الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية
(1)
في أوائل النصف الثاني من القرن الرابع صار أمر مصر إلى العبيديين، وكان المعزّ مؤسس دولتهم معدوداً في طبقة الأدباء، وكذلك كان ابنه تميم الملقب بالعزيز، فلا جرم أن يكون لسوق الأدب في أيامهم نفَاق، وللأدباء حظوة، ونرى في التاريخ: أن يعقوب بن كِلِّس وزير العزيز كان له مجلس يحضره العلماء، فإذا فرغ من هذا المجلس، قام الشعراء ينشدونه ما أنتجته قرائحهم من الشعر. ويقال: إن هذا الوزير قد رثاه حين توفي نحو مئة شاعر. ويمر بنا التاريخ بعد هذا على رجال كان لهم في الأدب أقدام راسخة؛ مثل: الأمير المختار المعروف بالمسجّى (2)، ومثل: أحمد بن علي المعروف بابن خيران (3)، وأذكر من شعره قوله:
ولوسعى بك عندي في ألذِّ كَرًى
…
طيفُ الخيالِ لبعتُ النومَ بالسهرِ
وما زال الأدب موصول الحلقات إلى أن جاء القرن السادس، فظهر فيه نبغاء مثل: أبي الغمر محمد بن علي الهاشمي الذي قال فيه العماد الأصفهاني:
(1) محاضرة الإِمام من محطة الإذاعة في القاهرة. ونشرت في الجزء السادس من المجلد التاسع - مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1355 هـ.
(2)
تولى ديوان الترتيب في عهد الحاكم، وألف في الأدب كتباً ممتعة.
(3)
كاتب السجلات في عهد الظاهر بن الحاكم.
كان أشعر أهل زمانه، وأفضل أقرانه. ومثل: محمد بن قادوس شيخ القاضي الفاضل، وكان يسميه: ذا البلاغتين. ومثل: الحسن بن علي الأسوانيّ المعروف بالمهذب الزبيري، الذي قال فيه العماد الأصفهاني أيضاً: لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه. ومن بديع شعره قوله يتشوق إلى نهر بردى في دمشق:
بالله يا ريحَ الشما
…
لِ إذا اشتملتِ الرَّوح بردا
وحملتِ من نَشْرِ الخزا
…
مى ما اغتدى للنَّد نِدا
ونسجت ما بين الغصو
…
ن إذا اعتنقن هوى وودا
وهززت عند الصبح من
…
أعطافها قدّاً فقدَّا
نهر كنصل السيف تكـ
…
ـسو متنه الأزهار غمدا
صقلته أنفاس النسـ
…
ـيم بمرهنَّ فليس يصدا
وظهر لذلك العهد شاعرات مجيدات، منهن: تقية بنت غيث الصورية الإسكندرية، نظمت هذه الشاعرة مرة قصيدة تعرضت فيها - على عادة الشعراء - لمعان من قبيل اللهو، فظن بعض من قرأ القصيدة أنها وصفت ذلك اللهو لحضورها بعض مجالسه، فنظمت قصيدة وصفت فيها الحرب، وما يتصل بها أحسنَ وصف، وبعثت إلى من ظن بها ذلك الظن تقول له: علمي بهذا كعلمي بذاك، تعني: أن الشاعر يصف ما لا يرى، ويقول مالاً يفعل.
وممن شد أزر الحركة الأدبية لذلك العهد طلائع بن رُزّيك الملقب بالصالح؛ إذْ كان هو نفسه من الشعراء المجيدين، وأذكر من شعره قوله في الحكمة:
تنامُ ومقلةُ الحدثانِ يقظى
…
وما نابَ النوائبَ عنك نابي
وكيف بقاءُ عمرك وهو كنزٌ
…
وقد أنفقت منه بلا حساب
ولحسن تقديره للأدب العربي، قصده الشعراء من أقاصي البلاد، وفي أيامه دخل عُمارة اليمني مصر، ولقي منه ومن ابنه العادل إقبالاً ورعاية، وعمارة هذا هو الذي يقول:
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما
…
تموت الأفاعي من سمومِ العقارب
ويقول:
إذا كان رأسُ المال عمرَك فاحترزْ
…
عليه من الإنفاق في غير واجبِ
وموجز القول: أن من طالع كتاب "الخريدة" للعماد الأصفهاني، وغيرها من كتب الأدب، وجد في شعراء النصف الأول من القرن السادس كثرة، ووجد في شعرهم إجادة وإبداعاً.
كذلك كان الشعر في سمو مكانته، وكثرة من يجيدون صنعه، وبهذا العهد اتصل عهد الدولة الأيوبية، فإنه يبتدى" بسنة أربع وستين وخمسمائة، وينتهي بسنة اثنتين وخمسين وستمائة.
وأريد من الشعر المصري في عهد الدولة الأيوبية: شعر من نشؤوا في هذا العهد، أو قضوا فيه جانباً من حياتهم الأدبية. وإذا تحدثت عن شعراء مصر في هذا العهد، فإنما أتحدث عمن نشؤوا في مصر نشأتهم الأدبية، ولا أبالي بعد هذا أن تكون ولادتهم في أرضها، أو في أرض غيرها، ولا أبالي أيضاً بأن يكونوا قد أقاموا فيها طول حياتهم، أو يكونوا قد هاجروها إلى قطر آخر، واتخذوه وطناً.
تولى صلاح الدين الأيوبي أمر مصر، وكان من نواحي عظمته: الارتياح
للأدب العربي، والاحتفاء بالأدباء البلغاء، تقرأ في تاريخه: أنه كان يستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، ومما عرف عنه أنه كان مولعاً بشعر أسامة ابن منقذ الذي دخل مصر في أيامه، ونال مكانة سامية، وأذكر من شعر أسامة هذا: قوله:
وما أشكو تلؤُّنَ أهلِ ودّي
…
ولو أجدَت شكيَّتهم شكوتُ
إذا أدْمتْ قوارصُهم فؤادي
…
كَظَمتُ على أذاهم وانطويتُ
ورحتُ عليهمُ طلقَ المحيا
…
كأني ما سمعتُ وما رأيتُ
ولارتياح صلاح الدين للشعر العربي، ونظره إليه نظر من يقدر قيمته، قوي التنافس في هذا الفن، واشتد اتصال الأدب في غير مصر بالأدب المصري؛ فإن كثيراً من أدباء الأقطار الأخرى يفدون على صلاح الدين، أو يراسلونه بقصائدهم، مثل التلِّعفري، وسبط ابن التعاويذي، وابن الساعاتي، وعمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي، وهو القائل:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارمٍ
…
سمعتُ بها والأذنُ كالعينِ تعشقُ
ومحمد بن يوسف البُحراني صاحب القصيدة الفريدة التي يقول فيها:
تخصَبُ الأرضُ فلا أقربها
…
رايداً إلا إذا عزَّ حماها
لايراني الله أرعى روضةً
…
سهلة الأكناف من شاء رعاها
ومن أمراء الأسرة الأيوبية بعد صلاح الدين الأيوبي من يقول الشعر الجيد؛ مثل: الأفضل بن صلاح الدين، والكامل بن العادل، وأخويه: الأشرف، والمعظم، قال ابن سعيد في "تاريخه": "وأولاد العادل في صدر المئة السابعة: الكامل، والمعظم، والأشرف، الثلاثة شهروا بحب
الفضلاء، وقول الشعر".
وفي هؤلاء الأمراء الثلاثة يقول ابن عُنَيْن من قصيدة يمدح بها العادل:
وله البنون بكلِّ أرضٍ منهم
…
ملكٌ يقول إلى الأعادي عسكرا
من كل وضّاحِ الجبين تخاله
…
بدراً وإن شهد الوغى فغضنفرا
نهض الشعر العربي في عهد الدولة الأيوبية نهضة راقية، واشتمل على أمثال: البهاء زهير، وابن الجزّار، وابن سناء الملك، وابن شمس الخلافة، وابن مطروح، وابن الفارض، وشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري، وابن النبيه، وابن النقيب، ومظفر الدين بن إبراهيم الضرير، وابن أبي الإصبع، وابن الخيمي.
وكيف لا يرفع الأدب رأسه وهو في ظلال دولة يقوم على المهم من أمورها أمثال: العماد الأصفهاني، وعبد الرحيم البيساني الملقب بالقاضي؟.
وسيما الشعر في ذلك العهد: رقة الألفاظ، وقرب المعاني من أذهان قارئيه وسامعيه. ومما أخذ بمجامع قلبي لأبي الحسين الجزار جمع بين السهولة والمتانة، أعني قوله:
هو ذا الركبُ ولي نفسٌ مشوقه
…
فاحبسِ الركبَ عسى أقضي حقوقَهْ
فاضَ دمعي مذ رأى ربعَ الهوى
…
ولَكَمْ فاضَ وقد شام بروقَه
نفد اللؤلؤ من أدمعه
…
فغدا ينثر في الترب عقيقَه
قم معي واستوقف الركبَ فإن
…
لم يقفْ فاتركه يمضي وطريقَه
فهي أرضٌ قلَّما يلحقها
…
أملٌ والركبُ لم أعدمْ لحوقَه
كانت مَيزة الشعر: السهولة والعذوبة، حتى إن بعضهم لا يبالي أن يورد
في شعره عبارة تجري على ألسنة الجمهور بعد أن يكسوها مسحة خفيفة من العربية الفصحى؛ كقول ابن النبيه:
قل لأحبابٍ كسوني الأرقا
…
ماتَ صبري فلهم طولُ البَقا
نعم، وجد في هذا العصر ما وجد، وفشا في بعض العصور قبله وبعده من الاستكثار من أنواع البديع؛ كالجناس، والتورية، ولكن قصد الشعراء البارعين إلى نحو هذين النوعين من البديع إنما يكون في بعض المقطعات، أو الأبيات المعدودة من القصائد، ثم إن قصدهم إلى هذه الأنواع لا يمس براعتهم في صناعة الشعر؛ لأنهم يحسنون صنعها، فتسيغها أذواق الأدباء دون أن تحس بشيء من الثقل والكلفة.
وللشعر الحماسي في ذلك الوقت باعث قوي هو انتصار الدولة، وعزة مكانتها، فإذا شعر الأديب بأنه يعيش تحت سماء عزة وكرامة، كان شعوره هذا من مهيئات البراءة في فن الحماسة، فإذا انضم إلى هذا كبرُ نفس الشاعر، رأيته يذهب في هذا الفن من فنون الشعر مذاهب بديعة، وانظر إلى البهاء زهير كيف يقول:
أهوى التذلُّلَ في الغرام وإنما
…
يأبى صلاحُ الدين أن أتذللا
ومن أبلغ ما وقع في الشعر من الحماسة قول ابن سناء الملك:
سوايَ يهابُ الدهرَ أو يرهبُ الردى
…
وغيريَ يهوى أن يعيشَ مخلَّدا
ولكنني لا أرهبُ الدهر إن سطا
…
ولا أحذر الموتَ الزُّؤامَ إذا عَدا
توقُّدعزمي يتركُ الماءَ جمرةً
…
وحليةُ حلمي تترك السيفَ مِبْرَدا
وأظمأ إن أبدى لي الماءُ مِنَةً
…
ولو كان لي نهرُ المجرَّةِ موردا
ولي قلمٌ في أنملي إن هززته
…
فما ضرَّني أنْ لا أهزَّ المهنَّدا
أما الحكم والأمثال، فكثيراً ما نجدها في بعض مقطوعات، أو في أثناء قصائد مطولة؛ يقول ابن سناء الملك:
وَمنْ يغرسِ المعروف يجني ثمارَه
…
فعاجلُه ذِكْرٌ وآخرُه أَجْرُ
وقوله:
ألا إن إقليماً نبتْ بك دارُه
…
وإنْ كَثُرَ الإثراء فيه لمعدمُ
وكقول ابن النبيه:
والعمرُ كالكأسِ تستحلى أوائلُهُ
…
لكنَّه ربما مُجَّتْ أواخرُهُ
ومما سار مسير المثل قول ابن سناء الملك:
"ولابد دون الشهد من إبر النحل"
وللنسيب في ذلك العهد جولة واسعة، وابتكر فيه بعض الشعراء طرقاً يستبينها الأديب من مطالعة دواوينهم، وقد أعجب الأديب الأندلسي ابن سعيد بطريقة البهاء زهير في هذا الفن من الشعر، وسأله عندما قدم مصر أن يرشده إلى وجه سلوكها، فأشار عليه البهاء بأن يطالع ديواني: الحاجري، والتلعفري، ثم يراجعه بعد ذلك، فغاب ابن سعيد عنه مدة أكثر فيها من مطالعة الديوانين، ثم اجتمعا وتذاكرا، وكان من البهاء أن أنشد شطرًا من بيت هو قوله:
"يا بأن وادي الأجرع"
وقال لابن سعيد: أشتهي أن تكمله، فقال ابن سعيد:
سقيت غيث الأدمع
فقال البهاء زهير: حسن والله، ولكن الأقرب إلى هذا الطريق أن تقول:
هل ملت من طرب معي
وترى في هذا العصر تنافساً شديداً بين الشعراء، حتى إن الشاعر قد يدعي لنفسه شعر آخر، وهو في قيد الحياة، وأسوق على هذا حادثتين: إحداهما: نزل وقع بين ابن شمس الخلافة، وابن مطروح في بيت ادعى كل منهما أنه قائله، وبلغ بهما النزاع أن أقام كل منهما شاهداً على أن البيت له، والبيت هو:
وأقولُ يا أختَ الغزالِ ملاحةً
…
فتقول لا عاشَ الغزالُ ولا بقي
ثانيتهما: نزاع جرى بين ابن الخيمي، وابن إسرائيل، تنازعا في القصيدة التي جاء فيها البيت المشهور:
يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا
…
لقد حكوت ولكنْ فاتك الشنبُ
ثم إن الشاعرين تراضيا على تحكيم ابن الفارض. فأمر كلاً منهما أن ينظم قصيدة في وزنها، فذهبا وأتياه وأنشداه ما نظما، فحكم بها لابن الخيمي، وقال لابن إسرائيل:
لقد حكوت ولكن فاتك الشنب
ولا بدع أن يعرف الأديب الألمعي أن هذا الشعر من نظم زيد أو عمرو، مستنداً في ذلك إلى قوة شبهه بأسلوبه، فللأشعار قافة يعرفون أنسابها من روح المعنى وطرز النظم، كما أن للناس قافة يعرفون أنسابهم من النظر في خلقتهم وملامح وجوههم.
وكان الشعر المصري في ذلك العهد يصل إلى بلاد المغرب والأندلس
على أيدي الراحلين من العلماء والأدباء، تقرأ في التاريخ: أن الكاتب ابن عبد ربه الأندلسي اجتمع في رحلته بابن سناء الملك، وأخذ عنه شيئاً من شعره، ورواه بالمغرب، وكذلك الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي الأندلسي أخذ في رحلته عن الشهاب ابن الخيمي قصيدته التي يقول في أولها:
يا مطلباً ليس لي في غيره أربُ
…
إليك آل القضى وانتهى الطلب
وعاد بها إلى الأندلس.
وكان للأدباء في ذلك العصر مجالس يتذاكرون فيها الأشعار، ومجامع يحتفلون فيها بمن يرد مصر من الأدباء. يقول ابن خلكان في ترجمة ابن سناء الملك:
"واتفق في عصره بمصر جماعة من الشعراء المجيدين، وكان لهم مجالس يجري بينهم فيها مفاكهات، ومحاورات يروق سماعها، ودخل في ذلك الوقت إلى مصر شرف الدين بن عُنين، فاحتفلوا به، وعملوا له دعوات، وكانوا يجتمعون على أرغد عيش، وجرت له محافل سطرت عنهم، ولولا خشية الإطالة، لذكرت بعضها".
ونسوق على هذا: أن علي بن سعيد الأندلسي دخل مصر في أوائل القرن السابع، فاحتفل به أدباؤها، وأقاموا له في بعض المتنزهات بظاهر القاهرة مأدبة؛ ومما جرى في هذا الاحتفال من الملح الأدبية: أن أبا الحسين الجزار داس بساطاً من النرجس، فقال له ابن سعيد مرتجلاً:
يا واطئ النرجس ما تستحي
…
أن تطأ الأعينَ بالأرجل
وجاراه بعض الأدباء وقتئذ بشعر يناسب هذا البيت.
وكذلك كانت مصر تبسم في وجوه الأدباء منذ عهد قديم، وأذكر أن
الشاعر المعروف بكشاجم قد وردها في القرن الرابع، وأقام بها مدة، ثم ارتحل عنها؛ فأخذه إليها شوق شديد، فلم يكن إلا أن عاد إليها، واتخذها دار إقامة، وقال:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني
…
فالآن عدت وعادت مصر لي دارا
ولا يشتاق الأديب إلى وطن إلا أن يكون للأدب في ذلك الوطن نَفاق، ولمقام الأديب فيه نباهة.
وأضيف إلى هذا: أن الأديب إبراهيم الرقيق التونسي أحد شعراء القرن الخامس، زار مصر، فاحتفى به أدباؤها، ولما عاد إلى تونس، قال شعراً يتشوق إلى هؤلاء الأدباء، ومما قال:
هل الريحُ إن سارتْ مشرِّقَةً تسري
…
تؤدي تحياتي إلى ساكني مصرِ
فما خطرت إلا بكيتُ صبابةً
…
وحمَّلْتُها ما ضاقَ عن حمله صدري
تراني إذا هبَّتْ قبولاً بنشرهم
…
شممت نسيم المسك من ذلك النشر
ألا إن الأدب الزاهر إذا لقي فِطَراً سليمة، وأذواقاً صافية؛ كان من ألطف وسائل التأليف بين الأفراد والجماعات:
وقرابةُ الأدباءِ يقصُرُ دونهَا
…
عند الأديب قرابةُ الأرحام