الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر الشعر في التّرويح على النّفس وإثارة العواطف الشّريفة
(1)
ترتاح النفوس لسماع الشعر أكثرَ مما ترتاح لسماع النثر المساوي له في مرتبة البلاغة، ذلك أن الشعر يمتاز بالوزن والقافية، ولورود الألفاظ في جمل موزونة، ومنتهية بقافية، وقعٌ تلذه النفس، زائدٌ على ما تلذّ من موقع الفصاحة والبراعة.
ثم إن الشاعر يطلق لخياله العنان، فيؤلف من المعاني التي يقع عليها الخيال صوراً شائقة ليس من عادة البلغاء إيراد أمثالها في منثور الكلام.
ويضاف إلى هذا: أن للبلغاء أساليب في الشعر غير أساليب الكلام المنثور، أساليب يستدعيها رعاية الوزن والقافية، أو يستدعيها إرسال الخيال في أودية لا يحوم بها خيال الكاتب أو الخطيب.
وهذا الذي امتاز به الشعر؛ من الوزن والقافية، والأساليب الغريبة، وصور المعاني الطريفة، جعله يفعل في النفوس مالا يفعله المنثور من القول، وجعله يخرج النفوس من الهمود إلى انتباه، ومن الانقباض إلى ارتياح، ومن النفور إلى إقبال، بل زعم بعضهم: أن من الشعر البليغ ما ينسي الوطن والأهل.
(1) محاضرة الإمام في الإذاعة بالقاهرة يوم الثلاثاء 11 شعبان 1355 هـ، ونشرت في الجزء الثالث من المجلد التاسع - مجلة "الهداية الإسلامية ".
أورد أبو علي القالي قصيدة، وحكى: أن بعض أهل العلم سمعها وهو في دار غربة، فقال: أنستني أهلي، وهان عليّ طول الغربة، ومن أبيات هذه القصيدة:
فإن تكن الأيامُ فينا تبدَّلتْ
…
ببؤسٍ ونُعْمى والحوادثُ تفعلُ
فما ليَّنتْ مني قناةً صَليبةً
…
ولا ذللتنا للذي ليس يجملُ
ولكن رحلناها نفوساً كريمة
…
تُحمَّل ما لا يُستطاعُ فتَحْمِلُ
ترتاح النفوس للشعر على حسب موافقته لأهوائها، أو طبائعها، أو جهات سيرها في الحياة، فالكاتب - مثلاً - يرتاح لقول الشاعر:
ولي قلمٌ في أنملي إن هززته
…
فما ضرني أن لا أهز المهنَّدا
أكثرمما يرتاح له البطل الذي لا يعرف الكتابة، وإنما يعرف كيف يضرب بالمهند في ميادين الحروب.
والبطل الهمام يهتز لمثل قول ابن عمار:
السيفُ أصدقُ من زيادٍ خُطبةً
…
في الحرب إن كانت يمينك منبرا
بأشد مما يهتز له الخطيب الذي لم تقع يده على رمح أو حسام.
ويغلب في الظن: أن عبدالله بن عبد العزيز العمري لم يكن حريصاً على رفاهية العيش حرصَ من يتقطع قلبه لفواتها، ذلك لأنه أعجب بشعر يمجد القناعة، ويجعل الرفاهية في جانبها أمراً لا يؤسف لفقده، حيث قال: أشعر الناس أبو العتاهية يقول:
ما ضرّ من جعل الترابَ مهادَه
…
أن لا ينامَ على الحريرِ إذا قنع
ولو أنشد منشد قول دعبل:
ولست بذي وجهين فيمن عرفته
…
ولا البخلُ فاعلم من سمائي ولا أرضي
لم يطرب له أشد الطرب إلا شخص لا يمسك يده عن الإنفاق في سبيل الخير، ولا يعرف للنفاق عيناً ولا أثراً.
قد يبتهج الرجل للشعر من جهة أنه يحمل مدحاً وإطراء له أو لبعض من يحبهم ويحبونه، وأوضح ما يدلك على أن ارتياح الرجل للشعر إنما نشأ من براعة الشعر نفسه: أن ترى الرجل معجباً بشعر مُدح به بعض خصومه، أو معجباً بشعر تضمن إنكار عمل صدر منه.
تقرأ في كتب الأدب: أن عضد الدولة قتل أبا طاهر محمد بن بقية صلباً، فرثاه أبو الحسن الأبياري بقصيدته التي يقول في أولها:
علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ
…
لحقٌّ تلك إحدى المعجزات
وكتبها، ورماها في شوارع بغداد، ولما وصلت إلى عضد الدولة، أعجب بها، وتمنى أن يكون هو المصلوب والمرثي بهذه القصيدة.
ومن دلائل ارتياح الرجل للشعر من حيث إنه جيد الصنعة: أن يسمع شعراً يمدح به غيره ممن لا يربطه به صلة قرابة أو صداقة، فيجيز الشاعر عن شعره هذا بمال كثير.
أنشد ابن حفصة في مجلس جعفر البرمكي قصيدته التي رثى بها معن ابن زائدة، فرقَّ جعفر لسماعها، وأمر له بجائزة سنية، ومما يقول ابن أبي حفصة في هذه القصيدة:
مضى لسبيله معنٌ وأبقى
…
مكارمَ لن تبيدَ ولن تنالا
كأن الشمسَ يومَ أصيب معنٌ
…
من الإظلام ملبسَةٌ جلالا
فإن يعلُ البلادَ له خشوعٌ
…
فقد كانت تطول به اختيالا
ومن هذا القبيل: أن يشهد الشاعر ببراعة شعر بعض معاصريه؛ فان التنافس الذي يقع بين الشعراء يبلغ أن يصد الشاعر عن أن يشهد لشاعر يعاصره بالإبداع؛ إلا أن يكون الشعر قد أخذ بمجامع قلبه، وكان فيه شيء من خلق الإنصاف.
أنشد أبو العتاهية بين يدي المهدي قصيدته التي هنأه فيها بالخلافة، وكان بشار حاضراً، فلما وصل أبو العتاهية إلى قوله:
أتته الخلافةُ منقادةً
…
إليه تجرّر أذيالها
فلم تكُ تصلُح إلاله
…
ولم يك يصلح إلالها
وإن الخليفة من يغض لا
…
إليه ليبغض من قالها
تملك بشاراً الطرب، وقال لمن بجانبه: أترى الخليفة لم يطر من فراشه طرباً لما يأتي به هذا الكوفي!.
وأعجب الشاعر أبو العميثل ببيتين لأبي تمام من قصيدة يمدح بها عبدالله ابن طاهر، وهما:
يقول في قومس قومي وقد أخذت
…
منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
…
فقلت: كلا ولكن مطلع الجود
حتى إن أبا العميثل لما أراد استعطاف عبدالله بن طاهر على أبي تمام، ذكر له البيتين، فبالغ عبدالله في إكرام أبي تمام.
وسمع الفرزدق أبياتاً لعمر بن أبي ربيعة في النسيب، فصاح قائلاً: هذا - والله - الذي أرادته الشعراء، فأخطأته، وبكت الديار.
تُسيغ النفس الشعر، فتأخذها هزة الارتياح، ولا تتمالك أن تعبر بقول، أو تفعل ما يدل على إعجابها به؛ أنشد أبو تمام أبا دلف قصيدته التي رثى بها محمد بن حميد، فقال أبو دلف: لم يمت من رُثي بمثل هذا الشعر، ومن عيون هذه القصيدة:
كأن بني نبهانَ يوم مُصابه
…
نجومُ سماء خرَّ من بينها البدرُ
وأنشد ابن الأعرابي أبيات أبي العتاهية التي يقول فيها:
واصبر على غِيَرِ الزمان فإنما
…
فرجُ الشدائد مثلُ حَلِّ عِقال
ثم قال لجليسه: هل تعرف أحداً يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟
وسمع الأصمعي أبيات نصيب التي يقول فيها:
ولا خير في ودِّ امرئ متكارهٍ
…
عليك ولا في صاحبٍ لا توافقُهْ
إذا المرءُلم يبذل من الود مثلما
…
بذلتُ له فاعلم بأني مفارقُهْ
فقال: قاتل الله نصيباً ما أشعره!.
واقترح الملك العادل على الشاعر ابن ظافر نظم قصيدة في المجلس، يرسلها جواباً عن قصيدة بعث بها الملك المعظم بالشام، فارتجل ابن ظافر قصيدة قال صاحب "نفح الطيب": صفقت لها أيدي الحاضرين إعجاباً ببلاغتها، ومما يقول في هذه القصيدة:
يكفي الأعادي حَرُّ بأسك فيهم
…
أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا
ويقول على لسان الملك العادل:
مكثي جهادٌ للعدو لأنني
…
أغزوه بالرأي السديد دراكا
وأعجب الرشيد بقول الشاعر في مدح القائد يزيد بن مزيد:
تراه في الأمن في درع مضاعفةٍ
…
لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عجل
فروى الرشيد البيت، ووصل قائله بجائزة، ويزيد بن مزيد لا يشعر بما فعل الرشيد.
ووفد جعفر بن محمد بن شرف على المعتصم بن صُمادح، وأنشده قصيدة شكا فيها اعتداء بعض العمال على مزرعة له باحدى القرى، فلما وصل في إنشاد القصيدة إلى قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر
…
إلا الذي في عيون الغيد من حور
قال له المعتصم: كم في القرية التي تزرع فيها من بيت؟ قال: خمسون بيتأ، قال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد.
والواقع أن هذا البيت من أبرع ما تصنعه قرائح الشعراء، والخمسون بيتاً قروياً قيمة له غير مبال في تقديرها، ولو وصلنا إلى مافي نفولس الشعراء لذلك الحين، لوجدنا الذين اغتبطوا الشاعر على هذا البيت المصنوع من درر الألفاظ أكثر ممن اغتبطوه على تلك البيوت المصنوعة من الطين والحجارة. وسمع ابن جني قول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
فقال: لو لم يقل المتنبي غير هذا البيت، لتقدم به أكثر المحدثين.
وأنشد محمد بن كناسة إسحاق بن إبراهيم بيتين من الشعر، فقال إسحاق: وددت - والله - لو أن هذين البيتين لي بنصف ما أملك. والبيتان هما:
فيّ انقباض وحشمة فإذا
…
صادفت أهل الوفا والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها
…
وقلت ما قلت غيرَ محتشم
ودخل جماعة من الشعراء على المنصور، فأنشدوه قصائدهم من وراء حجاب، ودخل الشاعر المعروف بابن هرمة في آخرهم، وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظات في خفايا سريره
…
إذا كرها فيها عقاب ونائل
فقال: يا غلام! ارفع الحجاب، وفضله عليهم في الجائزة.
كنت لقيت المرحوم محمد فريد في "برلين"، فقال لي: إني اشتقت إلى قراءة كتاب عربي، فهل عندك من كتاب تعيرني إياه؟ فبعثت إليه بكتاب "الوساطة بين المتنيي وخصومه" للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، ولقيته بعد حين، فقال لي: لم أعجب من الكتاب إلا بأبيات للمؤلف وردت في صدر الكتاب، ومن شدة إعجابي بها نقلتها في مذكرة. يريد: الأبيات التي يقول فيها صاحب "الوساطة":
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
…
بدا طمع صيرته لي سُلَّما
أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة
…
إذن فاتباعُ الجهل قد كان أحزما
ومن مظاهر الإعجاب بالشعر: أن يأخذ الرجل عقب سماعه في ترديد البيت أو الشطر الذي كان إعجابه به أشد، سمع دعبل قول أبي تمام:
وأنجدتم من بعد إتهام أرضكم
…
فيا دمعُ أنجدني على ساكني نجد
فقال: أحسن والله، وأخذ يردد قوله:"فيا دمع أنجدني على ساكني نجد".
ومن الطرق التي يدلون بها على إعجابهم بالشعر: أن يذكر لك الأديب شاعراً، ويقول لك: وهو الذي يقول كذا.
ذكر الجاحظ عتبان بن أصيلة الشيباني في كتاب "البيان"، وقال: وهو الذي يقول:
ولا صلحَ ما دامت منابرُ أرضنا
…
يقوم عليها من ثقيف خطيبُ
وقد يحتاج الشاعر إلى أن يدل على سمو مكانته في الشعر قوماً يجهلونها، فيقصد إلى أحسن ما يحضره من شعره، ويقول: أنا القائل كذا.
دخل أبو محمد جعفر المعروف بعنق الفضة مجلساً فيه ابن خفاجة، فقال له ابن خفاجة: ليت شعري من تكون؟ قال: أنا القائل:
كلما هبَّت شمالٌ منهم
…
لعبت بي عن يمين وشمال
فارقت فكرتي أرواحها
…
فأتت منهن بالسحر الحلال
فقال ابن خفاجة: من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل.
وقد يبلغ الطرب للشعر أن يخرج صاحبه عن عادة أمثاله، فيقول أو يفعل ما لا يلائم الرويَّة والوقار. سمع العباس بن الأحنف قصيدة ابن الدمينة التي يقول في أولها:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجدِ
…
فقد زادني مسراكَ وجداً على وجدِ
فحفظها، وجاء بها إلى إبراهيم الموصلي، وبعد أن أنشدها، ترنح وقال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا الشعر؟!.
وأنشد أبو تمام في مجلس الحسن بن رجاء قصيدته اللامية المعروفة، ولما وصل إلى قوله:
لا تنكري عَطَلَ الكريمِ من الغنى
…
فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
وتنظري حيث الركاب ينصها
…
محيي القريض إلى مميت المال
قام الحسن على رجليه، وقال لأبي تمام: والله! لا أتممتها إلا وأنا قائم.
ونقرأ في كتب الأدب: أن مروان بن حفصة دخل على الخليفة المهدي، وأنشده قصيدته التي يقول في أولها:
"طرقتك زائرة فحي خيالها"
فأنصت لها المهدي، ولم يزل يزحف كلما سمع شيئاً حتى صار على البساط؛ إعجاباً بما سمع.
وسمع أبو السائب المخزومي بيتي جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
…
وَشَلاً بعينك لا يزال مَعينا
غَيَّضْنَ من عبراتهن وقلن لي
…
ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا
فاشتد لهما طربه، وحلف أن لا يرد على أحد سلاماً، ولا يكلمنه إلا بهذين البيتين، حتى يرجع إلى منزله.
وقد يبلغ الرجل من ابتهاجه للشعر أن يمتنع من سماع شعر بعده في تلك الساعة، أو في ذلك اليوم.
دخل محمد بن العباس بن التيفاشي على عبد المؤمن بن علي، وابتدأ في إنشاد قصيدته اللامية المعروفة، فلما أنشد البيت الأول منها، وهو قوله:
ما هزَّ عطفيه بين البيض والأسل
…
مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي
أشار عبد المؤمن إلى الشاعر أن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار.
ودخل جماعة من الشعراء على المعتضد بن عباد ليلقوا بين يديه قصائدهم، وكان من بينهم الشاعر المدعو بابن جناح البطليوسي، فتقدم
وأنشد قصيدته التي يقول في أولها:
قطَّعت يا يومَ النوى أكبادي
…
ونفيتَ عن عيني لذيذ رقادي
فلما انتهى من إنشادها، قال المعتضد: اجلس؛ فقد وليتك رياسة الشعراء، ولم يأذن في الكلام لأحد بعده.
ومن شدة إعجاب الرجل بالبيت: اتخاذه له كمثل يضربه عند كل مناسبة؛ كما كان سيف الدولة يكثر من إنشاد قول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روضَ الأماني لم يزل مهزولا
وأذكر بهذا: أن الأبيات التي أعجبت بها أشد الإعجاب، أجدني أذكرها - ولو في نفسي - عند كل مناسبة، ومن هذا الطرز قول أبي تمام:
من لم يسسْ ويطير في خيشومه
…
رهجُ الخميس فلن يقودَ خميسا
إن الشعر البارع يبهج النفوس بجودة تصوير معانيه، وحسن صياغة ألفاظه، من غير نظر إلى قيمة الغرض الذي يرمي إليه، ومن هنا نرى بعض أهل الجد والورع قد يرتاحون لسماع شعر يعدون معانيه من قبيل اللهو، وهذا عمر بن أبي العلا، قد سئل عن أبدع الناس شعراً، فقال: الذي يقول:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
…
ونفى عني الكرى طيفٌ ألمْ
روّحي عني قليلاً واعلمي
…
أنني يا عبل من لحم ودم
يعني: بشار بن برد.
وكان عمر بن عبد العزيز يستجيد - وهو أمير المدينة - قصيدة نصيب التي يقول في أولها:
قفا أخويّ إن الدار ليست
…
كما كانت بعهد كما تكون
ولما لقي نصيباً، قال له: أنشدني قولك: "قفا أخوي"؛ فإن شيطانك كان لك فيها ناصحًا حين لقنك إياها.
وإذا كانت النفوس تبتهج لحسن صناعة الشعر، فإن ابتهاجها يجعلها تقبل على ما يعرضه عليها من حكمة، أو يسديه إليها من نصيحة، والشعر إما أن يعطي الحكمة في صراحة؛ كالبيت الذي قال فيه الأصمعي: إنه أبرع بيت قالته العرب، وهو قول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبتها
…
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنعُ
والبيت الذي قالوا: إن العرب لم تقل بيتاً أصدق منه، وهو قول الحطيئة:
من يفعل الخيرَ لم يعدمْ جوازيه
…
لا يذهبُ العرفُ بينَ اللهِ والناسِ
والبيت الذي قيل: إنه أحكم بيت قالته العرب، وهو قول الآخر:
ولربما ابتسم الكريمُ من الأذى
…
وفؤادُه من حرّه يتأوه
وإما أن تستفيد منه الحكمة من طريق غير صريح؛ كبعض الشعر الذي يقال في نحو المديح أو الحماسة، فمن الشعر الذي يسمو بالنفس إلى فضيلة الشجاعة وحماية المستجير، وإن ورد في سياق المديح: قول الشاعر:
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم
…
ولووا عمائمهم على الأقمار
إن خوّفوك لقيت كل كريهة
…
أو أمّنوك حللت دار قرار
ومن الشعر الذي يطبع النفوس على التعفف والتجمل، وإن جاء في معنى الفخر، أو التحدث بالنعمة: قول مهيار الديلمي:
وأُري العدوَّ على الخصاصة شارةً
…
تصف الغنى فيخالُني متمِّولا
وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرةً
…
وأمانياً أفنيتهن توكّلا
للشعر العربي أثر في تهذيب الأخلاق؛ بما يعطيه من الحكمة صراحة أو تلويحًا، وهو -بعد هذا- يثير العواطف الشريفة، فيبعث على نحو العفو والسماحة، وإخلاص الود، والثبات في المواقف المحفوفة بالأخطار.
قال معاوية بن أبي سفيان: "اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم؛ فلقد رأيتني بصفين أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة"؛ يعني: التي يقول فيها:
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانَكِ تُحمي أو تستريحي
وإذا كان الشعر العربي معدوداً من وسائل الإصلاح، فمن حق أبنائنا علينا أن نلقنهم أشعار بلغائنا، وأن نسلك بطائفة منهم طريقة التمرين على النبوغ في الشعر، ثم نحتفي بهؤلاء النوابغ ما رفعوا شأن الأدب العربي، وأدنوا للناس قطوف الحكمة.