديه:
رأيتُ الناسَ ينتجعون غيثاً
…
فقلتُ لصيدح انتجعي بلالاً
يقال: إن ذا الرمة لما أنشد بلال بن بردة هذا البيت، قال بلال: يا غلام! مر لصيدح بقتَّ وعلف؛ فإنما هي انتجعتنا؛ ومن الظاهر أن ذا الرمة إنما أراد من انتجاع صيدح -التي هي ناقته- انتجاع نفسه، ومثاله في القرآن قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، وإنما المراد: أهل القرية، وأهل العير؛ وإذا ذكر العريى انتجاع الناقة للممدوح، وعنى به انتجاع نفسه، فلأن الراحلة لا تنتجع مكاناً إلا حيث ينتجعه صاحبها، ومثل هذا المجاز لا يخفى على بلال بن بردة، ولكن الأوفق بمقام الاستعطاف وإظهار الحاجة أن ينسب الشاعر الانتجاع لنفسه.
ومن المآخذ: ما يورده صاحبه على غير تثبت، فلا يقع موقع السداد،
(1) توجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.