الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولهم: "إنه جمع شيء إلى شيء".
قلنا: الأسماء في اللغة لا يلزم فيها حكم الاشتقاق، على ما مضى.
فصل: [في حكم العام الوارد على سبب خاص]
إذا ورد لفظ العموم على سبب خاص: لم يسقط عمومه1، كقوله
1 وهو رأي جمهور العلماء، حتى اشتهر بين العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بد من تحرير محل النزاع في المسألة فنقول: العام الوارد على سبب خاص له صورتان.
الصورة الأولى: أن تكون إجابة السائل غير مستقلة بنفسها، بحيث لا تفيد شيئًا إلا إذا اقترنت بالسؤال، وهذه تابعة للسؤال عمومًا بلا خلاف، وفي الخصوص- أيضًا- على أرجح الأقول.
مثال العموم: ما لو سئل صلى الله عليه وسلم عمن جامع امرأته في نهار رمضان، فقال:"يعتق رقبة" فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان.
ومثال الخصوص: ما لو قال: وطئت في نهار رمضان عامدًا، فيقول:"عليك الكفارة" فيجب قصر الحكم على السائل ما لم يدل دليل على العموم.
الصورة الثانية: أن يكون الجواب مستقلًّا بنفسه بحيث لو جاء منفردًا لأفاد معنى.
وتحت هذه الصورة ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الجواب مساويًا للسؤال عمومًا وخصوصًا، فهذا تابع للسؤال في العموم والخصوص.
الحالة الثانية: أن يكون الجواب أخص من السؤال، كما لو سئل صلى الله عليه وسلم عن أحكام المياه عمومًا، فيقول:"ماء البحر طهور" فإنه يخص ماء البحر فقط.
الحالة الثالثة: أن يكون الجواب أعم من السؤال. وتحته نوعان:
النوع الأول: أن يكون أعم من السؤال في غير الحكم المسئول عنه، كما سئل صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر، فأجاب:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فقد أجاب =
-عليه السلام حين سئل: أنتوضأ بماء البحر في حال الحاجة؟ قال: "هُو الطَّهُورُ مَاؤُه"1.
وقال مالك2، وبعض الشافعية3: يسقط عمومه:
= عن الميتة وهي ليست مسئولًا عنها، فهذا لا خلاف في عمومه.
النوع الثاني: أن يكون أعم من السؤال بالنسبة للحكم المسئول عنه فقط، مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء بئر بضاعة، وهي بئر تلقي فيها الحيض والنجاسات، فأجاب:"الماء طهور لا ينجسه شيء" فهذا النوع هو محل الخلاف.
انظر: الإحكام للآمدي "2/ 318"، العدة "2/ 596 وما بعدها" إرشاد الفحول للشوكاني "1/ 480 وما بعدها".
1 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".
كما أخرجه الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، والنسائي: كتاب الطهارة، باب ماء البحر.... كذلك أخرجه الدارقطني، والدارمي، ومالك في الموطأ، والشافعي، والبيهقي وغيرهم، من طريق أبي هريرة وغيره.
انظر: تلخيص الحبير "1/ 9 وما بعدها" نصب الراية "1/ 96 وما بعدها"
2 الصحيح في النقل عن مالك أنه مع الجمهور، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال صاحب مراقي السعود:
.............................
…
ودع ضمير البعض والأسبابا
قال الشيخ الشنقيطي في نثر الورود على مراقي السعود "1/ 309": "هذه أربع مسائل اختلف في التخصيص بهان والمعتمد عدم التخصيص...." ثم قال: الثانية: سبب النزول لا يخصص العام النازل فيه...."
3 كالمزني، صاحب الإمام الشافعي، والقفال، والدقاق. وقال إمام الحرمين: إنه =
إذ لو لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب بالتخصيص من العموم.
ولما نقله الراوي، لعدم فائدته.
ولما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة.
ولأنه جواب، والجواب يكون مطابقًا للسؤال.
ولنا: أن الحجة في لفظ الشارع، لا في السبب، فيجب اعتباره بنفسه في خصوصه وعمومه1.
ولذلك: لو كان أخص من السؤال: لم يجز تعميمه، لعموم السؤال.
ولو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال:"كل نسائي طوالق" طلقن كلهن، لعموم لفظه، وإن خص السؤال.
ولذلك: يجوز أن يكون الجواب معدولًا عن سَنَن السؤال2، فلو قال قائل:"أيحل أكل الخبز، والصيد، والصوم" فيجوز أن يقول: الأكل مندوب، والصوم واجب، والصيد حرام، فيكون جوابًا، وفيه: وجوب، وندب، وتحريم، والسؤال وقع عن الإباحة.
وكيف ينكر هذا وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب: كنزول آية
= الذي صح عندنا من مذهب الشافعي، وقد رد عليه العلماء وبينوا سبب هذا النقل عن الإمام الشافعي، وصححوا أنه يقول بالعموم. انظر: الإحكام للآمدي "2/ 218" المحصول "جـ1 ق3 ص189" والبحر المحيط للزركشي "3/ 204"، إرشاد الفحول "1/ 484" هامش.
1 أي: اعتبار لفظ الشارع.
2 سنن السؤال: بفتح السين والنون: أي: طريقة السؤال عمومًا وخصوصًا.
الظهار1 في أوس الصامت2، وآية اللعان3 في هلال بن أمية4 ونحو هذا
1 وهي الآيات الأولى من سورة المجادلة.
2 هو الصحابي أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، شهد بدرًا وما بعدها، كان شاعرًا، مات أيام عثمان رضي الله عنه وعمره 85 عامًا، وقيل: توفي سنة "34هـ" وقيل: غير ذلك.
انظر في ترجمته "الإصابة 1/ 85، أسد الغابة 1/ 172".
وقصة مظاهرته من زوجته التي تسمى "خولة" وقيل: اسمها "جميلة" بنت عم له -روتها السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية". أخرجه أحمد في مسنده "6/ 411" وأبو داود "1/ 513"، والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. انظر، نيل الأوطار "6/ 294".
4 هو: هلال بن أمية بن عامر بن قيس الأنصاري الواقفي، أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وتاب الله عليهم، وهم: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهم الذين نزل في حقهم قوله تعالى:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة 118] . انظر ترجمته في "الإصابة 3/ 606، أسد الغابة5/ 406".
وكون آية اللعان نزلت في هلال، هو إحدى الروايتين، وقيل: نزلت في حق عويمر العجلاني. أخرج ذلك البخاري. كتاب التفسير، باب سورة النور، ومسلم في أول كتاب اللعان، وأبو داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، وابن ماجه: كتاب الطلاق باب اللعان. كما أخرجها النسائي والترمذي وغيرهما. انظر: أسباب النزول للواحدي ص328 وما بعدها.
ولا يلزم من وجوب التعميم: جواز تخصيص السبب، فإنه لا خلاف في أنه بيان الواقعة، وإنما الخلاف: هل هو بيان لها خاصة، أم لها ولغيرها؟
فاللفظ يتناولها يقينًا، ويتناول غيرها ظنًّا، إذ لا يسأل عن شيء فيعدل عن بيانه إلى بيان غيره، إلا أن يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال، كما قال لعمر، لما سأله عن القبلة للصائم:"أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ " 1
ولهذا كان نقل الراوي للسبب مفيدًا، ليبين به تناول اللفظ له يقينًا، فيمتنع تخصيصه.
وفيه فوائد أخر، من معرفة أسباب النزول، والسير، والتوسع في الشريعة.
وقولهم: لم أخر بيان الحكم؟
قلنا: الله أعلم بفائدته في أي وقت يحصل {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل} 2 ثم لعله أخره إلى وقت الواقعة، لوجوب البيان في تلك الحال، أو اللطف، ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد، لا تحصل بالتقديم ولا بالتأخير.
ثم يلزم لهذه العلة: اختصاص الرجم بماعز، وغيره من الأحكام
1 أخرجه أحمد في المسند "1/ 52"، وأبو داود: كتاب الصوم. باب القبلة للصائم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارمي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا فقبلت وأنا صائم، فقال:"أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته وأنت صائم؟ " قلت: لا بأس، فقال:"ففيم"
2 سورة الأنبياء من الآية "23".
وقولهم: تجب المطابقة.
قلنا: يجب أن يكون متناولًا له.
أما أن يكون مطابقًا له، فكلا.
بل لا يمتنع أن يسأل عن شيء، فيجب عنه وعن غيره، كما سئل عن الوضوء بماء البحر، فبين لهم حل ميتته1.
1 وقد تقدم الكلام على الحديث الوارد في ذلك
وخلاصة ما تقدم: أن المصنف أورد للجمهور دليلين على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
الدليل الأول: أن الحجة إنما هي في لفظ الشارع لا في خصوص السبب، ولذلك يقول الإمام الشافعي: ولا يصنع السبب شيئًا، إنما يصنعه الألفاظ.
الدليل الثاني: أن أكثر أحكام الشرع واردة على أسباب خاصة، فلو جعلت خاصة بمن نزلت فيه للزم على ذلك تعطيل هذه الأحكام بالنسبة لغيرهم، وهذا غير صحيح.
ثم رد على أدلة المخالفين على النحو التالي:
قالوا: إنه لو لم يكن للسبب تأثير، لجاز إخراج السبب بالتخصيص.
فرد عليهم المصنف بما خلاصته: أنه لا خلاف في أن الكلام بيان للواقعة، والخلاف إنما هو في شموله لغير صاحب السبب، فدلالة العام على السبب تعتبر دلالة نصية، ومقطوع بها، فلا يجوز إخراجه بالتخصيص، كما في إجابته صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم.
قالوا: لو لم يكن قاصرًا على السبب لما كان لذكره فائدة.
فأجاب: بأنه لا وجه لجعل الفائدة: هي قصر العام على سببه، بل له فوائد كثيرة منها:
1-
معرفة تاريخ تشريع الحكم، وفي ذلك فائدة تتعلق بمعرفة الناسخ والمنسوخ.
2-
توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب المصنفين، كالمصنفين في أسباب النزول، وسعة المجال أمام المجتهدين.
3 التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم من أحداث، فمن زنت زوجته وأراد =
.................................
= ملاعنتها، فإنه لا يجد غضاضة في ذلك، فيقول: قد لاعن من هو خير مني.... قالوا: لو لم يكن خاصًّا به فلم أخره إلى وقوع الحادثة؟
فأجاب عن ذلك: بأن تأخير بيان الحكم إلى وقوع السبب من متعلقات العلم الأزلي، ولا علة له، فهو سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} لأن ذلك يجرنا إلى نقض الأحكام المبتدأة، فيقال: لم فرضت الصلاة سنة كذا، دون ما قبلها وما بعدها؟ ومثل ذلك يقال في الصوم والحج وهكذا.
ثم لعل في التأخير لطف ومصلحة للعباد، تدعو إلى الانقياد والطاعة، ولا يحصل ذلك بالتقديم أو التأخير.
ثم أجاب عن قولهم: إن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، بأن هذا ليس بلازم، بل اللازم أن يكون الجواب متناولًا لمحل السؤال، لكن لا يمنع أن يزيد عليه، كما سئل صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فأجاب عنه، وعن حل الميتة ولم تكن واردة في السؤال، حيث قال، صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
وبذلك تتهاوى شبه المخالفين، ويثبت: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقد لخص الإمام الطوفي في الحجة على أن العبرة بعموم اللفظ في وجهين.
أحدهما: أن الحجة في لفظ الشارع لا في سببه، وإذا كان الأمر كذلك، وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا، كما لو ورد ابتداء على غير سبب، فلو سألت امرأة زوجها الطلاق، فقال:"كل نسائي طوالق" عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله جميع نسائه الطلاق، فقال:"فلانة طالق" اختص الطلاق بها، وإن عم السبب.
الوجه الثاني: أن أكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب خاصة، كورود حكم الظهار في أوس بن الصامت، وحكم اللعان في شأن هلال بن أمية، فلو كان السبب الخاص يقتضي اختصاص العام به، لما عمت هذه الأحكام، لكنه باطل بالإجماع". انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 503-504".