الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو أن يقف، فتنقطع عنه مذاهب القول، فلا يدري أين يضع كلامه، ومن أسباب الإرتاج: الدهش والانبهار الذي يأخذ النفس من هيبة الملأ العظيم، أو هيبة الرجل الذي شأنه أن ينقد الأقوال بعقل موزون. وحال الدهش والانبهار إنما تغشى ذلك الذي لم يكن على ثقة من كفايته لمقام الخطابة، فيخشى أن يقع في معنى سخيف، أو لفظ مرذول. قال الكميت بن زيد: إنما يجترئ على الخطابة الغمر الجاهل، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره.
والخطيب المتصنع متى أُرتج عليه، لم يسعه إلا أن يدع الكلام، وينزل عن مقام الخطابة صاغراً. أما الخطيب المطبوع، فقد ينبو فكره عن الغرض الذي وقف من أجله، ولكنه لا يعجز أن يسمع الناس كلمات بليغة يصون بها موقفه من أن يسام بغضاضة أو ازدراء.
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر، فأُرتج عليه، فمكث ملياً لا يتكلم، ثم تكلم فقال: أما بعد: فإن هذا الكلام يجيء أحياناً، ويعزب أحياناً، فيسيح عند مجيئه سيبه، ويعز عند عزوبه طلبه، إلى أن قال: وقد يرتج على البليغ لسانه، ويختلج من الجريء جنانه، وسأعود فأقول -إن شاء الله-.
ويروى في هذا الصدد أن ثابت بن قطنة سعد منبر سجستان، فقال: الحمد لله. ثم أُرتج عليه، فنزل وهو يقول:
فإن لا أكنْ فيكم خطيباً
…
فإنني بسيفي في يوم الوغي لخطيبُ
فقيل له: لو قلتها فوق المنبر، لكنت أخطب الناس.
*
الارتجال في الخطابة:
في الناس من يقف ليخطب، فتنهال عليه المعاني، وتتسابق إليه الألفاظ،
فيسترسل في القول دون أن يدركه حَصَر، أو يتعثر في لجلجة، وهذا ما نسميه: ارتجالاً. وفي الناس من تجيئه المعاني على مهل، وتتوارد إليه الألفاظ في تباطؤ، فلا يحسن أن يخطب إلا بعد أن يعدَّ لمقام الخطبة مقالاً.
قال أبو هلال العسكري: في الناس من إذا خل ابن فيه، وأَعمل فكره، أتى بالبيان العجيب، واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاور أو ناظر، قصر وتأخر، فخليق بهذا أن لا يتعرض لارتجال الخطب.
وكانوا فيما سلف يتهمون الخطيب المبدع بأنه يهيئ الخطب، ويحبرها تحبيرًا، وإنما ينفي عنه هذه التهمة أن يحدث داع للخطابة فجأة، فيقف ويخطب بما يشبه خطبه السابقة ارتجالاً. قيل لبعض الخلفاء: إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعيره، فلو أمرت أن يصعد المنبر، لرجوت أن يفتضح. فأمر رسولاً فأخذ بيده إلى المسجد، فلم يفارقه حتى صعد المنبر، فارتجل كلاماً يشبه طرز خطبه، فعرفوا أنه من أولئك الذين يستطيعون أن يقتضبوا الخطب ساعة يقومون على أعواد المنابر اقتضاباً.
فبلاغة الخطبة في نفسها مزية، وارتجالها بعد هذا مزية أخرى، وإنما يقوى على ارتجال الخطبة وإلقائها متماسكة الحلقات، من سبق له أن أدرك معاني كثيرة تتصل بالموضوع، وكانت له حافظة قوية تؤدي إليه صورة هذه المعافي كما أودعها، وكان بعد هذا ألمعيًا مهذبًا، يحسن التصرف في هذه الصور، ويضع كل صورة بالمكان اللائق بها.
أيها السادة:
هذا ما سمح المقام بعرضه على أسماع شبابنا الأذكياء، وإنما قصدنا تذكرتهم بهذا الفن الجليل من الخطابة، لعلهم يمنحونه من إقبالهم جانباً؛
فإن الحاجة الشديدة إليه قائمة، والدواعي إلى ترقيته وتوسيع نطاقه مجتمعة، وأولو الألباب هم الذين يقدرون الحاجات، فيبادرون إلى سدها، ويستمعون إلى الدواعي، فيحسنون إجابتها.