الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترقى التخيل يوم دخل الشعر في طور التصنع، ولكن التصنع هو الذي جر إلى استعارات مكروهة، وتشابيه سمجة أيضاً، فقد اقتحم أبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي، ومن بعدهم في هذا الصدد مساوي لم يرتكبها العرب زمن جاهليتهم، فالعربي الصميم - وإن كان معظم تخيلاته ساذجة- لا يعالج قريحته ليستنبط لك منها مثل قول أبي نواس:
بخَّ صوت المال مما
…
منك يشكو ويصيح
أو قوله:
ما لرِجْلِ المال أضحت
…
تشتكي منك الكلالا
وتمادى الشعر ما بين تخيل فطري، وتخيل فلسفي، وتخيل علمي إلى هذه الأعصر، وإن كان النوع الأول هو الغالب في النظم، والمألوف في التخاطب؛ لأن التخيلين الفلسفي والعلمي إنما يليقان بكلام يوجه به إلى الخاصة من الناس، وأما التخيل الفطري، فيصلح لخطاب الخاصة والجمهور. ثم إن الضرب الفلسفي لم يكن تطوراً في نفس التخييل، وإنما هو تطور لحقه من جهة دخوله في منزع جديد؛ أعني: الخوض في حقائق وسنن كونية على طريق النظر العميق.
*
خاتمة:
من فنون التخييل: عقد محاورة، أو إنشاء قصة يسوقها الشاعر لمغزى سياسي، أو أخلاقي، أو لغرض التفكه والإطراف بملح الحديث. ويدخل في هذا الضرب كثير من أشعار الغزل التي يخترع فيها الشاعر محاورات بينه وبين الحبيب والطيف والعاذل والواشي والراحلة والأطلال، بل الغزل التقليدي، وهو ما لا يكون صادراًعن عاطفة عشق خاصة، كلُّه معدود في هذا القبيل،
وهذا الفن هو الذي يعنيه بعض المستشرقين من أُدباء أوربا حيث يرمون الشعر العربي بقلة الحظ، وقصر الخطا في مضمار الخيال، وقد تعلق به أُدباؤنا في منثور كلامهم؛ كمقامات الهمذاني والحريري وغيرهما، ولكن الشعراء لم يحتفلوا به فيما سلف كما احتفل به غيرهم من شعراء أُوربا؛ إذْ أفرغوا معظم شعرهم في الروايات التمثيلية، والقصص الموضوعة على لسان حالة إنسان أو حيوان أو جماد. ومن الأمثلة المضروبة لهذا النوع من كلام العرب: قول بعضهم:
قد زارني طيفُ من أهوى، فقلت له:
…
كيف اهتديتَ وجنحُ الليلِ مسدولُ
فقال: آنستُ ناراً من جوانِحكم
…
يضيءُ منها لدى السارينَ قنديلُ
فقلت: نار الهوى معنى وليس لها
…
نورٌ يضيءُ فماذا القول مقبول
فقال: نسبتنا في الأمر واحدة
…
أنا الخيال، ونارُ الشوقِ تخييلُ
هذا ما طاوعني عليه القلم من التحرير في فن لا يجيد الغوص في أغواره، ويأتي عليه من أطرافه، إلا من بات فكره في صفاء، وضميره في ارتياح، وإني لجدبر بإغضاء الناظر عن قصور أعثر في أذياله؛ فإني أرسلت نظري، وهززت قلمي إلى هذه المقالات يوم وضعت رحلي ما بين وادي النيل والأهرام. ولسان حالي ينشد متمثلاً:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً
…
وبالشامِ أُخرى كيفَ يلتقيانِ
والحمد الله الذي أنعم فوفّى، وسلام على عباده الذين اصطفى.