الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في التقليد
التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به.
ويسمى ذلك قلادة، والجمع قلائد1.
قال الله تعالى: {
…
وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 2.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل: "لا تقلِّدوها الأوتار"3.
قال الشاعر4:
قلدوها تمائمًا
…
خوف واش وحاسد
1 انظر: معجم مقاييس اللغة "5/ 19"، القاموس المحيط "1/ 329".
2 سورة المائدة، من الآية:"2".
3 هذا الحديث روي بطرق مختلفة، منها: ما رواه الإمام أحمد في المسند "3/ 352" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، وامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة، وقلِّدوها، ولا تقلِّدوها الأوتار".
وأخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في مشكل الآثار حديث رقم "323" والطبراني في الأوسط، وأبو داود حديث "2553"، والنسائي "6/ 218" كما أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود بروايات أخرى. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي "5/ 259"، شرح السنة للبغوي حديث رقم "2639".
والأوتار: جمع وتر، وهو القوس. وقد اختلف العلماء في المراد من الحديث:
فقيل: إنهم كانوا يقلدون الخيل والإبل أوتار القسي حتى لا تصاب بالعين، فأمروا بقطعها للإعلام بأنها لا ترد من قدر الله شيئًا. وقيل: إنما نهوا عن ذلك لئلا تختنق الدابة عند شدة الركض. انظر: شرح السنة "5/ 529".
4 لم أقفْ على القائل.
ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة، كأنه ربط الأمر بعنقه. كما قال لقيط الإيادي1:
وقلِّدا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا.
وهو في عرف الفقهاء.
قبول قول الغير من غير حجة، أخذًا من هذا المعنى2، فلا يسمى الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه.
قال أبو الخطاب: العلوم على ضربين:
منها ما لا يسوغ التقليد فيه وهو: معرفة الله ووحدانيته، وصحة
1 هو: لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، شاعر جاهلي من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية، اتصل بكسرى فكان من كتابه والمطلعين على أسرار دولته. توفي نحو 250 قبل الهجرة. انظر: الأغاني "2/ 23"، الأعلام "6/ 109". والبيت من قصيدة له مطلعها:
سلام في الصحيفة من لقيط
إلى من بالجزيرة من إياد
ومعنى "رحب الذراع" كناية عن القوى المقتدر على الأمور. ومعنى "مضطلعًا" الاضطلاع من الضلاعة، وهي: قوة احتمال الأثقال من الاضطلاع. انظر: ديوان لقيط الإيادي ص47 تحقيق الدكتور عبد المعين خان ط مؤسسة الرسالة.
2 أي: المعنى اللغوي، فكأن المقلد يطوّق المجتهد، ويجعل ما يأخذه عن طوقًا في عنقه، أخذًا من قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه ِ....} [الإسراء: من الآية: 13] .
ويشير إلى ذلك- أيضًا – ما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: "من أفتى بفتيا غير ثبت" أي غير صواب" فإنما إثمه على من أفتاه" انظر: شرح الطوفي "3/ 652"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 450".
الرسالة1. ونحو ذلك؛ لأن المقلد في ذلك إما أن يجوز الخطأ على من يقلده، أو يحيله.
فإن أجازه فهو شاكٌّ في صحة مذهبه.
وإن أحاله: فبِمَ عرف استحالته، ولا دليل عليها؟
وإن قلده في أن أقواله حق، فبِمَ عرف صدقه؟
وإن قلد2 غيره في تصديقه، فبِمَ عرف صدق الآخر؟
وإن عوّل على سكون النفس في صدقه، فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى واليهود المقلدين؟
وما الفرق بين قول مقلده أنه صادق، وبين قول مخالفه؟
وأما التقليد في الفروع:
فهو جائز إجماعًا3.
فكانت الحجة فيه: الإجماع.
ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب، وإما مخطئ مثاب غير مأثوم، بخلاف ما ذكرناه.
1 إلى هنا انتهى كلام أبي الخطاب في التمهيد "4/ 396" وجاء بعدها: "وبه قال عامّة العلماء. وقال بعض الشافعية: يجوز للعامّي التقليد في ذلك".
2 في الأصل "قلده" والمثبت من ط الدكتور النملة.
3 كيف يدّعي الإجماع والقضية خلافية، وقد نقل المصنف نفسه بعد ذلك خلاف القدرية في المسألة؟!.
قال القرافي: "مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد، وإبطال التقليد، وادّعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد". انظر: شرح تنقيح الفصول ص442، 443، وهو الذي رجحه الشوكاني في كتابيه:"إرشاد الفحول". و"القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد".
فلهذا جاز التقليد فيها، بل وجب على العامّي ذلك.
وذهب بعض القدرية إلى أن العامّة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضًا.
وهو باطل بإجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يفتون العامّة، ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامّهم.
ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامّي الأحكام، وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطيل الحرف والصنائع، فيؤدي إلى خراب الدنيا.
ثم ماذا يصنع العامّي إذا نزلت به حادثة إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد، فإلى متى يصير مجتهدًا؟
ولعله لا يبلغ ذلك أبدًا، فتضيع الأحكام.
فلم يبقَ إلا سؤال العلماء، وقد أمر الله – تعالى – بسؤال العلماء في قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.
1 سورة النحل، من الآية:"43" والأنبياء، من الآية:"7" قال الشوكاني- ردًّا على الاستدلال بهذه الآية: ".... وليس بالمراد بما احتج به الموجبون للتقليد، والمجوزون له من قوله سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} إلا السؤال عن حكم الله في المسألة، لا عن آراء الرجال، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال-كما زعموا- وليس الأمر كذلك، بل هي واردة في أمر خاصٍّ، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالًا، كما يفيده أول الآية وآخرها، حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ
…
} .
راجع: إرشاد الفحول جـ2 ص353 ومناقشتنا لما قاله الشوكاني في ذلك.