الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَنَا أَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، أَوْ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ قَبْلَهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا حَكَمَ، لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ. كَأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْبَيْعِ.
وَكَمَا قَبْلَ الثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ بَعْدَ كَمَالِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا إذَا شَهِدَ بِالدَّيْنِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. أَوْ بِمَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ إذَا أَتَى بِأَكْثَرِ حُرُوفِهَا، وَبِالْمُسَابِقَةِ إذَا قَالَ: مَنْ سَبَقَ إلَى خَمْسِ إصَابَاتٍ. فَسَبَقَ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَبِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَأَمَّا إذَا تَمَّ اللِّعَانُ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُمَا. وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . وَرَوَى سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ:«شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْن الْمُتَلَاعِنَيْنِ» . أَخْرَجَهُمَا سَعِيدٌ.
وَمَتَى قُلْنَا: إنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ. فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ لَمْ يُوجَدْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُلَاعِنْ.
[فَصْلٌ فُرْقَةُ اللِّعَان فَسْخٌ]
(6260)
فَصْلٌ: وَفُرْقَةُ اللِّعَانِ فَسْخٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، تَخْتَصُّ النِّكَاحَ، فَكَانَتْ طَلَاقًا، كَالْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَلَنَا أَنَّهَا فُرْقَةٌ تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكَانَتْ فَسْخًا، كَفُرْقَةِ الرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، كَسَائِرِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ النِّكَاحُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا، لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ.
[فَصْلٌ تحصل الْفُرْقَة بِاللِّعَانِ]
(6261)
فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ قَدْ وَقَعَ بِأَحَدِهِمَا لَتَلَاعُنِهِمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إنَّهَا الْمُوجِبَةُ. أَيْ إنَّهَا تُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُوَ مِنْهُمَا يَقِينًا، فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْعُونَ، فَيَعْلُوَ امْرَأَةً غَيْرَ
مَلْعُونَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلُوَ الْمُسْلِمَةَ كَافِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: لَوْ كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَانِعًا مِنْ دَوَامِ نِكَاحِهِمَا، لَمَنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وُقُوعَ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ بِأَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَيُفْضِي إلَى عُلُوِّ مَلْعُونٍ لِغَيْرِ مَلْعُونَةٍ، أَوْ إلَى إمْسَاكِهِ لِمَلْعُونَةٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ النَّفْرَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ إسَاءَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إنْ كَانَ صَادِقًا، فَقَدْ أَشَاعَ فَاحِشَتَهَا، وَفَضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَقَامَهَا مُقَامَ خِزْيٍ، وَحَقَّقَ عَلَيْهَا اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ، وَقَطَعَ نَسَبَ وَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَقَدْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ بَهْتَهَا وَقَذْفَهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ صَادِقَةً، فَقَدْ أَكْذَبَتْهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ، وَخَانَتْهُ فِي نَفْسِهَا، وَأَلْزَمَتْهُ الْعَارَ وَالْفَضِيحَةَ، وَأَحْوَجَتْهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْمُخْزِي، فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْرَةً مِنْ صَاحِبِهِ، لِمَا حَصَلَ إلَيْهِ مِنْ إسَاءَةٍ لَا يَكَادُ يَلْتَئِمُ لَهُمَا مَعَهَا حَالٌ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ انْحِتَامَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِزَالَةَ الصُّحْبَةِ الْمُتَمَحِّضَةِ مَفْسَدَةً، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى إمْسَاكِهَا، مَعَ مَا صَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعَجْلَانِيُّ: كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا.
(6262)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا شَاذًّا، وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَاَلَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَيْضًا. وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، حَلَّتْ لَهُ، وَعَادَ فِرَاشُهُ بِحَالِهِ. وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ. شَذَّ بِهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا غَيْرَهُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ، فَأَمَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا وَجْهَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِحَالِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْبَتِّيِّ، أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فُرْقَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ عِنْدَهُمَا طَلَاقٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، رُدَّتْ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَنَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.