الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني: من الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة: التباين؛ فإن الصور التي يكون بينها تضاد، لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض، فمن تصور الشجاعة، خطر له معنى الجبن، ومن مرت على باله الصداقة، انساق إليه معنى العداوة، ولهذا أدخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين الجملتين ما يقوم بينهما من التضاد في المعنى، وساقوا في أمثلته قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الإنفطار: 13 - 14). وإن شئت مثلاً من الشعر، فقال المتنبي:
أزورهم وسوادُ الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي
ومن هذا الوجه أيضاً صحَّ لهم أن يعدّوا بين علاقات المجاز المرسل: الضدية.
النوع الثالث: التشابه، وهو أن يكون بين المعنيين تماثل في بعض أمور خاصة؛ كمن يرى الرجل المقدام، فيتصور الأسد، ويسمع الألفاظ البليغة قد تبرجت في أسلوب محكم، فيذكر الدرر المتناسقة في أسلاكها. وعلى هذا النوع يقوم فن التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتَّاب.
*
لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني
؟
يختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني إلى أن ترى صوراً تتوارد على شخص متعاقبة، وهي في خيال آخر لا تتقارن البتة. قال أحد الفلاسفة: إني لا أسأل عن السبب في أن معنى من المعاني يدعو آخر ويأخذ بناصيته، ولكنني أبحث في شيءآخر، وهو أن المعنى الواحد قد يختلف تواليه باختلاف الأشخاص. ثم قال: ويمكن الجواب عن هذا: بأن الناس يختلفون في ميولهم،
وشعب وجهتهم في الحياة، فكل معنى يدعو لصاحبه ما هو ألصق، بميله،
وأقرب إلى عمله.
وإيضاح هذا الجواب: أن توالي المعاني يختلف باختلاف الأشخاص لأحد سببين:
الأول: أن الدواعي والعواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني واسترسالها على الخيال، فالطمع أو الحاجة أو الرهبة- مثلاً - تستدعي المعاني العائدة إلى المديح أو الاستعطاف، والغرام يستدعي المعاني الغزلية، والكآبة والأسف يستدعيان معاني الرثاء أو الشكوى، والسرور يستدعي المعاني اللائقة بالتهمئة، والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة، فالزاهد في الدنيا لا يسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها، والخالي من عاطفة الغرام لا يخطر على قلبه من معاني التشبيب ما يخطر على قلب الشجي المستهام.
الثاني: ما يتفق للإنسان في طرز حياته، وهو حال المحيط الذي يتقلب فيه، فيتوالى على خاطر الناشئ في النعيم والترف ما لا يتوالى على خاطر الناشع في حال عسرة وبؤس، ويحضر في نفس من شبَّ في الحاضرة ما لا يحضر في نفس الناشئ في البادية، وينساق إلى خيال الناشئ في شمال المعمورة ما لا يدخل في خيال الناشع في جنوبها، فالمقيم في شمال أوربا - مثلاً - يذكر الشتاء، فتقارنه صورة الثلج، وليس بينهما في ذهن المقيم بالجنوب اقتران واتصال؛ لقلة مشاهدته للثلج، أو عدم وقوع نظره عليه طول حياته، ولو نظر إلى الهلال رجلان، هذا نشأ في الحلية، والآخر اتخذ الحصاد حرفة، فالشأن أن يتداعى إلى الأول صورة السوار، وينتقل منه إلى المعصم أو