الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقف عندها، وأوزاناً ينتهي إليها، والقرآن يصوغ الموعظة، وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضاقت عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا بالدعاوى التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون، وهم يشهدون في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجّة، وأنطقهم بالحكمة.
وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان، فهي على سلامتها من بهرج التخيلات لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا يصح لأحد أن يسميه شعراً ليقدح به في قوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41].
*
التخييل عند علماء البلاغة:
ينقسم التصرف في المعاني على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني إلى: تحقيق، وتخييل، والفارق بينهما: أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة، وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره، والعمل بموجبه؛ كقول المتنبي:
لايسلمُ الشرفُ الرفيع من الأذى
…
حتى يراقَ على جوانبهِ الدمُ
فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم، ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها، والاستئثار بحقوقها؟!.
والتخييلي: هو الذي يردّه العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إمّا على البديهة؛ كقول بعضهم:
لولم تكن نيّةُ الجوزاء خدمتَه
…
لما رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتَطِقِ
فكلُّ أحد يدرك لأولِّ ما يطرق سمعه هذا البيت: أن الكواكب لا تنوي، ولا تنطق، ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركّبة فيها من قبل أن يصير الممدوح شيئاً مذكوراً.
أوبعد نظر قليل؛ كقول أبي تمام:
لا تنكري عَطَلَ الكريمِ من الغنى
…
فالسيلُ حربٌ للمكانِ العالي
نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال، وأخبر في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه صحيح، ولكنّ الفاء في قوله:"فالسيل حرب" أفصحت بأن السبب في عدم توفر حطام الدنيا لدى الكريم، هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن الماء الدافق ينساق إلى الرجل فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بنىِ الحاجات، فيكون القول بأن مكانة الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق، يستند إلى أن الماء يجتمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب. وهذا القياس ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار الماء على الأماكن العالية كونه جرماً سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم