الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ الْجَانِي، كَاضْطِرَابِهِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِ الْجَانِي. فَإِنْ اخْتَلَفَا هَلْ فَعَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنْ الْخَطَأُ فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ قَالَ الْمُقْتَصُّ: حَصَلَ هَذَا بِاضْطِرَابِك، أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِك. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ.
فَإِنْ سَرَى الِاسْتِيفَاءُ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ إلَى نَفْسِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، فَمَاتَ، أَوْ إلَى بَعْض أَعْضَائِهِ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ إصْبَعَهُ، فَسَرَى إلَى جَمِيعِ يَدِهِ، أَوْ اقْتَصَّ مِنْهُ بِآلَةٍ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، أَوْ فِي حَالِ حَرٍّ مُفْرِطٍ، أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ، فَسَرَى، فَقَالَ الْقَاضِي: عَلَى الْمُقْتَصِّ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلَيْنِ؛ جَائِزٍ وَمُحَرَّمٍ، وَمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَانْقَسَمَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا فِي حَالِ رِدَّتِهِ وَجُرْحًا بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَمَاتَ مِنْهُمَا. وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ السِّرَايَةِ كُلِّهَا، فِيمَا إذَا اقْتَصَّ بِآلَةِ مَسْمُومَةٍ أَوْ كَالَّةٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِصْبَعَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مُبَاحٌ.
[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ]
(6658)
فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَّا بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ. وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَيَحْرُمُ الْحَيْفُ فِيهِ، فَلَا يُؤْمَنُ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي.
فَإِنْ اسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، وَقَعَ الْمَوْقِعَ، وَيُعَزَّرُ؛ لِافْتِيَاتِهِ بِفِعْلِ مَا مُنِعَ فِعْلُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ، إذَا كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يَقُودُهُ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَاعْتَرَفَ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ، فَاقْتُلْهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِ السُّلْطَانِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْضِرَ شَاهِدَيْنِ، لِئَلَّا يَجْحَدَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءَ. وَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ الِاسْتِيفَاءَ، فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْآلَةَ الَّتِي يَسْتَوْفِي بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَالَّةً مَنَعَهُ الِاسْتِيفَاءَ بِهَا، لِئَلَّا يُعَذِّبَ الْمَقْتُولَ.
وَقَدْ رَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلِيَحُدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» .
وَإِنْ كَانَتْ مَسْمُومَةً، مَنَعَهُ الِاسْتِيفَاءَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْبَدَنَ، وَرُبَّمَا مَنَعَتْ غُسْلَهُ.
وَإِنْ عَجَّلَ فَاسْتَوْفَى بِآلَةِ كَالَّةٍ أَوْ مَسْمُومَةٍ، عُزِّرَ. وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ صَارِمًا غَيْرَ مَسْمُومٍ، نَظَرَ فِي الْوَلِيِّ؛ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيُكْمِلُهُ بِالْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَكَّنَهُ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وَقَالَ عليه السلام: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ مُتَمَيِّزٌ، فَكَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ إذَا أَمْكَنَهُ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْمَعْرِفَةَ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَأَمْكَنَهُ السُّلْطَانُ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَأَبَانَهُ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ، وَأَقَرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، عُزِّرَ.
وَإِنْ قَالَ: أَخْطَأْتَ. وَكَانَتْ الضَّرْبَةُ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْعُنُقِ، كَالرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ، قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ الْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، كَالْوَسْطِ وَالرِّجْلَيْنِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِيهِ. ثُمَّ إنْ أَرَادَ الْعَوْدَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، وَيَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ فِعْلِهِ. وَالثَّانِي: يُمَكَّنُ مِنْهُ. قَالَهُ الْقَاضِي: لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَحَرُّزُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ثَانِيًا. وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، أَمَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَكَانَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَكِّلُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رَجُلٌ يَسْتَوْفِي الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ، فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ لِإِيفَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ، كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمُقْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَى مُوَكِّلِهِ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَاَلَّذِي عَلَى الْجَانِي التَّمْكِينُ دُونَ الْفِعْلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ التَّوْكِيلِ، لَلَزِمَتْهُ أُجْرَةُ الْوَلِيِّ إذَا اسْتَوْفَى بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْجَانِي: أَنَا أَقْتَصُّ لَك مِنْ نَفْسِي. لَمْ يَلْزَمْ تَمْكِينُهُ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ كَالْبَائِعِ لَا يَسْتَوْفِي مِنْ نَفْسِهِ.