الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: في الفحوى والإشارة
فصل: فيما يقتبس من الألفاظ من فحوها وإشارتها لا من صيغها
1
وهي خمسة أضرب.
الأول: يسمى اقتضاء.
1 الدليل الشرعي: إما منقول، وإما معقول، أو ثابت بالمنقول والمعقول.
فالمنقول: الكتابة والسنة، ودلالتهما: إما من منطوق اللفظ، أو من غير منطوق اللفظ.
فالأول يسمى منطوقًا، كفهم وجوب الزكاة في السائمة في قوله، عليه الصلاة والسلام:"في سائمة الغنم الزكاة".
والثاني يسمى فحوى ومفهومًا، كفهم عدم وجوب الزكاة في المعلوفة في الحديث المتقدم.
والدليل المعقول: القياس، لأنه يستفاد بواسطة النظر العقلي.
أما الدليل الثابت بالمنقول والمعقول: فالإجماع.
فقول المصنف: "لا من صيغها" يخرج المنطوق؛ لأنه مستفاد من الصيغة. فيبقى ما لا يستفاد منه الصيغة، وهو ما يطلق عليه: الفحوى، أو الإشارة، أو الإيماء، أو لحن الخطاب. فكلها بمعنى واحد فالفحوى في اللغة معنى القول.
والإشارة معناها: الإيماء، يقال: أومأ إليه باليد، أي: أشار إليه، إلا أن الإيماء أعم؛ لأن الإشارة لا تكون إلا باليد، أما الإيماء فقد يكون باليد وقد يكون بغيرها. =
وهو ما يكون من ضرورة اللفظ1، وليس بمنطوق به: إما أن لا يكون المتكلم صادقًا إلا به، كقوله:"لا عمل إلا بنية"2، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعًا بدونه، كقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ....} 3 أي: فأفطر فعدَّة، وقولهم:"أعتق عبدك عني وعليَّ ثمنه" يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به4.
أو من حيث يمتنع وجوده عقلًا بدونه، كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 5 يتضمن إضمار الوطء ويقتضيه.
= واللَّحنْ: مأخوذ من اللَّحن بالتحريك، أي: قلت قولًا يفهمه عنك، قال الله تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} سورة محمد "30" أي: معناه. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 705 وما بعدها.
1 أي: يتوقف صدق المتكلم، أو صحة الملفوظ به عليه عقلًا، أو شرعًا كما سيأتي التمثيل لذلك.
2 تقدم تخريج الحديث على الرواية المشهورة: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" أما هذه الرواية فقال عنها صاحب كشف الخفا "1/ 166": "وورد بألفاظ مختلفة، بيناها في أوائل "الفيض الجاري" منها: العمل بالنية، ومنها: "لا عمل إلا بالنية".
ومحل الشاهد: أن التقدير: "لا عمل صحيح إلا بنية"؛ لأن الأعمال كلها كالصلاة والصوم وسائر العبادات يمكن وجودها بدون نية، فكان إضمار "الصحة" من ضرورة صدق الكلام.
3 سورة البقرة من الآية: "184"، وتقدير الكلام: أو على سفر فأفطر، فعليه صوم عدة من أيام أخر؛ لأن قضاء الصوم إنما يجب إذا أفطر في سفره، أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضاء.
4 لأنه لا يعتق عن الإنسان إلا ما كان ملكًا له، فوجب تصحيح هذا العتق، وهو أن يقدر دخول العبد في ملك القائل حتى يتفرع عليه العتق.
5 سورة النساء من الآية "23" ومحل الشاهد: أن العقل يحيل إضافة التحريم إلى =
ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار، ويقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
الضرب الثاني: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب: كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 يفهم منه: كون السرقة علة، وليس بمنطوق به، ولكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام.
وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 2 أي: لبرهم {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 3 أي: لفجورهم.
وهذا قد يسمى "إيماء" و"إشارة" و"فحوى الكلام" و"لحنه" وإليك الخيرة في تسميته.
الضرب الثالث: التنبيه:
وهو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، ومعرفة وجود المعنى في المسكوت بطريق الأولى، كفهم تحريم الشتم والضرب من قوله تعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 4.
ولا بد من معرفتنا المعنى في الأدنى، ومعرفة وجوده في الأعلى.
= الأعيان، فوجب إضمار فعل يتعلق به التحريم، وهو الوطء. انظر في توضيح ذلك كله: شرح الطوفي "2/ 710-711".
وهذه الصورة كلها تسمى "دلالة الاقتضاء" لأن اللفظ يقتضيها لتصحيح الكلام.
1 سورة المائدة من الآية "38".
2 سورة الانفطار الآية "13".
3 سورة الانفطار الآية "14".
4 سورة الإسراء من الآية "23".
فلولا معرفتنا أن الآية سيقت للتعظيم للوالدين؛ لما فهمنا منع القتل، إذ قد يقول السلطان، إذا أمر بقتل ملك لمنازعته له في ملكه: اقتله، ولا تقل له: أف.
ويسمى مفهوم الموافقة، وفحوى اللفظ.
واختلف أصحابنا في تسميته قياسًا.
فقال أبو الحسن الجزري1 وبعض الشافعية: هو قياس؛ لأنه إلحاق المسكوت بالمنطوق في الحكم، لاجتماعهما في المقتضى، وهذا هو القياس2.
وإنما ظهر فيه المعنى، فسبق إلى الفهم من غير تأمل، فأشبه القياس فيما ظهرت العلة فيه بنص أو غيره3، مثل: قياس الجوع المفرط على الغضب في المنع من الحكم؛ لكونه يمنع كمال الفكر4.
وقياس الزيت على السمن في حكم النجاسة إذا وقعت فيه، في حال جموده، أو كونه مائعًا بغير الفأرة5.
1 تقدمت ترجمته.
2 ويسمى قياس الأولى، أو مفهوم الموافقة.
3 معناه: لو قيل: إن القياس يحتاج إلى تأمل واستنباط علة، وهذا ليس كذلك، فأجاب المصنف عن هذا بقوله:"وإنما ظهر فيه المعنى إلخ".
4 روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، من حديث أبي بكر نفيع بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقضي القاضي وهو غضبان". فيقاس عليه كل ما يؤدي إلى اضطراب الخاطر، وضعف إدراك الحكم، كالجوع المفرط ونحوه.
5 روى البخاري وأبو داود وغيرهما عن سفيان بن عيينة، حدثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ألقوها وما حولها وكلوه". =
وقال القاضي أبو يعلى، والحنفية، وبعض الشافعية، ليس بقياس1، إذ هو مفهوم من اللفظ من غير تأمل ولا استنباط، بل يسبق على الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخ، إذا كان هو الأصل في القصد، والباعث على النطق، وهو أولى في الحكم.
ومن سماه قياسًا: سلم أنه قاطع، فلا تضره تسميته قياسًا2
وقد يلتحق بهذا الفن ما يشبهه3 من وجه، ولا يفيد القطع، كقولهم:"إذا ردت شهادة الفاسق، فالكافر أولى؛ لأن الكفر فسق وزيادة" فهذا ليس بقاطع، إذ لا يبعد أن يقال: الفاسق متهم في دينه، والكفار يحترز من الكذب لدينه.
وأما الفاسد من هذا الضرب4: فنحو قولهم: "إذا جاز السلم في
= وجاء في المصنف لعبد الرزاق "278" وأبو داود "3842" وابن حبان "1394" عن معمر عن الزهري، عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، قال:"إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا لا تقربوه". فيقاس الزيت على السمن في التنجيس، بوقوع النجاسة فيه، بجامع السراية. انظر: شرح الطوفي "2/ 717".
1 وسماه الحنفية "دلالة النص" انظر: كشف الأسرار "1/ 73".
2 قال الطوفي -بعد أن ذكر أدلة الفريقين- قلت: دليل المسألة متجاذب، وكأن ما قاله الآمدي أرجح" شرح المختصر "2/ 720" فكأنه يريد أن يقول: إن الخلاف في المسألة خلاف لفظي، وإن كان يرجح ما ذهب إليه القائلون بأن هذا المفهوم ليس من باب القياس، وإنما هو من قبيل فحوى الدلالة اللفظية.
3 معناه: أن مفهوم الموافقة ينقسم إلى قطعي في دلالته، كما تقدم في تحريم سائر أنواع الإيذاء من النهي عن التأفيف، وإلى ظني غير قطعي، كالأمثلة التي ذكرها المصنف، من رد شهادة الكافر وغيره.
4 معناه: أن مفهوم الموافقة إما قاطع وإما ظني، كما تقدم، وإما فاسد، كالمثال الذي ذكره وهو السلم.
المؤجل: ففي الحال أجوز، ومن الغرر أبعد" فإنه لا بد من اشتراكهما في المقتضى، وليس المقتضى لصحة السلم المؤجل: بعده من الغرر ليلتحق به الحال، بل الغرر مانع، احتمل في المؤجل، والحكم لا يصح لعدم مانعه، بل لوجود مقتضيه.
ولو كان بُعده من الغرر علة الصحة فما وجدت في الأصل، فكيف يصح الإلحاق؟
الضرب الرابع: دليل الخطاب:
ومعناه: الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه.
ويسمى مفهوم المخالفة؛ لأنه فهم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلا فما دل عليه المنطوق -أيضًا- مفهوم.
ومثاله قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} 1 و "في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ" 2 يدل على انتقال الحكم في المخطئ3 والمعلوفة4. وهذا حجة في قول إمامنا5، والشافعي، ومالك، وأكثر المتكلمين6.
1 سورة المائدة من الآية "95".
2 تقدم تخريجه
3 فتخصيص الجزاء بالعمد في قتل الصيد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة 95] . يدل على نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ، وهو أحد قولين لأهل العلم.
4 أي: أن تخصيص وجوب الزكاة بالسائمة يدل على أنها لا تجب في المعلوفة.
5 أي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، انظر: العدة "2/ 448".
6 وجماعة من أهل العربية: كأبي عبيدة وغيره، بالشروط التي ذكرها علماء الأصول ما عدا مفهوم اللقب فليس بحجة على الأصح.
وقالت طائفة منهم1، وأبو حنيفة2: لا دلالة له، لأمور خمسة:
أحدها: أنه يحسن الاستفهام، فلو قال:"من ضربك عامدًا فاضربه" حسن أن تقول: "فإن ضربني خاطئًا هل أضربه؟ " ولو دل على النفي: لما حسن الاستفهام فيه كالمنطوق.
الثاني: أن العرب تعلق الحكم على الصفة مع مساواة المسكوت عنه3، كقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 4، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} 5، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 6 فالمسكوت -أيضًا- محتمل للمساواة وعدمها، فلا سبيل إلى دعوى النفي بالتحكم.
1 أي: من المتكلمين.
2 وكذلك أصحابه، وأبو بكر الباقلاني، وابن سريج، والقفال، والشاشي، وجمهور المعتزلة. انظر: شرح الطوفي "2/ 725".
وقال أبو عبد الله البصري: إن كان ذلك قد ورد للبيان أو التعليم، دل على نفي الحكم في محل السكوت، وإلا فلا، المصدر السابق.
3 العبارة فيها قصور، وعبارة الغزالي في المستصفى "3/ 416": "المسلك الثالث: أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة، تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق، وتارة مع المخالفة، فالثبوت للموصوف معلوم منطوق، والنفي عن المسكوت محتمل، فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة، ودليل آخر.
أما دعوى كونه مجازًا عند الموافقة، حقيقة عند المخالفة، فتحكم بغير دليل، يعارضه عكسه من غير ترجيح".
4 سورة النساء من الآية "23".
5 سورة النساء من الآية "102".
6 سورة البقرة من الآية "229".
الثالث: أن تعليقه الحكم على اللقب، والاسم العلَم لا يدل على التخصيص، ومنع ذلك بهت واختراع على اللغات، إذ يلزم من أن يكون قوله:"زيد عالم" كفر؛ لأنه نفي للعلم عن الله وملائكته.
ويلزم من قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 1 نفي الرسالة عن غيره، وذلك كفر.
الرابع: أنه كما أن للعرب طريقًا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين مع السكوت عن الباقي: فلها طرق في الخبر عن الموصوف بصفة، فتقول:"رأيت الظريف، وقام الطويل" فلو قال، بعد:"والقصير" لم يكن مناقضة.
الخامس: أن التخصيص للمذكور بالذكر قد يكون لفائدة سوى تخصيص الحكم به:
فمنها: توسعة مجاري الاجتهاد، لينال المجتهد فضيلته2.
ومنها: الاحتياط على المذكور بالذكر، كي لا يفضي اجتهاد بعض الناس إلى إخراجه من عموم اللفظ بالتخصيص.
ومنها: تأكيد الحكم في المسكوت، لكون المعنى فيه أقوى كالتنبيه3.
ومنها: معان لا يطلع عليها4.
1 سورة الفتح من الآية "29".
2 لأن تخصيص الشيء بالذكر مع احتمال الاختصاص بالحكم وعدمه يحتاج إلى نظر واجتهاد، يحصل به فضيلة النظر، والثواب على قدر المشقة.
3 وهو دلالة الأدنى على ما هو أعلى منه، ويسمى بالقياس الأولوي، كما في دلالة النهي عن التأفيف على الشتم أو الضرب في قوله تعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} .
أي: أسباب ومقتضيات يبطنها المتكلم ولا اطلاع لنا عليها
فلا سبيل إلى دعوى عدم الفائدة بالتحكم1
فلا ينكر الفرق بين المنطوق والمسكوت، لكن من حيث أن الأصل عدم الحكم في الكل، فبالذكر يبين ثبوته، في المذكور، وبقي المسكوت عنه على ما كان عليه، لم يوجد في اللفظ نفي له ولا إثبات له.
فإذًا: لا دليل في اللفظ على المسكوت بحال.
وعماد الفرق: نفي وإثبات.
فمستند الإثبات: الذكر الخاص.
ومستند النفي: الأصل.
والذهن إنما ينبه على الفرق عن الذكر الخاص، فيسبق إلى الأوهام العامية أن الاختصاص والفرق من الذكر، لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر، والآخر كان حاصلًا في الأصل.
وهذا دقيق لأجله غلط الأكثرون2.
1 معناه: أنه ما دام محتملًا لهذه المعاني، فدعواكم: أن فائدته نفي الحكم عما عداه تحكم وترجيح بلا مرجح.
2 خلاصة هذا الكلام: أنه إن اعترض أحد بأنكم بكلامكم هذا ساويتم بين المنطوق والمسكوت، مع أنه من المتفق عليه أن بينهما فرقًا. فأجاب النافون لحجية مفهوم التكليف، أي: عدم وجود حكم بالنسبة للمنطوق والمسكوت. إلا أن تخصيص الشيء بالذكر أثبت للمنطوق حكمًا، وبقي المسكوت عنه على أصل براءة الذمة، لعدم وجود دليل يدل على إثبات حكم له.
فخلاصته: أن عندنا إثبات ونفي.
فالإثبات ثبت بالذكر وهذا هو الدليل في المنطوق.
والدليل الذي استند إليه النفي هو: القاعدة السابقة وهي: عدم الحكم، أو البراءة الأصلية.
ولنا دليلان1:
أحدهما: أن فصحاء أهل اللغة يفهمون من تعليق الحكم على شرط، أو وصف: انتفاء الحكم بدونه، بدليل: ما روى يعلى بن أمية2 قال: قلت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: ألم يقل، تعالى:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 3، فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" رواه مسلم4.
فهما5 من تعليق إباحة القصر على حالة الخوف: وجوب الإتمام حال الأمن، وعجبا من ذلك.
= فالحكم في المنطوق ثبت بالدليل الخاص، أما المسكوت فلم يثبت من مفهوم الدليل الخاص، وإنما هو ثابت بالقاعدة الأصلية قبل النطق.
1 أي: على أن مفهوم المخالفة حجة.
2 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي، صحابي جليل، أسلم عام الفتح، وشهد حنينًا والطائف وتبوك، كان مشهورًا بالسخاء والكرم، شهد واقعة "صفين" مع علي رضي الله عنه وقتل فيها سنة "38هـ". انظر: الاستيعاب "4/ 1585"، سير أعلام النبلاء "3/ 100".
3 سورة النساء من الآية "101".
4 في كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافر وقصرها، وأبو داود: باب صلاة المسافر، والنسائي: كتاب تقصير الصلاة في السفر، والترمذي: كتاب التفسير باب من سورة البقرة، وابن ماجه: كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة في السفر، والدارمي: كتاب الصلاة، باب قصر الصلاة في السفر، وأحمد في المسند "1/ 25-26".
5 أي: يعلى بن أمية وعمر رضي الله عنهما وهما من فصحاء العرب، وقولهما حجة.
فإن قيل: الإتمام واجب بحكم الأصل فلما استثنى حالة الخوف: بقيت حالة الأمن على مقتضاه، فلذلك عجبا؛ حيث خولف الأصل.
ثم الآية حجة لنا1، فإنه لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فدل على انتفاء الدليل2.
قلنا: ليس في القرآن آية تدل على وجوب التمام، بل قد روي عن عمر رضي الله عنه وهو صاحب القصة، وعائشة، وابن عباس:"أن الصلاة إنما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"3.
فدل على أن فهمهم: وجوب الإتمام وتعجبهم إنما كان لمخالفة دليل الخطاب، وإنما ترك دليل الخطاب لدليل آخر كما قد يخالف العموم.
ولما قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الأَسْوَدُ" قال عبد الله بن الصامت4 لأبي ذر5: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟
1 أي: القائلون بأن مفهوم المخالفة ليس حجة.
2 أي الدليل الذي استدل به الجمهور وهو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
…
} إلى آخر القصة.
3 روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
وفي رواية أخرى للبخاري: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر-صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا، وأقرت صلاة السفر على الأول".
زاد الإمام أحمد: ".....إلا المغرب، فإنها وتر النهار، وإلا الصبح، فإنها تطول فيها القراءة" سبل السلام "2/ 37".
4 هو: عبد الله بن الصامت الغفاري البصري، روى عن عمه أبي ذر الغفاري وعمر وعثمان، وروى عنه أبو العالية وغيره، وثقه النسائي وغيره، تابعي ثقة. انظر: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال "2/ 67".
5 هو: جندب بن جنادة بن سفيان، أبو ذر الغفاري، من السابقين إلى الإسلام، =
فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ"1. ففهما من تعليق الحكم على الموصوف بالسواد: انتفاءه عما سواه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: "لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّراوِيلاتِ وَلَا الْبَرانِسَ"2. فلولا أن تخصيصه المذكور بالذكر يدل على إباحة لبس ما سواه: لم يكن جوابًا للسائل عما يجوز للمحرم لبسه.
الدليل الثاني: أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة، فإن استوت السائمة والمعلوفة: فلم خص السائمة بالذكر، مع عموم الحكم، والحاجة إلى البيان شاملة للقسمين؟
= كان زاهدا متقللًا من الدنيا، قال عنه ابن عمر:"والله ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر" توفي بالربذة سنة 32هـ. انظر: الإصابة "4/ 63"، حلية الأولياء "1/ 156، 352".
1 رواه مسلم: كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب ما يقطع الصلاة، والترمذي: باب ما جاء أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة، والنسائي: كتاب القبلة، باب ما يقطع الصلاة، كما رواه ابن ماجه وأحمد في مسند أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخر الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود.....".
2 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، وباب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، كما أخرجه في أماكن أخرى من صحيحه. كذلك أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وأبو داود، كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم، والإمام أحمد في المسند "1/ 215، 221، 228، 279، 285، 327".
بل لو قال: "في الغنم الزكاة" لكان أخصر في اللفظ، وأعم في بيان الحكم، فالتطويل لغير فائدة يكون لكنة في الكلام وعيًّا، فكيف إذا تضمن تفويت بعض المقصود؟!
فظهر أن القسم المسكوت عنه غير مساو للمذكور في الحكم.
اعترضوا عليه من أربعة وجوه:
أحدها: أنكم جعلتم طلب الفائدة طريقًا إلى معرفة الوضع1.
وينبغي أن يعرف الوضع، ثم تترتب عليه الفائدة، أما أن يكون الوضع يتبع معرفة الفائدة: فلا.
الثاني: لِمَ قلتم: إنه لا فائدة سوى اختصاص الحكم؟
فلئن قلتم: ما علمنا له فائدة.
قلنا: فلعل ثَمَّ فائدة لم يعثروا عليها، وعدم العلم بعدم الفائدة ليس علمًا بعدمها.
الثالث: يبطل بمفهوم اللقب، فلِمَ لم يقولوا: إن تخصيص الأشياء الستة2 في الربا يوجب اختصاصها به، وإن تخصيص سائمة الغنم يمنع وجوبها في بقية المواشي؟
الرابع: أن من التخصيص فائدة سوى ما ذكرتم، على ما قدمناه3.
ويحتمل أن السؤال وقع عنها، أو اتفقت المعاملة فيها، أو غير ذلك من أسباب لا يطلع عليها.
1 وهو ما قاله الجمهور في الدليل الثاني.
2 وهي ما جاء في الحديث المشهور: "الذهب بالذهب والورق بالورق
…
".
3 في الدليل الخامس للمنكرين لحجية مفهوم المخالفة.
الجواب:
أما الأول: فغير صحيح، فإن الاستدلال على الشيء بآثاره وثمراته جائز غير ممتنع في طرف النفي والإثبات، فإننا استدللنا على عدم الاشتراك في الصور المتنازع فيها بإخلاله بمقصود الوضع، وهو التفاهم.
واستدللنا على عدم إلهٍ ثان بعدم وقوع الفساد1.
فإذ قد علمنا: أن كلام الله -تعالى- لا يخلو من فائدة، وأنه لا فائدة للتخصيص سوى اختصاصه بالحكم، فيلزم منه ذلك ضرورة.
وأما الثاني2: فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة، وما سواها أمر موهوم يحتمل العدم والوجود، فلا يترك المتيقن لأمر موهوم، كيف والظاهر عدمها؟ إذ لو كان ثم فائدة لم تخف على الفطن العالم بدقائق الكلام مع بحثه وشدة عنايته، فجرى هذا مجرى الاستدلال باستصحاب الحال المشروط بعدم الدليل الشرعي.
وأما مفهوم اللقب: فقد قيل: إنه حجة3.
ثم الفرق بينهما ظاهر، وهو: أن تخصيص اللقب يحتمل حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه4.
وهذا يبعد فيما إذا ذكر أحد الوصفين المتضادين؛ لأن ذكر الصفة يذكر ضدها، وهو منتف بالكلية فيما إذا ذكر الوصف العام، ثم وصفه بالخاص، فظهر احتمال المفهوم.
1 وذلك في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
2 أي: الاعتراض الثاني من الاعتراضات المتقدمة.
3 سيأتي الكلام على حجيته وموقف العلماء منها.
4 أي: أن المتكلم حينما يقول: "زيد عالم" لم يخطر بباله نفي العلم عن غيره.
وأما الثالث1: فباطل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للبيان والتعليم2، والتبيين للأحكام من المقاصد الأصيلة التي بعث لها، والاجتهاد ثبت ضرورة، لعدم إمكان بناء كل الأحكام على النصوص، فلا تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ما بعث له، لتوسعة مجاري الضرورات، ثم يفضي إلى محذور، وهو نفي الحكم في الصورة التي هو ثابت فيها.
وأما الفائدة الثانية والثالثة3: فلا تحصل؛ لأن الكلام فيما إذا كان المسكوت أدنى في المعنى من المنطوق في المقتضى، أو مماثلًا له.
فالتخصيص إذًا يكون بعيدًا.
وأما إذا كان المسكوت أعلى في المعنى: فهو التنبيه، وقد سبق الكلام فيه.
وأما الرابع4: فأمور موهومة، فلا يترك لها المتيقن، لما ذكرنا5. وقولهم:"يحسن الاستفهام عنه" ممنوع6.
1 أي: الاعتراض الثالث.
2 قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
3 والتي سبق ذكرها في قوله: "ومنها: الاحتياط على المذكور بالذكر، ومنها: تأكيد الحكم في المنطوق....".
4 أي: الاعتراض الرابع.
5 في قوله في الدليل الثاني: "فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة، وما سواها أمر موهوم....".
6 وضح الطوفي سبب المنع في شرحه "2/ 732-733" فقال: "الجواب عن هذا، إنما حسن الاستفهام من السامع، لعدم نصوصية التخصيص اللفظي الحكمي، وعدم قطعيته في ذلك، أي: ليس نصًّا في ذلك ولا قاطعًا، بل هو ظافر فيه كالعام، فإنه لو قال قائل: "أكرم الرجال" لحسن من السامع أن يقول: "وزيدًا =
وأما إذا قال: "من ضربك متعمدًا فاضربه" فلا يحسن أن يقال: "من ضربني خاطئًا، هل أضربه؟ " لكن يحسن أن يقال: "فالخاطئ ما حكمه"؟
أو ما أصنع به"؟ وهذا غير ما دل عليه الخطاب.
ولو سلمنا: فيحسن الاستفهام، ليستفد التأكيد في معرفة الحكم، كما يحسن الاستفهام في بعض صور العموم1.
وقولهم: "إن العرب تعلق الحكم على ما لا ينتفي عند عدمه"2.
قلنا: لا ننكر هذا إذا ظهر للتخصيص فائدة سوى اختصاص الحكم به: إما لكونه الأغلب، أو غير ذلك.
والكلام فيما إذا لم يظهر له فائدة. والله أعلم.
فصل في درجات أدلة الخطاب
اعلم أن ههنا صورًا أنكرها منكرو المفهوم، بناء على أنها منه، وليست منه، وهي ثلاثة:
= أيضًا" أكرم؟ وليس ذلك لعدم تناول الرجال زيدًا، بل لعدم نصوصيته فيه، فالاستفهام إنما هو لتحصيل النصوصية والقطع فيما استفهم عنه، لا لعدم إفادته التخصيص".
1 في فصل ألفاظ العموم.
2 في الدليل الثاني للنافين لحجية مفهوم المخالفة
الأولى: قوله: "لا عَالم إلا زيد"1 فهذه أنكرها غلاة منكري المفهوم2.
وقالوا: هو نطق بالمستثنى، وسكوت عن المستثنى منه، فما خرج بقوله:"إلا" فمعناه: أنه لم يدخل في الكلام، فصار الكلام مقصورًا على الباقي، والمستثنى غير متعرض له بنفي ولا إثبات.
وهذا فاسد: فإن هذا صريح في الإثبات والنفي: فمن قال: "لا إله إلا الله" مثبت للإلهية لله -سبحانه- نافٍ لها عمن سواه.
وقولهم: "لا سيف إلا ذو الفقار" و"لا فتى إلا علي" نفي وإثبات
1 وهي المعبر عنها بأن الاستثناء من النفي إثبات، وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع منعقد على أن قولنا:"لا إله إلا الله" إثبات الإلهية لله سبحانه وتعالى، وهو استثناء من نفي، وتقديره: لا إله موجود إلا الله.
2 من الحنفية ومن سار على مذهبهم. وقالوا: إن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، لأنه لو كان إثباتًا، لكان قوله، صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بطهور" و "لا نكاح إلا بولي" يقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهور، والنكاح عند وجود الولي، لأنه مستثنى من نفي الصلاة والنكاح، لكن ذلك غير مسلم، لجواز تخلف صحة الصلاة عند وجود الطهور، لانتفاء شرط آخر، وكذلك صحة النكاح مع وجود الولي. انظر: شرح الطوفي "2/ 737-738".
وأجاب الطوفي عن هذا الاستدلال فقال: "إن هذا الذي ذكرتموه ليس من باب الاستثناء، لأن الاستثناء يصدق على المستثنى فيه بعد "إلا" اسم المستثنى منه وهو ما قبلها، أو يكون ما بعد "إلا" جزءًا مما قبلها
…
وإذا عرفت هذا فالطهور والولي لا يصدق عليهما اسم ما قبلهما، ولا هما جزء منه، إذ الطهور ليس بصلاة ولا جزئها، والولي ليس بنكاح ولا جزئه، بل من باب انتفاء الحكم لانتفاء شرطه".
يقينًا؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي.
فهذا من صريح اللفظ، لا من مفهومه.
فأما قوله: "لا صلاة إلَّا بطهورٍ" 1 و "لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ" 2 فإن هذه صيغة الشرط، ومقتضاها: نفي الصلاة عند انتفاء الطهارة.
وأما وجودها عند وجودها: فليس منطوقًا بل هو على وفق قاعدة المفهوم، فإن نفي شيء عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند وجوده، بل يبقى كما كان قبل النطق.
فالمنطوق به: الانتفاء عند النفي فقط؛ فإن قوله: "لا صلاة" ليس فيه تعرض للطهارة، بل للصلاة فقط، وقوله:"إلا بطهور" إثبات للطهور الذي لم يتعرض له الكلام، فلم يفهم منه إلا الشرط3.
1 رواه الطبراني في الأوسط: كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء من طريق عيسى بن سبرة عن أبيه عن جده قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس: لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".
وروى مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقبل صلاة إلا بطهور" قال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب" وقد تقدم وجه استدلال الحنفية ومن معهم بهذا الحديث ومثله حديث الربا الآتي.
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم توضيح ذلك من كلام الشيخ الطوفي، رحمه الله تعالى.
الصورة الثانية، قوله:"إنما الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"1.
فهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة، وبعض منكري المفهوم على إنكاره. وقالوا: هو إثبات فقط، لا يدل على الحصر؛ لأن "إنما" مركبة
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري في عدة مواضع: في كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، وفي كتاب الشروط، باب الشروط في البيع، وفي كتاب الأطعمة، باب الأدم، وغير ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا.
كما أخرجه مسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، وأبو داود: كتاب العتق، باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، والترمذي: كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء أن الولاء لمن أعتق.
والصورة الثانية التي سيتحدث عنها المصنف هي: الحصر بإنما.
قال عنها الطوفي: "إنما: لا يقع بعدها إلا جملة خبرية، والجملة الخبرية إما اسمية نحو: "الولاء لمن أعتق" و"الأعمال بالنيات"، أو فعلية نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . وقول القائل: إنما قام زيد، فإن وقع بعد "إنما" جملة اسمية اقتضت حصر المبتدأ في الخبر، كالولاء لمن أعتق، والأعمال فيما وقع بالنيات، وزيد في القيام في قولنا: إنما زيد قائم.
وإن وقع بعدها جملة فعلية، اقتضت حصر الفعل في الفاعل، كالقيام في زيد في قولنا: إنما قام زيد.
ومعنى الحصر: أن المبتدأ لا يكون متصفًا إلا بالخبر، وإن كان الخبر صفة لغيره، نحو: إنما زيد قائم، فزيد لا يتصف إلا بالقيام، وإن اتصف بالقيام عمرو وبكر، وكذلك الفعل لا يتصف به إلا الفاعل، وإن اتصف الفاعل بغيره من الأفعال، نحو: إنما قام زيد، فالقيام لا يوجد إلا في زيد، وإن وجد من زيد ضرب، وقتل، وغير ذلك من الأفعال.
فإذا عرف معنى الحصر، فإنما يقتضيه عند قوم، خلافًا لمنكري المفهوم" شرح مختصر الروضة "2/ 740-741".
من "إن" و"ما" و"إن" للتوكيد، و"ما" زائدة كافة1، فلا تدل على نفي، كما لو قال:"إنما النبي محمد".
وهذا فاسد2، فإن لفظة "إنما" موضوعة للحصر والإثبات: تثبت المذكور، وتنفي ما عداه؛ لأنها مركبة من حرفي نفي وإثبات:"إن" للإثبات و"ما" للنفي فتدل عليهما.
ولذلك لا تستعمل في موضع لا يحسن فيه النفي والاستثناء منه، كقوله، تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3 و {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4 و {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} 5، كما قال:{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} 6، وقول النبي، صلى الله عليه وسلم:"إنما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" 7، مثل قوله:"لا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ" 8
وقال الشاعر9:
أنا الرجل الحامي الذمار وإنما
…
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
1 أي: تكف "إن" وأخواتها عن العمل فيما بعدها، وتهيئها للدخول على الجملة الفعلية، وهذه الحروف كانت قبل دخول "ما" عليها مختصة بالدخول على الأسماء عاملة فيها: وإذا ثبت أنها كافة لم تكن نافية، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض. انظر: شرح الطوفي "2/ 724-743".
2 هذا رد ابن قدامة على دليل الحنفية ومن معهم.
3 سورة النساء من الآية "171".
4 سورة فاطر من الآية "28".
5 سورة "ص" من الآية "65".
6 سورة الأحقاف من الآية "9".
7 سبق تخريجه والروايات الواردة فيه قريبًا
8 تقدم تخريجه.
9 هو: همام بن غالب بن صعصعة التيمي، المعروف بالفرزدق، من شعراء الطبقة الأولى الإسلاميين، توفي بالبصرة سنة "110هـ". انظر: معجم الشعراء =
وقولهم: "إنها إثبات فقط": غير صحيح1
وقولهم: "إنما النبي محمد" فهذا اختراع على اللغة لم يسمع به.
بلى لو قال: "إنما العالم زيد": ساغ ذلك مجازًا، لتأكيد العلم في "زيد" كما قال:"ولا فتى إلا علي" يريد بذلك تأكيد الفتوة فيه، وهذا مجاز، لا تترك الحقيقة له إلا بدليل2.
فالقول فيه كالقول في الاستثناء بإلا من النفي بلا فرق.
الصورة الثالثة3: قوله، عليه السلام:"الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ" 4
و"تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ"5.
= للمرزباني ص465، ديوان الفرزدق "2/ 153".
ومحل الشاهد في البيت: أنه حصر المدافعة عن الأحساب فيه، أو في مثله، فدل ذلك على أنها للحصر.
1 لأن المفهوم منها في غالب مواقعها واستعمالاتها الحصر، وهو المتبادر إلى أفهام أهل اللغة، كما وردت في صريح الحصر في العديد من الآيات القرآنية التي تقدم ذكر بعضها.
2 يريد: أنها استعملت في الحصر في كثير من المواضع، في اللغة، وفي القرآن، وفي السنة، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فلا تحمل على غير ذلك إلا بدليل.
3 وهي ما يعبر عنها بحصر المبتدأ في الخبر.
4 أخرجه البخاري: كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. عن جابر، رضي الله عنه "قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة".
كما أخرجه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الشفعة، والترمذي: كتاب الأحكام، باب ما جاء إذا حدت الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة، والنسائي: كتاب البيوع، باب الشركة في الرباعي والإمام أحمد في المسند "3/ 296".
5 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، وباب الإمام يُحدث بعدما =
وهذا يلتحق بالصورة التي قبله، وإن كان دونه في القوة.
ووجهه: أن الاسم المحلى بالألف واللام يقتضي الاستغراق وأن خبر المبتدأ يجب أن يكون مساويًا للمبتدأ، كقولنا:"الإنسان بشر" أو أعم منه كقولنا: "الإنسان حيوان".
ولا يجوز أن يكون أخص منه، كقولنا:"الحيوان إنسان".
فلو جعلنا التسليم أخص من تحليل الصلاة: كان خلاف موضوع اللغة.
ولو جعلنا الشفعة فيما يقسم: لم يكن كل الشفعة منحصرًا فيما لم يقسم، وهو خلاف الموضوع1.
[درجات دليل الخطاب]
فأما ما هو من دليل الخطاب: فعلى درجات ست:
[مفهوم الغاية]
أولها: هو مد الحكم إلى غاية بصيغة "إلى" أو "حتى". كقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 2، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 3.
يرفع رأسه من آخر ركعة، والترمذي: باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، باب ما جاء في تحريم الصلاة وتحليلها، وابن ماجه: كتاب الصلاة، باب مفتاح الصلاة الطهور، والإمام أحمد في المسند "1/ 123، 129".
1 وحصر المبتدأ في الخبر له صورتان:
إحداهما: ما ذكره المصنف.
الثانية: أن تكون الجملة معرفة الطرفين: مثل: "المنطلق زيد" وللحصر صور أخرى كثيرة تكفلت ببيانها كتب البلاغة.
2 سورة البقرة من الآية "230".
3 سورة البقرة من الآية "187".
أنكره بعض منكري المفهوم، لأن النطق إنما هو بما قبل الغاية، وما بعدها مسكوت عنه، وكل ما له ابتداء: فغايته مقطع ابتدائه، فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية، وقبل البداية لم يكن فيه دليل على نفي ولا إثبات، فليكن بعدها كذلك.
ولنا: مع ما سبق من الأدلة1: أن {حَتَّى تَنْكِح} ليس بمستقل، ولا يصح حتى يتعلق بقوله:{فَلا تَحِلُّ لَه} ولا بد فيه من إضمار وهو "حتى تنكح زوجًا غيره فتحل له".
ولهذا يقبح الاستفهام لو قال قائل: "فإن نكحت هل تحل له؟ "
ولأن الغاية نهاية، ونهاية الشيء مقطعه؛ فإن لم يكن مقطعًا: فليس بنهاية ولا غاية2.
[مفهوم الشرط]
الدرجة الثانية: التعليق على شرط، كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} 3.
أنكره قوم4، لأنه يجوز تعليق الحكم بشرطين، كما يجوز
1 أي: التي تقدمت في حجية مفهوم المخالفة عمومًا
2 قال الشيخ الطوفي "2/ 761": "واعلم أن هذه المسألة محل نظر وتردد، فلا سبيل فيها إلى القطع بشيء، أما من حيث الظن، فالظن مع مثبتي مفهوم الغاية لغة وعرفًا".
3 سورة الطلاق من الآية6.
4 من المنكرين لحجية مفهوم المخالفة وهم: أبو بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار، وأبو عبد الله البصري، والغزالي، وهو الذي اختاره الآمدي.
بعلتين1، فإن قوله:"احكم بالمال إن شهد به شاهدان" لا يمنع الحكم به بالإقرار، وبالشاهد واليمين. ولا يكون نسخًا، ولهذا جوّزناه بخبر الواحد.
ولنا: ما سبق2.
وتعليقه بشرطين؛ لأن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في ثبوت الحكم به، لا يمنع من انتفاء الحكم عند انتفائهما، كما لو صرح فقال:"لا تحكم إلا بشاهدين أو إقرار"3.
وجوزناه بخبر الواحد؛ لأنه تخصيص، وتخصيص العام بخبر الواحد جائز.
[اقتران الاسم العام بصفة خاصة]
الدرجة الثالثة: أن يذكر الاسم العام، ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدلال4 والبيان كقوله:"في الغَنَم السَّائمةِ الزَّكاةُ" أو: في
1 بيان ذلك: أن تعليق الحكم بشرط لا يمنع تعليقه بشرطين فأكثر، وإذا جاز تعليقه بشرطين، لم يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الحكم، لوجود الشرط الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 762".
2 أي: من الأدلة على حجية مفهوم المخالفة مطلقًا.
3 عبارة الطوفي: "ورد هذا الاستدلال: بأن الأصل عدم الشرط الثاني، والأصل التعليق على شرط واحد؛ لأنه مستقل بتصحيح تأثير المؤثر، فالزائد خلال الأصل، فلا يعتبر تقريره. وحينئذ يصح ما ذكرناه، من انتفاء الحكم لانتفاء شرطه المعلق به، فإن ثبت تعليقه على شرط ثان فصاعدًا، لدعوى الحاجة إليه اعتبرناه، ولم نحكم بانتفاء الحكم إلا بانتفاء جميع شروطه كانتفاء الحكم عند انتفاء البينة والإقرار". شرح مختصر الروضة "2/ 762".
4 هكذا في جميع النسخ، ولعلها محرفة، والأصل "الاستدراك" وهي هكذا في =
سَائِمةِ الغَنَم الزَّكاةُ" 1، و "مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثمَرتُهُ لِلْبَائِعِ" 2 فهو حجة –أيضًا– طلبًا لفائدة التخصيص3.
[مفهوم التقسيم]
وفي معنى هذه الدرجة: إذا قسم الاسم إلى قسمين، فأثبت في قسم منهما حكمًا، يدل على انتفائه في الآخر، إذ لو عمهما: لم يكن للتقسيم فائدة.
= المستصفى. قال الطوفي: "أي: بذكر الصفة الخاصة عقيب ذكر الاسم العام، فيكون مستدركًا لعمومه بخصوص الصفة، مبينًا أن المراد بعمومه الخصوص" شرح المختصر "2/ 764".
1 أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا وهو الحديث الذي روي فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه وبيّن فيه أحكام الزكاة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء فيه: "
…
وفي صدقة الغنم في سائمتها زكاة، إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة
…
".
كما أخرجه عنه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، والنسائي: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، والدارقطني: كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل والغنم.
2 أخرجه البخاري: كتاب المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم: كتاب البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما.
كما أخرجه أبو داود والترمذي، ومالك في الموطأ "2/ 617" وأحمد في المسند "2/ 78"، "5/ 326" ولفظه:"من باع نخلًا قد أبرت، فثمرها للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع".
والتأبير: شق طلع النخلة ليذرّ فيه شيء من طلع ذكر النخل.
3 يشير بذلك إلى قوله في الدليل الثاني على حجية مفهوم المخالفة: "إن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة....".
ومثاله: قوله، عليه السلام:"الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ"1.
[مفهوم الصفة]
الدرجة الرابعة: أن يخص بعض الأوصاف التي تطرأ وتزول بالحكم، كقوله:"الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّها" 2 فيدل على أن ما عداه بخلافه، طلبًا للفائدة في التخصيص3.
وبه قال جل أصحاب الشافعي.
واختار التميمي4: أنه ليس بحجة.
1 أخرجه البخاري: كتاب الحيل، باب في النكاح، ومسلم: كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في الثيب، والترمذي: باب ما جاء في استئمار البكر والثيب من أبواب النكاح.
كما رواه النسائي وابن ماجه والدارمي، ومالك وأحمد.
ومحل الشاهد من الحديث: أن الأيم هي التي فارقت زوجها، ولما خص الرسول الله صلى الله عليه وسلم البكر بالاستئذان، فدل ذلك على نفيه عن الأيم.
وقد بين المصنف أن هذا النوع يلتحق بالنوع الذي قبله، وهو تعقيب الاسم العام بصفة خاصة، فتقسيم الاسم أو الصنف إلى قسمين: وتخصيص كل قسم منهما بحكم، يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 765".
وفي شرح الكوكب المنير "3/ 505": "ووجه ذلك: أن تقسيمه إلى قسمين، وتخصيص كل واحد بحكم يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، إذ لو عمهما لم يكن للتقسيم فائدة، فهو من جملة مفهوم المخالفة".
2 تقدم قريبًا.
3 أي: أن تخصيصه بالصفة لا بد له من فائدة، وإلا لكان عبثًا، كما تقدم في الدليل الثاني من أدلة القائلين بحجية مفهوم المخالفة.
4 من علماء الحنابلة. تقدمت ترجمته.
وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين.
والفرق بين هذه الصورة وما قبلها: أن ذكر الثيب يظهر معه أنه ذاكر للبكر، ويحتمل الغفلة عن الذكر، فصار المفهوم ظاهرًا.
وعند ذكره الوصف الخاص مع العام انقطع احتمال عدم الحضور، فصار المفهوم ههنا أظهر1.
[مفهوم العدد]
الدرجة الخامسة: أن يخص نوعًا من العدد بحكم، كقوله:"لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا المَصَّتَانِ" 2 و "لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ
1 معناه: أن هناك فرقًا بين مفهوم الصفة وما قبله، وهو تعقيب الاسم العام بصفة خاصة، وهو: أن المتكلم قد يغفل عن ضد الوصف الذي علق عليه الحكم، كالبكارة في قوله، صلى الله عليه وسلم:"والبكر تستأذن" فيحتمل أن يغفل عن الثيب، حتى يقصد نفي الاستئذان عنها، وكذلك قوله:"الثيب أحق بنفسها" يحتمل أن البكر لم تخطر بباله، حتى يقصد نفي أحقيتها بنفسها عنها. بخلاف العام الذي تعقبته الصفة، فإن هذا الاحتمال منتف فيه؛ لأنه لما ذكر اللفظ العام لزم استحضار الصنفين في ذهنه. انظر: شرح الطوفي "2/ 767".
2 للحديث روايات عدة، منها: ما أخرجه مسلم: كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان من حديث أم الفضل، مرفوعًا، بلفظ "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان"، وابن ماجه بنحوه في كتاب النكاح، باب: لا تحرم المصة ولا المصتان.
وأخرجه الدارقطني في كتاب الرضاع عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في الرواية محمد بن العباس، وقد سأله عن الرضاع فقال: عن النبي، صلى الله عليه وسلم:"لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" فأرى الثلاثة تحرم. العدة "2/ 450".
والْقَطْرَتَيْنِ" 1 فيدل على: أن ما زاد على الاثنين بخلافهما.
وبه قال مالك، وداود، وبعض الشافعية.
وخالف فيه أبو حنيفة2، وجل أصحاب الشافعي.
والكلام فيه قد تقدم3.
= وجاء في المغني لابن قدامة "8/ 140": "إن الصحيح من مذهب الحنابلة: أن العدد المحرم هو خمس رضعات فضاعدًا".
1 أخرجه الدارقطني: كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن بلفظ ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دمًا سائلًا". من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
2 وبعض أصحابه.
3 أي: من الأدلة على حجية المخالفة عمومًا. وقد استدل بعض العلماء على حجية مفهوم العدد بأدلة أخرى كثيرة، منها: أنه لما نزل قول الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
…
} [التوبة: 80] قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"لأزيدن على السبعين" رواه البخاري حديث رقم "4670" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيد على السبعين" قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] .
ومحل الشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن حكم ما فوق السبعين مخالف لما قبلها، وهو صلى الله عليه وسلم أعلى أهل اللغة رتبة فيها، فدل ذلك على حجية مفهوم العدد. =
[مفهوم اللقب]
الدرجة السادسة: أن يخص اسمًا بحكم، فيدل على أن ما عداه بخلافه. الخلاف فيها كالخلاف في التي قبلها.
وأنكره الأكثرون، وهو الصحيح؛ لأنه يفضي إلى سد باب القياس.
وأن تنصيصه على الأعيان الستة في الربا يمنع جريانه في غيرها1 ولا فرق بين كون الاسم مشتقًا كالطعام2، أو غير مشتق كأسماء الأعلام3، والله تعالى أعلم.
= قال الشوكاني: "والحق ما ذهب إليه الأولون، والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع، فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص، فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص، كان هذا الإنكار مقبولًا عند من يعرف لغة العرب، فإن ادّعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به، مع كونه نقص عنه، أو زاد عليه، كانت دعواه هذه مردودة عند كل من يعرف لغة العرب" إرشاد الفحول "2/ 65".
1 معناه: أنه لو كان مفهوم اللقب حجة، لمنع التنصيص على تحريم الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه من أن يجري الربا في غيرها، لأن مستند القائلين بحجيته: أن فائدة تخصيصه بالذكر: هي قصر الربا على هذه الأصناف الستة، فيلزم على ذلك عدم ثبوت الربا في غيرها وهذا باطل، فإن الربا قد ثبت في كل ما وجدت فيه العلة كالذرة، والسمسم، وأشباهها من المكيلات، والحديد والرصاص والنحاس، وغيرها من الموزونات، والفواكه وغيرها من المطعومات، وهذا يدل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة. انظر: شرح الطوفي "2/ 772-773".
2 فإنه مشتق من الطعم.
3 مثل قولنا: زيد عالم، وكالحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة.
قال الطوفي: الأشبه الذي تسكن النفس إليه أنه ليس بحجة، وأنه في المفهومات =
......................................................................................
= كالحديث الضعيف في المنطوقات، والقياس الشبهي في الأقيسة" شرح المختصر "2/ 775".
شروط العمل بمفهوم المخالفة:
هناك شروط وضعها القائلون بحجية مفهوم المخالفة، فإن لم تتحقق لم يكن حجة باتفاق، ولم يذكرها المصنف وهي:
أولًا: أن لا يكون للقيد الذي قيد به النص فائدة أخرى غير إثبات خلاف حكم المنطوق للمسكوت، كالترغيب والترهيب، أو التنفير أو التفخيم، أو تأكيد الحال أو الامتنان، أو غير ذلك من الفوائد التي يمكن أن تكون مقصودة للشارع، غير نفي الحكم عما عدا المذكور.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً....} [آل عمران: 130] فوصف الربا بكونه "أضعافًا مضاعفة" إن جاء للتنفير من أمر ظالم كان عليه أهل الجاهلية، حيث كان المرابي يزيد في الربا كلما زاد في أجل الدين، حتى كان المال يبلغ أضعاف أصل الدين، مما يؤدي إلى استئصال مال الغريم، فنوهت الآية الكريمة بهذا الوصف، تشنيعًا على المرابين، وتوجيهًا لهم إلى واقع تصرفهم المقيت، لا لتقييد الحكم بهذا الوصف.
وعلى هذا فأصل الربا محرم، كثيرًا كان أو قليلًا، بدليل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا
…
} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] .
ثانيًا: أن لا يكون قد خرج مخرج الغالب، كما في قوله تعالى، في شأن المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
…
} [النساء 23] ، فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، بدليل أن الله -تعالى- قيد تحريم بنت الزوجة بالدخول بالأمهات، والحل بعدم الدخول، فلو كانت الربيبة حرامًا؛ لوجودها في حجر الزوج فقط، لما كان للتعليل بالدخول معنى: انظر: القرطبي "5/ 112".
.......................................................................
= ثالثًا: أن لا يعارض مفهوم المخالفة ما هو أقوى منه، كأن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، أو مساويًا له، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] فقد دلت الآية بمنطوقها على حرمة أكل مال اليتيم، كما دلت بمفهومهما، على أن غير الأكل مثل الأكل، كالإحراق أو التبديد، لأن هذا هو الذي يتبادر فهمه من علة التحريم.
رابعًا: أن لا يكون جوابًا لسؤال سائل، ولا لحادثة خاصة بالمذكور، مثل: أن يسأل سائل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيجاب: في الغنم السائمة زكاة، فلا يكون المفهوم هنا حجة باتفاق العلماء. إرشاد الفحول [2/ 59] .
خامسًا: أن يكون الكلام الذي ذكر فيه القيد مستقلًا، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا يكون حجة.
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
…
} [البقرة: 187] فإن تقييد كون الاعتكاف في المساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من مباشرة زوجته مطلقًا، والاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، فلا يكون هذا المفهوم حجة. المهذب للشيرازي "1/ 194".
سادسًا: أن لا يوجد في الواقعة المسكوت عنها دليل خاص بها، لأن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} [النساء: 101] فقد دلت الآية الكريمة على جواز قصر الصلاة في حالة الخوف من تقييد الحكم بالشرط في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . وهذا القيد يدل بمفهوم المخالفة على عدم جواز القصر حالة الأمن، إلا أن هذا المفهوم ألغي لوجود نص خاص به، فقد ورد أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟! فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" تقدم تخريجه.
فقد تعارض في مسألة قصر الصلاة حالة الأمن حكمان: أحدهما: مستفاد من =