المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته] - روضة الناظر وجنة المناظر - ت شعبان - جـ ٢

[ابن قدامة]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌باب: العموم

- ‌مدخل

- ‌فصل: [تعريف العام]

- ‌فصل: [أقسام العام والخاص]

- ‌فصل: [في ألفاظ العموم]

- ‌فصل: [في الخلاف في عموم بعض الصيغ]

- ‌فصل: [في حكم العام الوارد على سبب خاص]

- ‌فصل: [حكاية الفعل من الصحابي تقتضي العموم]

- ‌فصل: [الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين يعم العبيد والنساء]

- ‌فصل: [العام بعد التخصيص حجة]

- ‌فصل: [العام بعد التخصيص حقيقة]

- ‌فصل: [فيما ينتهي إليه التخصيص]

- ‌فصل: [الخطاب العام يتناول من صدر منه]

- ‌فصل: [العام يجب اعتقاد عمومه في الحال]

- ‌فصل: [تعريف القياس الجلي والخفي]

- ‌فصل: في تعارض العمومين

- ‌فصل: في الاستثناء

- ‌فصل: [في شروط الاستثناء]

- ‌فصل: [في حكم الاستثناء بعد جمل متعددة]

- ‌فصل: في المطلق والمقيد

- ‌فصل: [في حمل المطلق على المقيد]

- ‌باب: في الفحوى والإشارة

- ‌فصل: فيما يقتبس من الألفاظ من فحوها وإشارتها لا من صيغها

- ‌باب: القياس

- ‌فصل: تعريف القياس

- ‌فصل: في العلة

- ‌فصل: [طرق الاجتهاد في إثبات العلة]

- ‌فصل: [الأدلة النقلية للمنكرين للقياس]

- ‌فصل: [الأدلة العقلية للمنكرين للقياس]

- ‌فصل: [في مذهب النظام في الإلحاق بالعلة المنصوصة]

- ‌فصل: [في أوجه تطرق الخطأ إلى القياس]

- ‌فصل: [في أقسام إلحاق المسكوت بالمنطوق]

- ‌فصل: تقسيم المناسب من حيث تأثيره في الحكم أو عدم تأثيره

- ‌فصل: [مراتب الجنسية]

- ‌فصل: [أمور لا تكفي لإفساد علة الخصم]

- ‌فصل: [هل تثبت العلة بشهادة الأصول]

- ‌فصل: [في المسالك الفاسدة]

- ‌فصل: [في حكم العلة إذا استلزمت مفسدة]

- ‌فصل: في قياس الشَّبه

- ‌فصل: في قياس الدلالة

- ‌باب: أركان القياس

- ‌مدخل

- ‌فصل: [الركن الأول: الأصل وشروطه]

- ‌فصل: الركن الثاني: الحكم. [وشروطه]

- ‌فصل: الركن الثالث: الفرع [وشروطه]

- ‌فصل: الركن الرابع: العلة

- ‌باب: [كتاب الاجتهاد]

- ‌فصل: في حكم المجتهد

- ‌فصل: [شروط المجتهد]

- ‌فصل: مسألة: [في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل: [في تعبد النبي صلى الله عليه وسلم-بالاجتهاد]

- ‌فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته]

- ‌فصل: [في تعارض الأدلة]

- ‌فصل: [هل للمجتهد أن يقول قولين في مسألة واحدة]

- ‌فصل: [المجتهد لا يقلد غيره]

- ‌فصل: [إذا نصّ المجتهد على حكم لعلة في مسألة فهو مذهبه في كل ما توجد فيه هذه العلة]

- ‌فصل: في التقليد

- ‌فصل: [فيمن يستفتيه العامّي]

- ‌فصل: [إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء]

- ‌باب: في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح

- ‌مدخل

- ‌فصل: [تعريف التعارض]

- ‌فصل: في ترجيح المعاني

- ‌الفهارس

- ‌موضوعات الجزء الثاني:

- ‌الفهارس العامة:أولًا: فهرس الآيات القرآنية

- ‌ثانيا: فهرس الأحاديث

- ‌ثالثا: فهرس الآثار

- ‌رابعا: فهرس الأبيات الشعرية

- ‌خامسًا: فهرس الأعلام

- ‌سادسًا: فهرس الفرق والطوائف والملل:

- ‌سابعًا: فهرس المراجع:

- ‌باب: بيان بالأخطاء المطبعية التي وقعت في كتاب

الفصل: ‌فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته]

وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد: لفاته ثواب المجتهدين1.

= وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه صلى الله عليه وسلم قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ.

1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين.

ص: 347

‌فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته]

الحق في قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين، أو أصوله2.

لكنه إن كان في فروع الدين، مما ليس فيه دليل قاطع -من نص أو إجماع- فهو معذور غير آثم، وله أجر على اجتهاده.

وبه قال بعض الحنفية والشافعية.

= وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه صلى الله عليه وسلم قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ.

1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين.

2 ينبغي أن نقرر أولًا: أن الأمور التي يجري فيها الاجتهاد إما أن تكون قطعية أو ظنية: فإن كانت قطعية فالمخطئ فيها آثم بلا خلاف؛ لأن الحقَّ فيها واحد؛ فمن أصابه فهو المحق، ومن أخطأه فهو المبطل، سواء أكان مدرك ذلك عقليًّا محضًا، كحدوث العالم، ووجود الصانع- جل وعلا- أو شرعيًّا مستندًا إلى ثبوت أمر عقلي، كعذاب القبر، والصراط، والميزان. انظر: الإحكام للآمدي "4/ 178"، شرح الكوكب المنير "4/ 488" والخلاف بين العلماء إنما هو في الأمور الظنية، كما هو واضح.

ص: 347

وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد "في الظنيات" مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب.

واختلف فيه عن أبي حنيفة والشافعي.

وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي2.

وفَرَضَ 3 الكلام في طرفين.

أحدهما: مسألة فيها نص فينظر:

فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد- في طلبه: فهو مخطئ آثم؛ لتقصيره.

وإن لم يكن مقدورًا عليه لبعد المسافة، وتأخير المبلّغ: فليس بحكم في حقه.

بدليل أن الله- تعالى- لما أمر جبريل أن يخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة إلى الكعبة، فصلَّى قبل إخبار جبريل إياه لم يكن مخطئًا4.

ولما بُلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم-وأهل قباء يصلون إلى بيت المقدس لم

1 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 48".

2 يقصد بذلك الإمام الغزالي، حيث نقل كلامه من أول قوله: "وفَرَضَ الكلام

" إلى قوله: "بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف"، والغريب أنه لم يصرح باسمه- كما قلنا في مقدمة الكتاب- مع أنه يختصر كلامه، أو يستبدل عبارته بعبارة مرادفة لها!

3 أي: الغزالي.

4 عبارة الغزالي: "أنه لو صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم-إلى بيت المقدس، بعد أن أمر الله – تعالى- جبريل أن ينزل إلى محمد – عليه السلام ويخبره بتحويل القبلة، فلا يكون النبي مخطئًا؛ لأن خطاب استقبال الكعبة- بعد – لم يبلغه".

ص: 348

يبلغهم: لم يكونوا مخطئين.

ولو بلغ أهل قباء فاستمر أهل مكة على الصلاة إلى أن بلغهم: لم يكونوا مخطئين.

وإذا ثبت هذا فيما فيه نصُّ: ففيما لا نصَّ فيه أولى.

ولا يخلو: إما أن تكون الإصابة ممكنة، أو محالًا. ولا تكليف بالمحال. ومن أمر بممكن، فتركه، أثم وعصى؛ إذ يستحيل أن يكون مأمورًا ولم يعص ولم يأثم بالمخالفة؛ لمناقضة ذلك للإيجاب.

وزعم: أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل مصنف.

ثم قال1: الظنيات لا دليل فيها؛ فإن الأمارات الظنية ليست أدلة لأعيانها، بل تختلف بالإضافات من دليل يفيد الظن لزيد، ولا يفيده لعمرو، مع إحاطته به.

بل ربما يفيد الظن لشخص واحد في حالة دون حالة.

بل قد يقوم في حق شخص واحد في حالة واحدة دليلان متعارضان، ولا يتصور في القطعية تعارض.

ولذلك ذهب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه إلى التسوية في العطاء، وعمر إلى التفضيل2، وكل واحد منهما كشف لصاحبه دليله وأطلعه عليه، فغلب على ظن كل واحد منهما ما صار إليه، وكان مغلّبًا

1 أي: الغزالي- أيضًا- وهذا هو الطرف الثاني، وإن كان الغزالي لم يعنون له في المستصفى.

2 رُوي عن أبي بكر- رضي الله عنه أنه قال: "إنما أسلموا لله، وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ" أما عمر رضي الله عنه فقال: "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا" تقدم تخريج ذلك في فصل إثبات القياس على منكريه.

ص: 349

على ظنه دون صاحبه؛ لاختلاف أحوالهما.

فمن خُلِقَ خِلْقَتُهما1 يميل ميلهما، ويصير إلى ما صارا إليه في الاختلاف، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسة يوجب اختلاف الظنون.

فمن مارس الكلام: ناسب طبعه أنواعًا من الأدلة يتحرك بها ظنه، لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه.

ومن غلب عليه الغضب: مالت نفسه إلى ما فيه "شهامة وانتقام"2.

ومن رقَّ طبعه: مال إلى الرفق والمساهلة.

بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف.

وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الإثم غير محطوط في الفروع3، بل فيها حقّ معين4 عليه دليل قاطع؛ لأن العقل قاطع بالنفي الأصلي، إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع.

وإنما استقام لهم هذا؛ لإنكارهم القياس وخبر الواحد.

وبما أنكروا الحكم بالعموم والظاهر5.

وزعم الجاحظ6: أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر، فعجز عن درك الحقِّ: فهو معذور غير آثم.

1 فسرهما الغزالي- بعد ذلك – فقال: "ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته...."

2 في جميع النسخ: "السياسة والانتقام" والمثبت من المستصفى وهو المناسب.

3 وكذلك الأصول من باب أولى، كما قال الطوفي في شرحه "3/ 603".

4 في الأصل "يتعين" والمثبت من المستصفى.

5 بعدها في المستصفى: "المحتمل".

6 هو: عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، المعروف بالجاحظ، العالم =

ص: 350

وقال عبيد الله بن الحسن العنبري1: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعًا.

وهذه كلها أقاويل باطلة.

أما الذي ذهب إليه الجاحظ:

فباطل يقينًا، وكفر بالله- تعالى- وردٌّ عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم-النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نعلم – قطعًا – أن النبي صلى الله عليه وسلم-أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمهم على إصرارهم.

ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم.

ونعلم: أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه.

والآيات الدالّة في القرآن على هذا كثيرة:

كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 5، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

= المشهور، صاحب التصانيف في كل فنٍّ، وإليه تنسب فرقة الجاحظية من المعتزلة، من مؤلفاته:"البيان والتبيين" و"الحيوان". توفي بالبصرة سنة 255هـ انظر: وفيات الأعيان "3/ 140" بغية الوعاة "2/ 228".

1 هو: عبيد الله بن الحسن بن الحسين العنبري بن تميم، فقيه محدث، ولي القضاء بالبصرة، ولد سنة 105هـ وتوفي سنة 168هـ انظر: تاريخ بغداد "10/ 306"، الأعلام "4/ 346".

2 سورة ص، من الآية:"27".

3 سورة فصلت، الآية:"23".

4 سورة البقرة، من الآية:"78".

5 سورة المجادلة، من الآية:"18" وتمامها: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .

ص: 351

مُهْتَدُونَ} 1، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِه ِ

} 2.

وفي الجملة: ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم-مما لا ينحصر في الكتاب والسنة.

وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب".

إن أراد: أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه: فهو كقول الجاحظ.

وإن أراد: أن ما اعتقده فهو على اعتقاده: فمحال؛ إذ كيف يكون قِدَمُ العالم وحدوثه حقًّا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه وهذه أمور ذاتية، لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها؟!.

فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية3:

فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها، وجعلها تابعة للمعتقدات.

وقد قيل: إنما أراد4 اختلاف المسلمين.

وهو5 باطل كيفما كان؛ إذ كيف يكون القرآن قديمًا مخلوقًا، والرؤية محالًا ممكنًا وهذا محالٌ؟! 6.

1 سورة الزخرف، من الآية:"37".

2 سورة الكهف، من الآيتين:"104، 105".

3 تقدم التعريف بهم.

4 أي: العنبري.

5 أي: تفسير قول العنبري: بأن المراد به: اختلاف المسلمين.

6 معنى هذا: أن المعتذرين عن العنبري بأنه يقصد: اختلاف المسلمين، قولهم هذا مردود؛ فإن المعتزلة قالوا: القرآن مخلوق، والسلف الصالح وأهل الحديث قالوا: هو قديم، فكيف يتصور على زعمه أن يكون قديمًا وحديثًا؟! وكيف يتصور =

ص: 352

والدليل على أن الحق في جهة واحدة1: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعنى2.

أما الكتاب:

فقول الله – تعالى- {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 3.

فلو استويا في إصابة الحكم: لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى. وهو يدلُّ على فساد مذهب من قال: "الإثم غير محطوط عن المخطئ"، فإن الله- تعالى- مدح كلا منهما وأثنى عليه بقوله:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 4.

فإن قيل: فيكف يجوز أن ينسب الخطأ إلى داود وهو نبيٌّ؟! ومن أين

= اجتماع الممكن والمحال، إذ أن السلف يقولون: إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة داخلة في الممكن، والمعتزلة قالوا: هي من المحال. انظر: نزهة المخاطر "2/ 420".

1 بدأ المصنف يورد الأدلة على أن الحق في قول واحد بعينهن ومن عداه مخطئ.....

2 المراد بالمعنى: الدليل العقلي.

3 سورة الأنبياء، من الآيتين:"78، 79".

4 قال الطوفي: موضحًا ذلك: "ولولا أن الحق في جهة بعينها، لما خصَّ سليمان بالتفهيم؛ إذ كان يكون ترجيحًا بلا مرجح، ولولا سقوط الإثم عن المخطئ، لما مدح داود عليه السلام بقوله – عز وجل: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} لأن المخطئ لا يمدح، فدلّ هذا على أن الحق في قول مجتهد معيّن، وأن المخطئ في الفروع غير آثم". شرح المختصر "3/ 605".

ص: 353

لكم أنه حكم باجتهاده، وقد علمتم الاختلاف في جواز ذلك1؟!.

ثم لو كان مخطئًا: كيف يمدح المخطئ وهو يستحق الذم؟!

ثم يحتمل: أنهما كانا مصيبين فنزل الوحي بموافقة أحدهما

قلنا:

يجوز وقوع الخطأ منهم، لكن لا يقرّون عليه، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى.

وإذا تُصُوِّر وقوع الصغائر منهم: فكيف يمتنع وجود خطأ لا مأثمَ فيه، وصاحبه مثاب مأجور؟!

ولولا ذلك: ما عوتب نبينا- عليه السلام – على الحكم في أسارى بدر، ولا في الإذن في التخلف عن غزوة تبوك فقال- تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ....} 2.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتختصمون إليَّ، ولعلّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعضٍ، وإنما أقضي على نحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذْهُ؛ فإنما أقْطعُ له قطعةً من النار"3.

فبين أنه يقضي للرجل بشيء من حقِّ أخيه.

قولهم: "من أين لكم أنه حكم بالاجتهاد؟! "

قلنا:

الآية دليل عليه؛ فإنه لو حكم بنص: لما اختصَّ سليمان بالفهم دونه.

1 في مسألة جواز تعبّد النبي صلى الله عليه وسلم-بالاجتهاد فيما لا نص فيه.

2 سورة التوبة من الآية "43".

3 تقدم تخريج الحديث.

ص: 354

وقولهم: "إن النص نزل بموافقة سليمان".

قلنا:

لو كان ما حكم به داود – عليه السلام صوابًا وهو الحق، فتغير الحكم بنزول النص: لا يمنع أن يكون فهمهما وقت الحكم، ولا يوجب اختصاص "سليمان" بالإصابة، كما لو تغير بالنسخ.

وأما السنة:

فما تقدم من الخبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم-أخبر بأنه يقضي للإنسان بحق أخيه.

ولو كان يأثم بذلك: لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو كان ما قضي به هو الحكم عند الله – تعالى- لما قال: "قضيت له بشيء من حق أخيه" ولا قال: "إنما أقطع له قطعة من النار".

ولأن الحكم عند الله تعالى- لا يختلف باختلاف لحن1 المتخاصمين، أو تساويهما.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشًا أوصاهم فقال: "إذا حاصرتم حصنًا أو مدينة، فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم على حكم الله؛ فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم"2.

1 اللَّحَن- بفتحتين: الفطنة، وهو سرعة الفهم، وفلان ألحن من فلان، أي: أسبق فهمًا منه. والمراد منه هنا: أن بعضكم قد يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره. انظر: المصباح المنير مادة "لحن".

2 أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، وأبو داود: كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين، والترمذي: كتاب السير، باب ما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم في القتال، وابن ماجة: كتاب الجهاد، باب وصية الإمام، من حديث سليمان بن بريدة الأسلمي.

ص: 355

وروى ابن عمر وعمرو بن العاص وأبو هريرة، وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر".

هذا لفظ رواية عمرو. أخرجه مسلم1.

وهو حديث تلقته الأمة بالقبول.

وهو صريح في: أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجر المصيب.

فإن قيل: المراد به: أنه أخطأ مطلوبه، دون ما كلّفه، كخطأ الحاكم، ردّ المال إلى مستحقيه2، مع إصابته حكم الله عليه، وهو اتباع موجب ظنه. وخطأ المجتهد جهة القبلة مع أن فرضه جهة يظن أن مطلوبه فيها. وهذا يتحقق في كل مسألة فيها نص، أو اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط، كأروش الجنايات، وقدر كفاية القريب؛ فإن فيها حقيقة معينة عند الله، وإن لم يكلف المجتهد طلبها3.

قلنا:

فإذا سلم هذا: ارتفع النزاع، فإننا لا نقول: إن المجتهد يُكلَّف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف المجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه فله أجران، وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده،

1 في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ، والبخاري: كتاب الاعتصام: باب أجر الحكام إذا اجتهد فأصاب وأخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ.

2 عبارة الغزالي في المستصفى "4/ 76": "فإن الحاكم يطلب ردّ المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك، فيكون مخطئًا فيما طلبه، مصيبًا فيما هو حكم الله – تعالى- عليه".

3 في الأصل "طلبه" والمثبت من المستصفى "4/ 77".

ص: 356

وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوط عنه.

كما في مسألة القبلة؛" فإن المصيب لجهة الكعبة عند اختلاف المجتهدين واحد، ومن عداه مخطئ يقينًا، يمكن أن يبين له خطأه، فيلزمه إعادة الصلاة عند قوم، ولا يلزمه عند آخرين، لا لكونه مصيبًا لها، بل سقط عنه التوجه إليها، لعجزه عنها.

وهكذا كون حق زيد عند عمرو، إذا اختلف فيه مجتهدان، فالمصيب أحدهما، والآخر مخطئ؛ إذ لا يمكن كون ذمة عمرو مشغولة بريئة.

وتخصيص ذلك بما فيه نص خلاف موجب العموم، وهو باطل- أيضًا- فإن القياس [في] معنى النص، ونحن نتعرف بالبحث المعني الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فهو كالنص.

وأما الإجماع:

فإن الصحابة- رضي الله عنهم – اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى: إطلاق الخطأ على المجتهدين.

من ذلك: قول أبي بكر- رضي الله عنه: في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان"1.

وعن ابن مسعود في قصة "برْوع" مثل ذلك2.

وقال عمر – رضي الله عنه لكاتبه: "اكتب: هذا ما رآه عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر"3.

1 تقدم تخريج الأثر.

2 تقدم تخريجه.

3 جاء في سنن البيهقي "10/ 116": أن عمر رأى رأيًا، فكتب الكاتب: هذا ما =

ص: 357

وقال- في قضية قضاها: "والله، ما يدري عمر أصاب أم أخطأ" ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد1 عن أبيه.

وقال علي لعمر- في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها، وقد استشار عثمان وعبد الرحمن، فقالا:"لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب"- فقال علي: "إن يكونا قد اجتهدا: فقد أخطآ، وإن يكونا ما اجتهد فقد غشّاك، عليك الدية". فرجع عمر إلى رأيه2.

وقال علي- في إحراق الخوارج3:

= أرى اللهُ أميرَ المؤمنين. فانتهره عمر، وقال: اكتب: هذا ما رأى عمر؛ فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر.

1 هو: بكر بن محمد النسائي البغدادي، روى عن أبيه عن الإمام أحمد – رضي الله عنه – مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 119، 120".

2 تقدم تخريج الأثر.

3 هكذا في الأصل، والذي في صحيح البخاري: أن الذين أحرقهم علي هم الزنادقة. روى البخارى: باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم حديث "6922" عن عكرمة قال: "أُتِيَ علي– رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنعباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذبوا بعذاب النار، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".

وحكى ابن حجر في الفتح روايات أخرى في الذين حرقوا: فقيل: إنهم أناس كانوا يعبدون الأصنام سرًّا. وقيل: إنهم جماعة ارتدوا عن الإسلام، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، فأُتِيَ بهم فضرب أعناقهم ورماهم في حفرة، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم. وزعم أبو المظفر الإسفراييني في "الملل والنحل" أنهم طائفة من الروافض ادّعوا فيه الإلهية، وهم من السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا، ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة.

ص: 358

لقد عثرت عثرة لا تنجبر

سوف أليسُ1 بعدها أو أستمر

..............................

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر2

وقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"3.

وقال: "من شاء باهلته في العول"4.

وقالت عائشة: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم-إلا أن يتوب"5.

وهذا اتفاق منهم على أن المجتهد يخطئ.

فإن قيل6: لعلهم نسبوا الخطأ إليه، لتقصيره في النظر، أو لكونه من غير أهل الاجتهاد.

= ورُوي أنه رضي الله عنه بعد أن أحرقهم قال:

إني إذا رأيت أمرًا منكرًا

أوقدت ناري ودعوت قنبرًا

انظر: فتح الباري "12/ 331" طبعة دار الكتب العلمية.

1 جاء في تاج العروس مادة "ألس": "يقال: تلايس الرجل إذا حسن خلقه، وكان حمولًا، وتلايس عنه: أغمض"، ومعناه هنا: أني سوف أتحمل كل ما يفعله هؤلاء وأغمض العين عن القذى، أو أستمر على عقابهم حتى أجمع الرأي المتشتت المنتشر. نزهة الخاطر "2/ 424".

2 والشطر الأول: أرفع منذيلي ما كنت أجرُّ.

والبيتان نسبتهما إلى الإمام علي رضي الله عنه الطبري في تاريخه "4/ 437" إلا أن صدر البيت الأول عنده: إني عجزت عجزة لا أعتذر....

3 تقدم تخريجه.

4 في الأصل "القول" وهو خطأ مطبعيٌّ. وخلاف ابن عباس في العول تقدم توضيحه في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر.

5 تقدم تخريج هذا الأثر في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر.

3 القائل: هو الإمام الغزالي في المستصفى "4/ 81": ونصُّ عبارته: "وإنما ينتفي" =

ص: 359

أو يكون القائل لذلك يذهب مذهب من يرى التخطئة1.

قلنا:

أما الأول: فجهل قبيح، وخطأ صريح، كيف يستحل مسلم: أن "أن يقول: إن"2 الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين ومن سمينا معهم من البحر: ابن عباس، والأمين: عبد الرحمن بن عوف، وفقيه الصحابة وأفرضهم وقارئهم: زيد بن ثابت ليسوا من أهل الاجتهاد؟!

وإذا لم يكونوا من أهل الاجتهاد: فمن الذي يبلغ درجتهم؟!

ولا يكاد يتجاسر على هذا القول من له في الإسلام نصيب.

ونسبته لهم -أنهم قصّروا في الاجتهاد- إساءة ظنٍّ بهم، مع تصريحهم بخلافه، فإن عليًّا رضي الله عنه قال:"إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ" وتوقف ابن مسعود في قصة "برْوع" شهرًا. وهذا في القبح قريب من الذي قبله؛ لكونه نسب هؤلاء الأئمة إلى الحكم بالجهل والهوى، وارتكاب ما لا يحل، ليصحح به قوله الفاسد، فلا ينبغي أن يلتفت إلى هذا.

وقولهم: "يذهب مذهب من يرى التخطئة".

فكذلك هو، لكن هو إجماع منهم، فلا تحل مخالفته.

وأما المعنى: فوجوه:

أحدها: أن مذهب من يقول بالتصويب3 محالٌ في نفسه؛ لأنه

= الخطأ: متى صدر الاجتهاد من أهله، وتم في نفسه، ووضع في محله، ولم يقع مخالفًا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب، لا إلى ما وجب".

1 أي: يذهب مذهب من يرى أن المصيب واحد، ومن عداه مخطئ.

2 ما بين القوسين من نسخة الدكتور عبد الكريم النملة – حفظه الله.

3 أي: أن كل مجتهد مصيب.

ص: 360

يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو: أن يكون يسير النبيذ حرامًا حلالًا، والنكاح بلا وليٍّ صحيحًا فاسدًا، ودم المسلم- إذا قتل الذمي- مهدرًا معصومًا، وذمة المحيل- إذا امتنع المحتال من قبول الحوالة على المليء- بريئة مشغولة؛ إذ ليس في المسألة حكم معين.

وقول كل واحد من المجتهدين حقٌّ وصواب مع تنافيهما.

قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوَّله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء: يجعل الشيء ونقيضه حقًّا، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها.

قالوا: لا يستحيل كون الشيء حلالًا وحرامًا في حقّ شخصين، والحكم ليس وصفًا للعين.

فلا يتناقض أن يحل لزيد ما حرم على عمرو، كالمنكوحة، حلال لزوجها، حرام على غيره، وهذا ظاهر.

بل لا يمتنع في حق شخص واحد مع اختلاف الأحوال كالصلاة واجبة في حق المحدث، إذا ظن أنه متطهر، حرام إذا علم بحدثه.

وركوب البحر: مباح لمن غلب على ظنه السلامة، حرام على الجبان الذي يغلب على ظنه العطب1.

والجواب2:

أنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين في حق شخص واحد؛ فإن المجتهد لا يَقْصُرُ الحكم على نفسه، بل يحكم بأن يسير النبيذ حرام على كل واحد، والآخر يقضي بإباحته في حق الكل.

1 جاء في المصباح المنبر "عَطِبَ": عطبًا من باب تَعِبَ: هلك.

2 أي على كون الحكم وصفًا لأفعال المكلفين، وإثبات كونه وصفًا للأعيان.

ص: 361

فكيف يكون حرامًا على الكل، مباحًا لهم؟!

أم كيف تكون المنكوحة بلا وليٍّ مباحة لزوجها، حرامًا عليه؟!

ثم لو لم يكن محالًا في نفسه، لكنه يؤدي إلى المحال في بعض الصور: فإنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان، فيتخير بين الشيء ونقيضه.

ولو نكح مجتهد امرأة بلا وليٍّ، ثم نكحها آخر يرى بطلان الأول، فكيف تكون مباحة للزوجين؟

المسلك الثاني1:

لو كان كل مجتهد مصيبًا: جاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن كل واحد منهما مصيب، وصلاته صحيحة، فلِمَ لا يقتدي بمن صلاته صحيحة في نفسه؟! 2

ثم يجب أن يُطوى بساط المناظرات في الفروع، لكون كل واحد منهم مصيبًا لا فائدة في نقله عن ما هو عليه، ولا تعريفه ما عليه خصمه.

المسلك الثالث:

أن المجتهد يكلف الاجتهاد بلا خلاف، والاجتهاد: طلب يستدعي مطلوبًا لا محالة، فإن لم يكن للحادثة حكم: فما الذي يطلب؟ فمن يعلم – يقينًا- أن زيدًا ليس بجاهل ولا عالم، هل يتصور أن يطلب الظن بعلمه؟!

ومن يعتقد أن النبيذ ليس بحلال ولا حرام، كيف يطلب أحدهما؟! فإن قالوا: إن المجتهد لا يطلب حكم الله – تعالى- بل إنما يطلب غلبة

1 أي: الوجه الثاني من قوله- قبل ذلك- "والمعنى من وجوه".

2 أي: في نفس المجتهد المؤتم؛ حيث يعتقد أن كل مجتهد مصيبٌ، على فرض صحة هذا المذهب.

ص: 362

الظن، فيكون حكمه، ما غلب على ظنه.

كمن يريد ركوب البحر فقيل له: إن غلب على ظنك الهلاك: حرم عليك الركوب، وإن غلب على ظنك السلامة: أُبِيْحَ لك الركوب، وقبل الظن لا حكم لله – تعالى- عليك سوى اجتهادك في تتبع ظنك.

فالحكم يتجدد1 بالظن، ويوجد بعده.

ولو شهد عند قاض شاهدان، فحكم الله – تعالى – عليه يترتب عليه ظنه:

إن غلب عليه الصدق: وجب قبوله.

وإن غلب على ظنه الكذب: لم يجب قبوله.

قلنا:

قولهم: "إنما يطلب غلبة2 الظن".

فالظن- أيضًا- لا يكون إلا لشيء مظنون، ومن يقطع بانتفاء الحكم كيف يتصور أن يظن وجوده؟!؛ فإن الظن لا يتصور إلا لموجود، والموجود يتتبع الظن، فيؤدي إلى الدور.

وراكب البحر لا يطلب الحكم، إنما يطلب تعرّف الهلاك أو السلامة، وهذا أمر يمكن تعرّفه.

والحاكم إنما يطلب الصدق أو الكذب، وهذا غير الحكم الذي يلزمه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المطلوب: هو الحكم الذي يعلم أنه لا وجود له، فكيف يتصور طلبه له؟!

ثم إذا علمنا أنه لا حكم لله- تعالى- في الحادثة، فلِمَ يجب الاجتهاد؟!

1 عبارة المستصفى: "يتبع".

2 في الأصل: "عليه" والمثبت من نسخة الدكتور النملة.

ص: 363

فإننا إذا علمنا بالعقل قبل ورود الشرع: انتفاء الواجبات، وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات، فيجب أن يطلق في الأشياء من غير اجتهاد، والعامِّي الذي لا اجتهاد له لا يؤاخذ على فعل من الأفعال؛ فإن الحكم إنما يحدث بالاجتهاد، وهو لا اجتهاد له، فلا حكم عليه إذًا، ولا خطاب في حقه، وهذا فاحش.

وقولهم: "إن النص إذا لم يقدر عليه المجتهد لا يكون حكمًا في حقه": ممنوع، بل الحكم بنزول النص إلى الخلق، بلغهم أو لم يبلغهم.

فلو وقف الحكم على سماع الخطاب، وبلوغ النص: لم يكن على العامّي حكم في أكثر المسائل؛ لكونه لم يبلغه النص، ولكان المجتهد إذا امتنع من الاجتهاد لا حكم عليه لتلك الحادثة، ولا يجب عليه قضاء ما ترك من العبادات والواجبات، ولا يكون مخطئًا إلا بترك الاجتهاد لا غير.

أما النص إذا نزل به "جبريل" فقد قال أبو الخطاب: يكون نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه1.

وإنما اعتدّ أهل قباء بما مضى من صلاتهم؛ لأن القبلة يعذر فيها بالعذر2.

جواب ثانٍ:

أن هذا فرض في مسألة لا يتوهم أن لها دليلًا يطلب، وإنما الخطأ فيما نصب الله – تعالى- عليه دليلًا، وأوجب على المكلف طلبه، ثم يحتاج إلى بيان تصور ذلك، وإمكان خلو بعض المسائل من الدليل، وهو باطل؛ إذ لا خلاف في وجوب الاجتهاد في الحادثة، وتعرّف حكمها،

1 التمهيد "2/ 395".

2 هذا جواب سؤال مقدر تقديره: يرد على قولكم: إذا نزل جبريل بالنص يكون =

ص: 364

والشرع قد نصب عليها: إما دليلًا قاطعًا، أو ظنيًّا.

قولهم: "إن الأدلة الظنية ليست أدلة لأعيانها بدليل: اختلاف الإضافات".

قلنا:

هذا باطل، فإنّا قد بينّا في كل مسألة دليلًا، وذكرنا وجه دلالته. ولو لم يكن فيها أدلة: لاستوى1 المجتهد والعامّي.

ولجاز للعامّي الحكم بظنه، لمساواته المجتهد في عدم الدليل.

وهل الفرق بينهما إلا معرفة الأدلة، ونظره في صحيحها وسقيمها2؟!

ونبوّ3 بعض الطباع عن قبول الدليل لا يخرجه عن دلالته؛ فإن كثيرًا من العقليات يختلف فيها الناس مع اعتقادهم أنها قاطعة.

ولا ينكر أن منها ما تضعف دلالته، ويخفى وجهه، ويوجد معارض له، فتشتبه على المجتهد، وتختلف فيه الآراء.

ومنها: ما يظهر ويتبين خطأ مخالفيه، وكلها أدلة.

= نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه: أن أهل قباء اعتدّوا بما مضى من صلاتهم، ولم يستأنفوها، ولو عدوا النزول نسخًا لاستأنفوها.

فأجاب المصنف: أن القبلة يعذر فيها بالعذر، فهي خارجة عما ذهبنا إليه، ومعنى: يعذر فيها بالعذر، أي: يقبل فيها العذر، انظر: نزهة الخاطر "2/ 429".

1 في الأصل "لا يستوي" والمثبت من الدكتور النملة.

2 أي: نظر المجتهد في الأدلة وتمييز بين ما يصلح منها وما لا يصلح

3 جاء في المصباح المنير مادة "نبا": "نبا الطبع عن الشيء: نفر ولم يقبله".

ص: 365