الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ النَّهْرِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَبَعَثَ إلَيْهِمْ: أَقِيدُونَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ. قَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. فَحِينَئِذٍ اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ؛ لَإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَلِيٍّ، رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ، أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنْ الْكُفْرِ فَرُّوا. قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا. قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا فِيهَا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُونَا فَقَاتَلْنَاهُمْ. وَلَمَّا جَرَحَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ، قَالَ لِلْحَسَنِ: أَحْسِنُوا إسَارَهُ، فَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ مِتّ فَضَرْبَةٌ كَضَرْبَتِي. وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِمْ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الْخَوَارِجَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِمْ وَوَعْدِهِ بِالثَّوَابِ مَنْ قَتَلَهُمْ، فَإِنَّ عَلِيًّا، رضي الله عنه قَالَ: لَوْلَا أَنْ يَنْظُرُوا، لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِأَنَّ بِدْعَتَهُمْ، وَسُوءَ فِعْلِهِمْ، يَقْتَضِي حِلَّ دِمَائِهِمْ؛ بِدَلِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ، وَحَثِّهِ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُمْ لَقَتَلَهُمْ قَتْلَ عَادٍ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُمْ بِمَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَتَوَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِتَالِهِمْ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِمْ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَيَرُومُونَ خَلْعَهُ لَتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَفِيهِمْ مَنَعَةٌ يَحْتَاجُ فِي كَفِّهِمْ إلَى جَمْعِ الْجَيْشِ، فَهَؤُلَاءِ الْبُغَاةُ، الَّذِينَ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَهُمْ، وَوَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ إمَامِهِمْ، فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا مَعُونَتَهُ، لَقَهَرَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامٍ]
(7065)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رحمه الله: (وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُ مَوْضِعَهُ، حُورِبُوا، وَدُفِعُوا بِأَسْهَلِ مَا يَنْدَفِعُونَ بِهِ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَنْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ، وَوَجَبَتْ مَعُونَتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِي مَعْنَاهُ، مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِعَهْدِ إمَامٍ قَبْلَهُ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَيْعَتِهِ،، وَعُمَرَ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَبُولِهِ.
وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ، فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَقَرُّوا لَهُ، وَأَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ، وَبَايَعُوهُ، صَارَ إمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْلَى
عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكُرْهًا، فَصَارَ إمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَدْخُلُ الْخَارِجُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام:«مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» . فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاغِيًا، وَجَبَ قِتَالُهُ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ، وَيَكْشِفُ لَهُمْ الصَّوَابَ، إلَّا أَنْ يَخَافَ كَلَبَهُمْ؛ فَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ.
فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُمْ، عَرَّفَهُمْ ذَلِكَ، وَأَزَالَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَأَزَالَ حُجَجَهُمْ، فَإِنْ لَجُّوا، قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا، رضي الله عنه رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ فَلَجَ فِيهِ فَلَجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكِبَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ لِوَجْهِهِمْ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ، بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَوَاضَعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. فَإِنْ أَبَوْا الرُّجُوعَ، وَعَظَهُمْ، وَخَوَّفَهُمْ الْقِتَالَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَانَ أَوْلَى مِنْ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ، نَظَرَ فِي حَالِهِمْ، وَبَحَثَ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمْ الرُّجُوعُ إلَى الطَّاعَةِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، أَمْهَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ، وَانْتِظَارَ مَدَدٍ يَقْوَوْنَ بِهِ، أَوْ خَدِيعَةَ الْإِمَامِ، أَوْ لِيَأْخُذُوهُ عَلَى غِرَّةٍ، وَيَفْتَرِقَ عَسْكَرُهُ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ، وَعَاجَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ هَذَا طَرِيقًا إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا، وَإِنْ أَعْطَوْهُ عَلَيْهِ مَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ. وَإِنْ بُذِلَ لَهُ رَهَائِنُ عَلَى إنْظَارِهِمْ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الرَّهَائِنَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ، فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ، قَبِلَهُمْ الْإِمَامُ، وَاسْتَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ، أُطْلِقَتْ رَهَائِنُهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ، خَلَّى الرَّهَائِنَ، كَمَا تُخَلَّى الْأُسَارَى
مِنْهُمْ.
وَإِنْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ، أَخَّرَ قِتَالَهُمْ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الِاصْطِلَامُ وَالِاسْتِئْصَالُ، فَيُؤَخِّرُهُمْ حَتَّى تَقْوَى شَوْكَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ. وَإِنْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنْظِرَهُمْ أَبَدًا، وَيَدَعَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُفُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَخَافَ قَهْرَهُمْ لَهُ إنْ قَاتَلَهُمْ، تَرَكَهُمْ. وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةَ الْإِمَامِ، وَلَا تُؤْمَنُ قُوَّةُ شَوْكَتِهِمْ، بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى قَهْرِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لِأَهْلِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إذَا حَصَلَ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ السَّجَّادِ، وَقَالَ: إيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ. فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ
…
قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ
…
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا
…
عَلِيًّا وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ الْحَقَّ يُظْلَمْ
يُنَاشِدُنِي {حم} [الشورى: 1] ، وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فَهَلَّا تَلَا {حم} [الشورى: 1] قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وَكَانَ السَّجَّادُ حَامِلَ رَايَةِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ، وَلِأَنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] .
وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِلِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا حَرُمَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِتَالَ عَجْزًا عَنْهُ، وَمَتَى مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، عَادُوا إلَيْهِ، فَمَنْ لَا يُقَاتِلُ تَوَرُّعًا عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، لَمْ يُحْتَجْ إلَى دَفْعِهِ، وَلَا صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَحِلَّ دَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فِي نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ السَّجَّادِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ نَهْيَ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَا يَمْتَثِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلَ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلَ إمَامِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ؛ قُلْنَا: لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ عَلِيًّا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا حَضَرَ قَتْلَهُ فَيُنْكِرَهُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حِينَ طَافَ فِي الْقَتْلَى رَآهُ، فَقَالَ: السَّجَّادُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ