الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما أقبح المين قلتم لم يشب أحد
…
حتى أتى الشيب إبراهيم عن أَمَمِ
كذبتم ونجوم الليل شاهدة
…
أن المشيب قديماً حلَّ في الأُمَمِ
فكأَنه يقول: هذه الرواية الملفقة ليست أهلاً لأن تقابل بغير هذا الرد القائم على الخيال.
ويقرب من تخييل نجوم الليل بالمشيب قولُ أحمد بن دراج القسطلي يصف المجرة:
وقد خيلت طرق المجرَّةِ أنها
…
على مفرقِ الليل البهيم قتيرُ
وربما لا يجد الشاعر داعياً إلى مسلك التخييل بعد بسط النفس، سوى التنبيه على ما بين المعاني من المناسبات الخفية، أو مجاراة البلغاء، وإقامة الشاهد على الحذق في هذه الصناعة، ومما يرمي إلى أحد هذين الغرضين: ما يتعلق به الأدباء في وصف بعض المناظر الفطرية؛ كالكواكب، والحدائق، أو الصناعية؛ كالشمعة، والسفينة.
*
أطوار الخيال:
كان العرب في الجاهلية يعيشون في مواطن لا يشهدون فيها غير مناظر فطرية؛ كالكواكب، وبعض النبات والحيوان، أو مرافق حيوية، ووسائل حربية؛ كالرحى، والجفنة، والرمح، والحسام، ولصفاء قرائحهم، وسلامة أذواقهم أضافوا إلى هذه الحقائق ما يخطر على ضمائرهم، ويدركونه بحاسة وجدانهم من المعاني التي لا تنالها الحواس الظاهرة؛ كالغضب، والرضاء، والبغض، والمحبة، ونسجوا على مثال التخيل صوراً بديعة.
وإن رأى المدني اليوم أن معظم تلك الصور من التخيلات القريبة،
فعذرهم في ذلك: أنهم لم ينفذوا في مسالك الفلسفة، ولم يعودوا أنفسهم التنقيب عن المعاني الغامضة، وإنما كانوا ينطقون بالشعر على البداهة، فمن وقفت له على معنى رائع؛ كقول النابغة يخاطب النعمان بن المنذر:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ
فقد لفظته قريحته عفواً، وانساق إليها بدون إجهاد نظر، ومن ثم كانت أمثال هذا التخيل الجيد نادرة في أشعارهم، ولو كانوا ممن يذهب في صوغ المعاني إلى إزعاج الفكر، وحثّه على استخراجها من مغاصها العميق، كما يفعل المولدون، لظفرنا له بنظائر لا تحصى، ثم إن فن التخيل كسائر الملكات والصنائع، إنما يترقى شيئاً فشيئاً، ويتكامل يوماً فيوماً، فتطلع لزهير ابن أبي سلمى مثلاً على تخيلات لا تظفر بها في أشعار من تقدموه بأمد بعيد، فالعهد الذي يعبر فيه هذا الشاعر عن معنى أن من لم يجب إلى الأمر الصغير يقع تحت وطأة الأمر الكبير بقوله:
ومن يعصِ أَطرافَ الزَّجاج فإنه
…
يطيع العوالي ركِّبت كلَّ لهذمِ
لا يصح أن يكون من أوائل العصور التي ظهر فيها التخيل الشعري، فهذه الغاية من حسن البيان لا يدركها الناس بفطرتهم إلا بعد أن يتقلبوا في سبيلها أطواراً، ويقضون في السير إليها أحقاباً، كما أن ابن سفر الأندلسي لو نشأ في البيئة والعصر اللذين نشأ فيهما زهير، لم يسهل عليه أن يصف نهر إشبيلية الذي يصعد فيه الماء مسافة بعيدة، ثم يحسر بقوله:
شقَّ النسيمُ عليه جيبَ قميصه
…
فانساب من شطيه يطلبُ ثاره
فتضاحكت وُرْق الحمام بدوحها
…
هزءاً فضمَّ من الحياءِ رداءه
ثم بزغت شمس الإسلام، وكان من أساليب القرآن في الدعوة أن ضرب الأمثال الرائعة، وصاغ التشابيه الرائقة، والاستعارات الفائقة، والكنايات اللطيفة، ويضاف إلى هذا: ما كان ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام من الأقوال الطافحة بالأمثال والاستعارات والكنايات، التي لم تخطر على قلب عربي قبله، فكان مطلع الإسلام مما زاد البلغاء خبرة بتصريف المعاني، وترقى بهم إلى منزلة سامية في صناعة التخييل.
أخذ الخيال يتقدم بخطوات أوسع مما كان يسير به في الجاهلية، ولكن الأدباء إلى أواخر عهد الدولة الأموية، لم يبعدوا عن طرقه المعهودة، ويغيروا أساليبه تغييراً يشعر به كل أحد. فلو قال قائل: إن عبدالله بن الدمينة، أو عمر ابن أبي ربيعة، أو جميل، أوكثير، شاعر جاهلي، لم يكن لك أن تدخل إلى مغالبته وإبطال دعواه بإقامة الحجة من مناهج تخيلاتهم؛ كأن تجلب له من أشعارهم أمثلة ينكشف بها جلياً أنهم ساروا في التخيل على نمط لم ينسج عليه الجاهلية، ولكنك إذا نظرت في مجموعة الشعر الجاهلي، ثم وازنته بمجموعة الشعر الإسلامي، تيقنت أن الخيال قد بعد شأوه، واتسع نطاقه؛ لأنك تقف على تصرفات كثيرة من تشابيه مبتكرة، واستعارات لم يحم عليها شعراء الجاهلية، وإن كانت مفرغة في قوالبهم، مرسومة على خططهم.
ثم ظهر في أوائل عهد الدولة العباسية مثل بشار، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وعبد السلام الملقب بديك الجن، فأصبحت مسافة الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي واضحة لكل من له أدنى بصيرة، فلو ادعى مدع أن ديك الجن شاعر جاهلي، أو من شعراء صدر الإسلام، لكفاك في إفحامه أن تتلو عليه نبذة من شعره الذي أوغل فيه إلى حد يبدو عليه أثر التصنع؛
كالبيت الذي أعجب به أبو نواس، وقال له عندما اجتاز بحمص: إنك قد فتنت به أهل العراق، أعني قوله يصف الخمر:
مورَّدةٌ من كفِّ ظبي كأنما
…
تناولها من خدِّه فأدارها
وجاء بعد هؤلاء ابن المعتز، وابن الرومي، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، وقد استحكمت عرا المدنية، وتجلت لهم الحضارة في أجلى مظاهرها، فكانوا أكثر ممن تقدمهم تفنناً في صناعة التشبيه والاستعارة، وما يلحق بها من تصرفات الخيال؛ كالتورية، والمقابلة، وحسن التخلص من غرض إلى آخر. وهذا لا يمنعك أن تقضي للسابقين بأنهم أقوى عارضة، وأدرى بصناعة الشعر من ناحية سبك الألفاظ، ومتانة بنائها.
وبعد أن عني الناس بالنظر في شؤون الكون، وسلكوا في البحث عن أسراره طريقاً فلسفياً، أخذ الخيال الشعري يعمل في الحقائق الفلسفية، ويجري وراء الفكر كالمسعف له في تصوير تلك المعاني الغامضة؛ كما تراه في مثل قصيدة ابن سينا في النفس المفتتحة بقوله:
هبطت إليك من المحل الأرفعِ
…
ورقاءُ ذاتُ تعزُّزٍ وتمنعِ
وقصيدة المعري المفتتحة بقوله:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي
…
نَوْحُ باكٍ ولاترنُّمُ شادِ
وقول أبي بكر بن الطفيل يصف حال الروح والجسد:
نورٌ تردد في طين إلى أجلٍ
…
فانحاز علواً وخلىّ الطين للكفن
ياشدَ ما افترقا من بعدما اجتمعا
…
أظنها هدنةً كانت على دَخَنِ
إن لم يكن في رضا الله اجتماعُهما
…
فيالها صفقةً تمت على غبنِ
وفي هذه الصبغة خرج كثير من أشعار الصوفية؛ كما تراه فيما ينسب إلى الشيخ ابن عربي، وابن الفارض.
وقام بإزاء هذه النزعة الفلسفية: أن الشعراء عندما اتسعت دائرة العلوم الإسلامية، ونقلت العلوم النظرية إلى العربية، مدَّ بعضهم يده إلى قضايا هذه العلوم واصطلاحاتها، فخلط بها الصور الخيالية؛ كقول أبي تمام:
خرقاءُ يلعب بالعقول حبابُها
…
كتلاعب الأفعال بالأسماء
وقول ابن جابر يمدح الرسول الأعظم - صلوات الله عليه -:
أضفت إلى رحماك نفسي فأصبحت
…
ذنوبي كالتنوين تستوجب الحذفا
وقول الشاعر حيص بيص:
لا تضع من عظيم قدر وإن
…
كنت المشار إليه بالتعظيم
ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ
…
ـر بتنجيسها وبالتحريم
وقول ابن الخطيب:
ونقطةُ قلبٍ أصبحت منشأ الهوى
…
وعن نقطةٍ موهومةٍ ينشأ الخطُّ
وقول أبي علي المهندس:
كأن فؤادي مركز وهمُ له
…
محيطٌ وأهوائي لديه خطوط
وكذلك كانوا يقتبسون من سائر العلوم، حتى راق لكثير من المتأخرين أن يجعلوا قصائدهم كنموذج يلوح به إلى علوم شتى، ومن أثر ممارستهم للعلوم النظرية: إيراد التشابيه في أساليب منطقية؛ كقول بعضهم:
لو لم يكن أقحواناً ثَغْرُ مبسمها
…
ما كان يزداد طيباً ساعةَ السحر