الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد بينا أن ما كان كذلك لم يكن له في المسألة قول أصلًا. ثم كان ينبغي أن ينبه على ذلك، ويقول:
لي في المسألة نظر" أو يقول: "الحق في أحد هذين القولين".
إما إطلاقه فلا وجه له.
وهذا هو الجواب عن الآخر1.
أما ما يحكى عن غيره من الأئمة من الروايتين، فإنما يكون ذلك في حالتين، لاختلاف الاجتهاد، والرجوع عما رأى إلى غيره "ثم إن علمنا المتأخر عملنا به وألغينا المتقدم، وإن لم نعلم"2 المتقدم منهما، فيكونان كالخبرين المتعارضين.
1 وهو قولهم: "إنه قال ذلك لينبه أصحابه على طريق الاجتهاد". ومعناه: أنه كان يجب عليه أن يبين ولا يطلق.
2 ما بين القوسين زيادة من ط الدكتور عبد العزيز السعيد- حفظه الله – ص "376" وهو وإن لم يذكر مصدر هذه الزيادة، إلا أن هذا موافق لما قاله القاضي أبو يعلى في العدة "5/ 1616 – 1617" حيث قال:"قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حالٍ واحدةٍ، فيؤدي ذلك إلى أن يكون الشيء الواحد حلالًا حرامًا، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفينن رجع عن الأول منهما. ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعًا عن الأول، فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفًا؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره".
فصل: [المجتهد لا يقلد غيره]
اتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم، لم يجزْ له تقليد غيره.
وعلى أن العامّي له تقليد المجتهد.
فأما المتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل، ولا يقدر على الاجتهاد في البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية، فالأشبه: أنه كالعامّي فيما لم يُحصّل علمُه؛ فإنه كما يمكنه تحصيله، فالعامّي يمكنه ذلك مع المشقة التي تلحقه.
إنما المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولم يفتقر إلى تعلُّمٍ من غيره.
فهذا المتجهد هل يجوز له تقليد غيره.
قال أصحابنا: ليس له تقليد مجتهد آخر، مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به.
لكن يجوز له أن ينقل للسمتفتي مذهب الأئمة، كأحمد والشافعي، ولا يفتي مِنْ عند نفسه بتقليد غيره؛ لأن تقليدَ مَنْ لا تثبت عصمته، ولا تعلم إصابته: حكمٌ شرعيٌّ لا يثبت إلا بنص، أو قياس، ولا نص ولا قياس؛ إذ المنصوص عليه العامّي مع المجتهد، وليس ما اختلفنا فيه مثله؛ فإن العامّي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد قادر، فلا يكون في معناه.
فإن قيل: هو لا يقدر على غير الظن، وظن غيره كظنه.
قلنا:
مع هذا إذا حصل ظنه: لم يجزْ له اتباع ظن غيره، فكان ظنه أصلًا، وظن غيره بدلًا، فلا يجوز إثباته إلا بالدليل.
ولأنه إذا لم يجزْ له العدول إليه مع وجود المبدل، لم يجزْ مع
القدرة عليه، كسائر الأبدال والمبدلات.
فإن قيل: "لا نسلم عدم النص في المسألة، بل فيها نصوص: كقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. وهذا لا يعلم هذه المسألة.
وقوله: {
…
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 2.
قلنا:
المراد بالأولى: أمر العامّة بسؤال العلماء؛ إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فالعالم مسؤول غير سائل، ولا يخرج عن العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه إذا كان متمكنًا من معرفتها من غير تعلُّمٍ من غيره.
الثاني3:
يحتمل أن يكون معناه: اسألوا لتعلموا، أي: سلوا عن الدليل ليحصل العلم، كما يقال:"كُلْ لتشبع" و"اشرب لتروي" والمراد بـ {أُولِي الْأَمْرِ} : الولاة، لوجوب طاعاتهم؛ إذ لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد.
وإن كان المراد به العلماء، فالطاعة على العوامّ.
ثم هو معارض بعمومات أخرى أقوى مما ذكروه، يمكن التمسك بها في المسألة:
كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 4، وقوله تعالى:
1 سورة النحل، من الآية:"43"، والأنبياء، من الآية:"7".
2 سورة النساء، من الآية:"59".
3 أي: المعنى الثاني الذي يمكن أن يؤخذ من قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} .
4 سورة الحشر، من الآية:"2".
{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 1، وقوله سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 2 وقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 3.
وهذا أمر بالتدبر والاستنباط، والخطاب مع العلماء.
ثم لا فرق بين المماثل والأعلم؛ فإن الواجب أن ينظر إن وافق اجتهاده الأعلم: فذاك.
وإن خالفه فمن أين ينفع كونه أعلم وقد صار مزيفًا؟! 4 عنده، وظنه عنده أقوى من ظن غيره، وله الأخذ بظن نفسه اتفاقًا، ولم يلزمه الأخذ بقول غيره؟! وإن كان أعلم، فينبغي أن لا يجوز تقليده.
فإن قيل: فلم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما نظر في الأحكام، مع ظهور الخلاف، فالأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم.
قلنا:
كانوا لا يفتون، اكتفاءً بغيرهم، وأما علمهم لنفوسهم: لم يكن إلا بما عرفوه، فإن أشكل عليهم شاوروا غيرهم، لتعرّف الدليل، لا للتقليد، والله أعلم.
1 سورة النساء، من الآية:"83".
2 سورة محمد صلى الله عليه وسلم من الآية: "24".
3 سورة النساء، من الآية:"59".
4 أصل التزييف: تمييز الرائج من الزائف، وهو الرديء، ثم استعمل في الرد والإبطال. تاج العروس مادة "زيف".