الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِحُكْمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَابَتَيْنِ تَنْقَسِمُ إلَى مَا تَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، كَابْنِ الْعَمِّ إنْ كَانَ أَخًا مِنْ أُمٍّ، فَإِنَّهُ يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقَرَابَتَيْنِ مِيرَاثًا مُنْفَرِدًا، يَرِثُ السُّدُسَ بِالْأُخُوَّةِ، وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ بِبُنُوَّةِ الْعَمِّ، وَحَجْبُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَجْبِ الْأُخْرَى، فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي قُوَّةٍ وَلَا تَرْجِيحٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّمُ ابْنُ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ مِنْ أُمٍّ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، كَابْنِ الْعَمِّ مِنْ أَبَوَيْنِ مَعَ ابْنِ عَمٍّ مِنْ أَبٍ، لَا تَنْفَرِدُ إحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ بِمِيرَاثٍ عَنْ الْأُخْرَى، فَتُؤَثِّرُ فِي التَّرْجِيحِ وَقُوَّةِ التَّعْصِيبِ؛ وَلِذَلِكَ أَثَّرَتْ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ.
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَيُقْسَمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ» . وَلَنَا، أَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالتَّعْصِيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، كَالْمِيرَاثِ، وَالْخَبَرُ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّنَا نَقْسِمُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ يَفِ بِهِ الْأَقْرَبُ، فَنَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
[فَصْلٌ لَا يَحْمِل الْعَقْل إلَّا مِنْ يَعْرِفُ نَسُبّهُ مِنْ الْقَاتِل]
(6823)
فَصْلٌ: وَلَا يَحْمِلُ الْعَقْلَ إلَّا مَنْ يُعْرَفُ نَسَبُهُ مِنْ الْقَاتِلِ، أَوْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْعَقْلِ، وَمَنْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ لَا يَحْمِلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ قُرَشِيًّا، لَمْ يَلْزَمْ قُرَيْشًا كُلَّهُمْ التَّحَمُّلُ، فَإِنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ قَبَائِلَهُمْ تَفَرَّقَتْ، وَصَارَ كُلُّ قَوْمٍ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ، فَيَعْقِلُ عَنْهُمْ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بَنُو آدَمَ، فَهُمْ رَاجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ إنْ كَانَ مِنْ فَخِذٍ وَاحِدٍ، يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَهُمْ يَتَحَمَّلُونَ، وَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ جَمِيعُهُمْ، سَوَاءٌ عَرَفَ أَحَدُهُمْ نَسَبَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُتَحَمِّلٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.
وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْقَاتِلِ مِنْ أَحَدٍ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ يَعْقِلُونَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ وُجِدَ لَهُ مَنْ يَحْمِلُ بَعْضَ الْعَقْلِ، فَالْبَاقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَذَلِكَ.
[فَصْلٌ عَدَم الْإِجْحَاف عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْمَالِ]
(6824)
فَصْلٌ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تُكَلَّفُ مِنْ الْمَالِ مَا يُجْحِفُ بِهَا، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِلِ، وَالتَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلَا يُخَفِّفُ عَنْ الْجَانِي بِمَا يُثْقِلُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُجْحِفُ بِهِ، كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِجْحَافُ مَشْرُوعًا، كَانَ الْجَانِي أَحَقَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّهِ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْمِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ وَلَا يُؤْذِي. وَهَذَا
مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ، لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ لَا قَطْعَ فِيهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَرَابَةِ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهُ، كَالنَّفَقَةِ. قَالَ: وَيُسَوَّى بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ لِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْدِيرِ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرُبْعِهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ فِي الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارًا وَنِصْفًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ، كَالزَّكَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَكَرَّرُ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى النِّصْفِ، إيجَابًا لَزِيَادَةٍ عَلَى أَقَلِّ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ مُضِرًّا. وَيُعْتَبَرُ الْغِنَى وَالتَّوَسُّطُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْوُجُوبِ، فَاعْتُبِرَ الْحَالُ عِنْدَهُ، كَالزَّكَاةِ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ مِنْ عَدَدِ الْعَاقِلَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ، قُسِمَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَرَاهُ وَإِنْ قَلَّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَجْعَلُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ نِصْفَ مَا عَلَى الْغَنِيِّ، وَيَعُمُّ بِذَلِكَ جَمِيعَهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَخُصُّ الْحَاكِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، لِئَلَّا يَنْقُصَ عَنْ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَيَصِيرَ إلَى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ، فَرُبَّمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ قِيرَاطٌ، فَيَشُقُّ جَمْعُهُ.
وَلَنَا، أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ فَكَانُوا سَوَاءً، كَمَا لَوْ قَلُّوا، وَكَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَشَقَّةِ الْجَمْعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ زِيَادَةِ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ هَذَا تَعَلُّقٌ بِالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهَا، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الدَّلِيلُ، ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِخِفَّةِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَسُهُولَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْحَاكِمُ بَعْضَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ خَصَّهُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَعْرِفَةُ الْأَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ الْإِيجَابُ، وَإِنْ خَصَّهُ بِالتَّحَكُّمِ أَفْضَى إلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا بِشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجِبَ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَرُبَّمَا ارْتَشَى مِنْ بَعْضِهِمْ وَاتُّهِمَ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَدَائِهِ؛ لِكَوْنِهِ يَرَى مِثْلَهُ لَا يُؤَدِّي شَيْئًا مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ.