الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَجْزَأَهُ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِسْكِينَ لَمْ يَسْتَوْفِ قُوتَ يَوْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، فَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا، كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وَهَذَا لَمْ يُطْعِمْ إلَّا وَاحِدًا، فَلَمْ يَمْتَثِلْ الْأَمْرَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ فِي أَيَّامٍ، لَجَازَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ، لَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، وَقَائِلُ هَذَا يَعْتَبِرُ عَدَدَ الْأَيَّامِ دُونَ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، وَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْهَا، وَأَخَذَ مِنْهَا قُوتَ يَوْمٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، كَمَا لَوْ أَوْصَى إنْسَانٌ بِشَيْءٍ لِسِتِّينَ مِسْكِينًا.
[مَسْأَلَة مِقْدَار إطْعَام الْمِسْكِين فِي الظِّهَارِ]
(6211)
مَسْأَلَةٌ قَالَ: (لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَنَّ قَدْرَ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. وَمِمَّنْ قَالَ: مُدُّ بُرٍّ. زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ عَنْهُمْ الْأَثْرَمُ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْت النَّاسَ إذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ، مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُطْعِمُ مُدًّا مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ كَانَ.
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ «أَوْسٍ ابْنِ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ يَعْنِي الْمُظَاهِرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.» وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ» . وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْمُجَامِعِ بِالْخَبَرِ، ثَبَتَ فِي الْمُظَاهِرِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْمُخْرَجِ، كَالْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى. وَقَالَ مَالِكٌ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ. وَمِمَّنْ قَالَ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ؛ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنْ الْقَمْحِ مُدَّانِ، وَمِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ: فَأَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فِي الْمُسْنَدِ، وَأَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ «خُوَيْلَةَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، قَالَ:«كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أَطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَكَانَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثنا إسْمَاعِيلُ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ قَالَ:«جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقٍ شَعِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُظَاهِرِ: أَطْعِمْ هَذَا؛ فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُدُّ بُرٍّ، أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَعَلَى أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الشَّعِيرِ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِخُوَيْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيهِ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» .
وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا. فَعَرَقَانِ يَكُونَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد أَنَّ " الْعَرَقَ سِتُّونَ صَاعًا ". فَقَدْ ضَعَّفَهَا وَقَالَ: غَيْرُهَا أَصَحُّ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: (إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ) . فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: (فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . فَلَوْ كَانَ الْعَرَقُ سِتِّينَ صَاعًا، لَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِائَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا، وَلَا قَائِلَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ الَّذِي أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ:(تَصَدَّقْ بِهِ) . فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إلَيْهِ أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ:(قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ صَاعًا) . وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ. وَحَدِيثُ أَوْسٍ بْن أَخِي عُبَادَةَ مُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ عَنْهُ عَطَاءٌ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ عَرَقًا، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ، فَصَارَا جَمِيعًا ثَلَاثِينَ صَاعًا.
وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ نَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخْبَارِنَا بِحَمْلِهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَأَخْبَارِنَا عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَقَدْ عَضَّدَ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي بَعْضِهَا، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُدَّ مِنْ الْبُرِّ يُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.