الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا:
كل من وجب عليه قبول قول غيره، وجب معرفة حاله، فيجب على الأمة معرفة حال الرسول، بالنظر في معجزاته، ولا يصدّق كل مجهول يدّعي أنه رسول الله، ويجب على الحاكم معرفة الشاهد، وعلى العالم بالخبر معرفة حال رواته.
وفي الجملة: كيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل؟
أما العادة من العامة: فليست دليلًا.
وإن سلمنا ذلك مع الجهل بعدالته: فلأن الظاهر من حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتيا.
ولا يمكن أن يقال: ظاهر الخلق نيل درجة الاجتهاد، لغلبة الجهل، وكون الناس عوامًّا، إلا الأفراد.
ولا يمكن أن يقال: العلماء فسقة إلا الآحاد، فافترقا1.
1 عبارة الغزالي: ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة التقوى، والجهل أغلب على الخلق؛ فالناس كلهم عوامّ إلا الأفراد في البلاد، ولا يمكن أن يقال: المجتهدون والعلماء كلهم فسقة إلا الأفراد، بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد" المستصفى "4/ 151".
فصل: [إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء]
وإذا كان في البلد مجتهدون فللمقلد مساءلة من شاء منهم. ولا يلزمه مراجعة الأعلم، كما نقل في زمن الصحابة؛ إذ سأل العامّة الفاضل والمفضول في أحوال العلماء.
وقيل: بل يلزمه سؤال الأفضل1.
وقد أومأ إليه الخرقي فقال: "إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع الأعمى أوثقهما في نفسه"2.
والأولى أولى؛ لما ذكرنا من الإجماع.
وقول الخرقي يحمل على ما إذا سألهما فاختلفا، وأفتاه كل واحد بخلاف قول صاحبه، فحينئذ يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه.
وفيه وجه آخر: أنه يتخير، لما ذكرناه من الإجماع3.
ولأن العامّي لا يعلم الأفضل حقيقة، بل يغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول؛ فإن لمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها شأن العوامّ.
1 وضحه الطوفي فقال: "يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد، يعني: سؤال من شاء منهم، ولا يلزمه سؤال جميعهم، وفي وجوب تخير الأفضل، أي: هل يجب عليه أن يتخير أفضل المجتهدين فيستفتيه؟ فيه قولان:
ثم ساق أدلة القائلين بعدم وجوب تخير الأفضل فقال:
أحدهما: أن الصحابة أجمعوا على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول، أي: أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم، وذلك ينفي وجوب تخير الأفضل، وإلا كان إجماع الصحابة رضي الله عنهم خطأ، وهو باطل.
الوجه الثاني: أن الفضل قدر مشترك بين الفاضل والأفضل، فليكف في جواز التقليد، ولا عبرة بخاصية الأفضلية.
قلت: ولأن الناس متفاوتون في رتبة الفضائل فما من فاضل إلا وثَمَّ من هو أفضل منه بدليل قوله – عز وجل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية: 76]، فلو اعتبر الأفضل لانسد باب الاجتهاد". انظر: شرح المختصر "3/ 666-367".
2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109"
3 هذا تكرار لما تقدم.
ولو جاز ذلك:
جاز له النظر في المسألة ابتداءً.
ووجه القول الأول1:
أن أحد القولين خطأ، وقد تعارض عنده دليلان، فيلزمه الأخذ بأرجحهما، كالمجتهد يلزمه الأخذ بأرجح الدليلين المتعارضين2.
ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهي، وينتقي 3 من المذاهب أطيبها، ويتوسع، ويعرف الأفضل بالأخبار، وبإذعان المفضول له، وتقديمه له، وبأمارات تفيد غلبة الظن دون البحث عن نفس علمه، والعامّي أهل لذلك.
والإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما؛ إذ لم ينقل إلا ذلك.
فأما إن استوى عنده المفتيان: جاز له الأخذ بقول من شاء منهما؛ لأنه ليس قول بعضهم أولى من البعض.
وقد رجح قوم القول الأشد؛ لأن الحق ثقيل.
ورجح الآخرون الأخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم-بعث بالحنيفية السمحة4.
1 أي: لزوم البحث عن الأفضل وسؤاله.
2 وضحه الشيخ الطوفي فقال: "احتج المثبت لوجوب تخير الأفضل بأن الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب، فيكون واجبًا، أما الأولى فظاهرة، وأما الثانية: فبناء على أن الأصل اعتبار العلم، وإنما سقط في الشرعيات لتعذره، فوجب الظن الأقرب إلى العلم"، شرح مختصر الروضة "3/ 667".
3 في الأصل "ينتقد" والمثبت في المستصفى "4/ 154".
4 روى البخاري وأحمد وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة
…
" انظر: صحيح البخاري مع الفتح "1/ 86، 87" مسند الإمام أحمد "1/ 236، 5/ 226، 6/ 116، 233" فيض القدير "3/ 203".
وهما قولان متعارضنا فيسقطان1.
وقد روي عن أحمد- رضي الله عنه ما يدل على جواز تقليد المفضول؛ فإن الحسين بن بشار2 سأله عن مسألة في الطلاق فقال: "إن فعل حنث" فقال له: يا أبا عبد الله، إن أفتاني إنسان -يعني: لا يحنث- فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ -حلقة بالرصافة– فقال: إن أفتوني به حل؟ قال نعم3.
وهذا يدل على التخيير بعد الفتيا. والله أعلم.
1 أي: أن كلًّا من الأخذ بالأشد، والأخذ بالأخف متعارض مع الآخر فيتساقطان، ويرجع العامّي إلى الأخذ بقول من شاء.
2 هو: الحسين بن بشار المخرمي، من أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 142".
3 انظر: التمهيد لأبي الخطاب "4/ 403، 404".