الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي كَفَّارَة الظِّهَارِ]
مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا مُدَّيْنِ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَجْزَأَ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ) وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ دَفَعَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ إلَى الْعَدَدِ الْوَاجِبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّيْنِ فِي يَوْمَيْنِ. وَالْأُخْرَى، لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى قُوتَ يَوْمٍ مِنْ كَفَّارَةٍ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ثَانِيًا فِي يَوْمِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهُمَا إلَيْهِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُجْزِئُهُ عَنْ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ. وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْأُخْرَى؟ يُنْظَرُ؛ فَإِذَا كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا عَنْ كَفَّارَةٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَرْجِعَ بِشَيْءٍ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَقْيَسُ وَأَصَحُّ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ذَلِكَ فِي يَوْمَيْنِ أَجْزَأَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّافِعُ اثْنَيْنِ، أَجْزَأَ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّافِعُ وَاحِدًا.
وَلَوْ دَفَعَ سِتِّينَ مُدًّا إلَى ثَلَاثِينَ فَقِيرًا مِنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ، وَيُطْعِمُ ثَلَاثِينَ آخَرِينَ، وَإِنْ دَفَعَ السِّتِّينَ مِنْ كَفَّارَتَيْنِ. أَجْزَأَهُ ذَلِكَ. عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْأُخْرَى إلَّا عَنْ ثَلَاثِينَ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي، أَنَّ الْمُجْزِئَ فِي الْإِطْعَامِ مَا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ، وَهُوَ الْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالزَّبِيبُ، سَوَاءٌ كَانَتْ قُوتَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَمَا عَدَاهَا. فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ، سَوَاءٌ كَانَ قُوتَ بَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ بِإِخْرَاجِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا، وَلِأَنَّهُ الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ، فَلَمْ يُجْزِئْ غَيْرُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قُوتَ بَلَدِهِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: عِنْدِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ جَمِيعِ الْحُبُوبِ الَّتِي هِيَ قُوتُ بَلَدِهِ، كَالذُّرَةِ، وَالدُّخْنِ، وَالْأَرُزِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] .
وَهَذَا مِمَّا يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ أَخْرَجَ غَيْرَ قُوتِ بَلَدِهِ، أَجْوَدَ مِنْهُ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَهَذَا أَجْوَدُ. (6215) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، إخْرَاجُ الْحَبِّ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ، وَهِيَ حَالَةُ كَمَالِهِ، لِأَنَّهُ يُدَّخَرُ فِيهَا، وَيَتَهَيَّأُ لِمَنَافِعِهِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِنْ أَخْرَجَ دَقِيقًا جَازَ، لَكِنْ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْمُدِّ قَدْرًا يَبْلُغُ الْمُدَّ حَبًّا، أَوْ يُخْرِجُهُ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ لِلْحَبِّ رَيْعًا، فَيَكُونُ فِي مِكْيَالِ الْحَبِّ أَكْثَرُ مِمَّا فِي مِكْيَالِ الدَّقِيقِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَيُعْطِي الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي جَاءَ فَالْبُرُّ، وَلَكِنْ إنْ
أَعْطَاهُمْ الدَّقِيقَ بِالْوَزْنِ، جَازَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِ الْكَمَالِ، لِأَجْلِ مَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْهَرِيسَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَالدَّقِيقُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ، وَقَدْ كَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ وَطَحْنَهُ، وَهَيَّأَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ الْأَكْلِ، وَفَارَقَ الْهَرِيسَةَ، فَإِنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ، وَلَا يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي إخْرَاجِ الْخُبْزِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ أَخَذَ ثَلَاثَةَ عَشْرَ رِطْلًا وَثُلُثًا دَقِيقًا، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَخَبَزَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَسَمَ الْخُبْزَ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ، أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ ذَلِكَ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ مُدَّ بُرٍّ، وَهَذَا إنْ فَعَلَ فَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. قُلْت: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] . فَهَذَا قَدْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَأَوْفَاهُمْ الْمُدَّ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ أَحْمَدَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَفَّارَةِ، قَالَ: أَطْعِمْهُمْ خُبْزًا وَتَمْرًا؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ تَمْرٌ. قَالَ: فَخُبْزٌ؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرًّا أَوْ دَقِيقًا بِالْوَزْنِ، رِطْلٌ وَثُلُثٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالَةِ الْكَمَالِ وَالِادِّخَارِ فَأَشْبَهَ الْهَرِيسَةَ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَهَذَا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، وَلَيْسَ الِادِّخَارُ مَقْصُودًا فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يَقُوتُ الْمِسْكِينَ فِي يَوْمِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ كِفَايَتُهُ فِي يَوْمِهِ، وَهَذَا قَدْ هَيَّأَهُ لِلْأَكْلِ الْمُعْتَادِ لِلِاقْتِيَاتِ، وَكَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَّى الْحِنْطَةَ وَغَسَلَهَا.
وَأَمَّا الْهَرِيسَةُ وَالْكُبُولُ وَنَحْوُهُمَا، فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَنْ الِاقْتِيَاتِ الْمُعْتَادِ إلَى حَيِّزِ الْإِدَامِ. وَأَمَّا السَّوِيقُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَاتُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ أَقَلُّ مِنْ شَيْءٍ يُعْمَلُ مِنْ مُدٍّ، فَإِنْ أَخَذَ مُدَّ حِنْطَةٍ، أَوْ رِطْلًا وَثُلُثًا مِنْ الدَّقِيقِ، وَصَنَعَهُ خُبْزًا، أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يُجْزِئُهُ رِطْلَانِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُدُّ يَجِيءُ مِنْهُ رِطْلَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ رِطْلَيْنِ مِنْ الْخُبْزِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ مُدٍّ، وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ خَمْسُ أَوَاقٍ وَأَقَلُّ مِنْ خُمْسِ أُوقِيَّةٍ، وَهَذَا فِي الْبُرِّ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُخْرَجُ مِنْ الشَّعِيرِ، فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ضِعْفُ ذَلِكَ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.