الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [طرق الاجتهاد في إثبات العلة]
والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب:
تحقيق المناط للحكم، وتنقيحه، وتخريجه.
أما تحقيق المناط1، فنوعان:
أولهما: لا نعرف في جوازه خلافًا.
ومعناه: أن تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع.
ومثاله: قولنا: "في حمار الوحش: بقرةٌ" لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 2 فنقول: "المثل واجب، والبقرة مثل، فتكون هي الواجب".
فالأول: معلوم بالنص والإجماع، وهو: وجوب المثلية في البقرة3.
أما تحقيق المثلية في البقر، فمعلوم بنوع من الاجتهاد4.
1 والمراد بالمناط: ما نيط به الحكم، أي: علق به، وهو العلة التي رتب عليها الحكم في الأصل، يقال: نطُت الحبل بالوتد، أنوطه نوطًا: إذا علقته، ومنه ذات أنواط، وهي شجرة كانوا في الجاهلية يعلقون فيها سلاحهم.
روى الإمام أحمد في مسنده "5/ 218" عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده لتركبنّ سنّة من كان قبلكم".
2 سورة المائدة من الآية "95".
3 أي: أن وجوب المثل متفق عليه ثابت بالنص والإجماع.
4 أي: أن كون البقرة مثل حمار الوحش، اجتهادي، ثابت بالاجتهاد في تحقيق =
ومنه الاجتهاد في القبلة فنقول: وجوب التوجه إلى القبلة معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة1: فيعلم بالاجتهاد.
وكذلك تعيين الإمام2، والعدل، ومقدار الكفاية في النفقات ونحوه4.
فليعبر عن هذا بتحقيق المناط، إذ كان معلومًا، لكن تعذر معرفة وجوده في آحاد الصور، فاستدل عليه بأمارات5
الثاني: ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، فيبين المتجهد وجودها في الفرع باجتهاده.
مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الهر: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجسٍ؛ إِنَّهَا مِنَ
= النص؛ لأن الله -تعالى- لم ينص على أن البقرة مثل حمار الوحش. في كفارة قتل المحرم للصيد متعمدًا.
1 في حق من اشتبهت عليه، فليس هناك نص في ذلك، وعليه أن يجتهد فيها
2 يعني: أن نصب الإمام والوالي والقاضي واجب، لكن تعيين فلان أو فلان من الناس لهذه المناصب موكول إلى اجتهاد أهل الحل والعقد في ذلك.
3 أي: أن حكم القاضي بالصدق واجب، وهو أمر معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن، وأمارات العدالة لا تعلم إلا بالظن.
4 أي: أن قدر الكفاية في نفقة الزوجات والأقارب ونحوهم واجب متفق عليه، أما كون قدر الكفاية بالوزن أو الكيل كذا، فيدرك بالاجتهاد والظن.
5 أي: أن مناط الحكم معلوم بنص أو إجماع، فلا حاجة على استنباطه أو الاجتهاد فيه لكن تعذر معرفة وجوده في الصور التي يراد إثبات الحكم فيها، فاستدل عليه بأمارات ظنية، تسمى تحقيق المناط. انظر: المستصفى "3/ 486 وما بعدها"، شرح مختصر الروضة "3/ 234-235".
الضرب الثاني: تنقيح1 المناط:
وهو: أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه، فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار، ليتسع الحكم.
ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: هلكتُ يا رسول الله. قال: "مَا صَنَعتَ؟ " قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان. قال: "أَعْتِقْ رَقَبةً"2.
فنقول: كونه أعرابيًّا: لا أثر له3 فيلحق به "التركي" و"العجمي"، لعلمنا أن مناط الحكم: وقاع مكلف، لا وقاع الأعرابي، إذ التكاليف تعم الأشخاص، على ما مضى4.
ويلحق به: من أفطر بوقاع في رمضان آخر؛ لعلمنا أن المناط: حرمة رمضان، لا حرمة ذلك الرمضان5.
1 التنقيح في اللغة: التخليص والتهذيب، يقال: نَقَّحْتُ العظم: إذا استخرجت مخه، ونقّحت الشيء: خلصت جيده من رديئه. انظر: المصباح المنير مادة "نقح".
وأما في الاصطلاح: فهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة. انظر: شرح الطوفي "3/ 237".
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان لم يكن له شيء، عن أبي هريرة مرفوعًا، ومسلم: كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم.
كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي وغيرهم. انظر: تلخيص الحبير "2/ 206".
3 فلا يخيل للسامع أن علة الكفارة هي مجموع كونه أعرابيًّا جامع في نهار رمضان.
4 في باب العموم.
5 الذي وقع فيه الجماع في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم.
وكون الموطوءة منكوحة: لا أثر له، فإن الزنا أشد في هتك الحرمة.
فهذه إلحاقات معلومة تبنى على مناط الحكم، بحذف ما علم بعادة الشرع في مصادره وموارده وأحكامه: أنه لا مدخل له في التأثير.
وقد يكون بعض الأوصاف مظنونًا، فيقع الخلاف فيه كالوقاع، إذ يمكن أن يقال: مناط الكفارة: كونه مفسدًا للصوم المحترم، والجماع آلة الإفساد، كما أن السيف آلة للقتل الموجب للقصاص، وليس هو من المناط، كذا ههنا1.
ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان الشهوة بمجرد وازع الدين، فيحتاج إلى كفارة وازعة، بخلاف الأكل.
والمقصود: أن هذا نظر في تنقيح المناط بعد معرفته بالنص، لا بالاستنباط، وقد أقر به أكثر منكري القياس.
1 يعني: أنه قد تكون علة الحكم ظنية، فتختلف فيها الأنظار، مثل: هل العلة في الكفارة خصوص الجماع في نهار رمضان، أو عموم إفساد الصوم، كالأكل والشرب؟ خلاف بين العلماء:
فأبو حنيفة ومالك يرون أن الأكل والشرب كالجماع في وجوب الكفارة، بل هما أولى من الجماع؛ لأنهما مادة الجماع وسببه المقوي عليه، ووسيلته المتوصل بها إليه، إذ الجائع لا يستطيعه، والشبعان ينشط له، فكان إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من باب: سد الذرائع، وحسم مواد الفساد.
والشافعي وأحمد يقولان: لا كفارة إلا بخصوص الجماع، لأن النفس لا تنزجر عنه عند هيجان الشهوة بمجرد الوازع الديني، فاحتيج فيه إلى زيادة في الوازع وهي الكفارة. انظر: شرح الطوفي "3/ 240".
وأجراه أبو حنيفة في الكفارات، مع أنه لا قياس فيها عنده1.
الضرب الثالث، تخريج المناط2:
وهو: أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه أصلًا. كتحريمه شرب الخمر، والربا في البر.
فيستنبط المناط بالرأي والنظر، فيقول: حرّم الخمر، لكونه مسكرًا، فيقيس عليه النبيذ، وحرّم الربا في البر، لكونه مكيلًا، فيقيس عليه الأرز.
وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه.
فصل
في إثبات القياس على منكريه
قال بعض أصحابنا: يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا، لقول أحمد،
1 يعني: مع أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون القياس في الكفارات، إلا أنهم خالفوا أصلهم في هذه المسالة، وأجروا القياس فيها.
2 التخريج في اللغة: الاستخراج والاستنباط.
أما في الاصطلاح: فهو عبارة عن إضافة حكم -لم يتعرض الشرع لعلته- إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم، كالأمثلة التي ذكرها المصنف.
قال الشيخ الطوفي، موضحًا ذلك:"وتحرير الكلام ههنا: أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم، ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد في استخراج ذلك من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له، واجتهد ولم يجد غيره، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم". شرح المختصر "3/ 243".
رحمه الله: "لا يستغني أحد عن القياس"1.
وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين.
وذهب أهل الظاهر والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلًا ولا شرعًا2. وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس"3.
وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصًّا.
وقالت طائفة: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب، لكنه في مظنة الجواز، فأما التعبد به شرعًا: فواجب.
وهو قول بعض الشافعية وطائفة من المتكلمين4.
1 ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1280" وأبو الخطاب في التمهيد "3/ 365".
2 انظر الإحكام لابن حزم "7/ 93".
3 أورد ذلك القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1281" وتأوله على القياس المخالف للنص فقال: "وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز".
4 قال الطوفي، موضحًا آراء العلماء في حجية القياس:"النزاع في التعبد بالقياس إما عقلًا، أو شرعًا، وعلى كل واحد من التقريرين: فإما أن يكون النزاع في جوازه، أو وجوبه، أو امتناعه، أو وقوعه، فهي ثمانية أقوال، قد ذهب إلى أكثرها ذاهبون، فممن أوجب ورود التعبد به عقلًا: القفال، وأبو الحسين البصري. وممن أحاله من سبق ذكره "يقصد: الظاهرية والنظام" وأجازه الأكثرون عقلًا وشرعًا، ثم اختلفوا في وقوعه، فأثبته الأكثرون، ومنعه داود بن علي الأصبهاني والقاشاني والنهرواني.
واختلف المثبتون لوقوعه، هل هو بدليل العقل أو السمع؟ وهل دليل السمع =
وجه قول أصحابنا1:
[الدليل الأول] أن تعميم الحكم واجب، ولو لم يستعمل القياس: أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام، لقلة النصوص، وكون الصور2 لا نهاية لها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة3.
فإن قيل: يمكن التنصيص على المقدمات الكلية ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فيكون من تحقيق المناط، وليس ذلك بقياس، وذلك مثل: أن ينص على: "أن كل مطعوم ربوي" وهذه المقدمة الكلية، فيبقى الاجتهاد في:"أن هذا مطعوم أم لا"؟
وهذا لا خلاف في جوازه.
قلنا: إن تصوّر هذا فليس بواقع، فإن أكثر الحودث ليس بمنصوص على مقدماتها الكية، كميراث الجد وأشباهه، فيقتضي العقل: أن لا يخلو عن حكم4.
= قطعي؟ وهو مذهب الأكثرين، أو ظني؟ وهو قول أبي الحسين البصري والآمدي. شرح المختصر "3/ 246".
1 وهم الذين صدر بهم المسألة فقال: "قال بعض أصحابنا يجوز التعبد بالقياس عقلًا وشرعًا
…
"
2 أي: الوقائع والحوادث التي تقع للناس من حين لآخر.
3 معناه: أننا لو لم نعمل بالقياس عند عدم وجود نص من القرآن أو السنة، لخلت حوادث كثيرة عن أحكام؛ لكثرة الحوادث والوقائع وقلة النصوص الشرعية، فلا يوجد في كل حادثة نص يخصها، فاحتيج إلى إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
4 يعني: أن المنكرين للقياس قالوا: يمكن الاستغناء عن القياس بالتنصيص على المقدمات الكلية، ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية، فتستخرج منه =
دليل ثان:
أن العقل يدل على العلل الشرعية ويدركها، إذ مناسبة الحكم عقلية مصلحية، يقتضي العقل تحصيلها وورود الشرع بها، كالعلل العقلية1.
ولأننا نستفيد بالقياس ظنًّا غالبًا في إثبات الحكم، والعمل بالظن الراجح متعين2.
وشبهة المانعين منه عقلًا: ما مضى في رد خبر الواحد3. وقد مضى
= الأحكام، كما سبق في النوع الأول من تحقيق المناط، وهذا لا يسمى قياسًا بالاتفاق، كما سبق.
وأجاب المصنف على ذلك: بأن مجرد جواز النص على القواعد الكلية لا يكفي في إثباته، وأكثر الحوادث لم ينص على مقدماتها، كميراث الجد وما يشبهه، فاقتضى ذلك استعمال القياس.
1 هذا دليل عقلي ثان على جواز القياس خلاصته: أن العقل كما دل على العلل في الأمور العقلية، فإنه يدل، أيضًا على العلل في الأمور الشرعية؛ لأن مناسبتها للأحكام عقلية مصلحية، فمن المعلوم أن الأحكام الشرعية تقوم على رعاية مصالح العباد: من جلب المنافع ودرء المفاسد، والعقل يدرك طلب تحصيلها وورود الشرع بها.
2 هذا دليل آخر على حجية القياس، ولكنه يشير إلى اعتراض وارد من المخالفين خلاصته: أن القياس يثبت حكمًا ظنيًّا، وهذا يجوز في الفروع، أما الأصول: فلا بد فيها من القطع، فأجاب المصنف بهذا الدليل: أن المقصود من كون القياس حجة: إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاد كونه حجة، والأحكام الفرعية يكفي فيها الظن، فكذلك ما كان وسيلة لها، خاصة إذا كان الظن راجحًا.
3 يشير إلى ما ورد في التعبد بخبر الواحد، حيث قال: "وأنكر قوم التعبد بخبر الواحد عقلًا؛ لأنه يحتمل أن يكون كذبًا، فالعمل به عمل بالشك، وإقدام على =
فأما التعبد به شرعًا: فالدليل عليه:
إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية عن النص.
فمن ذلك
حكمهم بإمامة أبي بكر رضي الله عنها بالاجتهاد مع عدم النص، إذ لو كان ثم نص لنقل، ولتمسك به المنصوص عليه1.
وقياسهم العهد على العقد، إذ عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما ولم يرد فيه نص، لكن قياسًا لتعيين الإمام على تعيين الأمة2.
= الجهل، فتقبح الحوالة على الجهل، بل إذا أمرنا الشارع بأمر فليعرفناه، لنكون على بصيرة: إما ممتثلون، وإما مخالفون" وقد رد المصنف على ذلك فقال:"والجواب عن هذا: إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه؛ لأنه تعبد بالحكم بالشهادة، والعمل بالفتوى، والتوجه إلى الكعبة بالاجتهاد عند الاشتباه، وإنما يفيد الظن كما يفيد العمل بالمتواتر.... وإن صدر من منكر للشرع فيقال له: أي: استحالة في أن يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، والظن مدرك بالحس فيكون معلومًا، فيقال له: إذا ظننت صدق الشاهد والرسول والحالف فاحكم به، ولست متعبدًا بمعرفة صدقه، بل بالعمل به عند ظن صدقه".
1 جاء في طبقات ابن سعد "3/ 183": "عن وكيع بن الجراح عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فقدمنا أبا بكر" وقد ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء" ص64، كما ذكره ابن قيم الجوزيه في "إعلام الموقعين""1/ 230".
2 أي: أن الأصل في اختيار الإمام أن يكون بالبيعة، كما حدث لأبي بكر رضي الله عنه إلا أن أبا بكر رضي الله عنه عهد إلى عمر رضي الله عنه بالخلافة، قياسًا للعهد من الإمام على تعيين الأمة بعقد البيعة، وعهد أبي بكر إلى عمر =
ومن ذلك: موافقتهم أبا بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة بالاجتهاد1.
وكتابة المصحف بعد طول التوقف فيه2.
= رضي الله عنهما ثابت في التاريخ الصحيح، أورده ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 44"، وابن سعد في طبقاته "3/ 274".
1 معناه: أن أبا بكر رضي الله عنه قاس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها، بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام، وقال في ذلك:"لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ووافقه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، فكان إجماعًا على صحة القياس. انظر: شرح الطوفي "3/ 264".
3 روى أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في سننه في أبواب التفسير، والبيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة "4/ 513-515" والإمام أحمد في مسنده "1/ 13" وغيرهم عن زيد بن ثابت قال:"أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وكان عنده عمر، فقال: إن هذا أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ بالقراء، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في سائر المواطن، فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدره، ورأيت فيه الذي رأى، فقال أبو بكر: إنك شاب -أو رجل- عاقل، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتهمك فاكتبه، قال: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي منه، فقلت لهما: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر وعمر: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر وعمر يراجعاني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرهما، ورأيت فيه الذي رأيا، فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف والعسب "جريد النخل" واللخاف "الحجارة الرقاق"، وصدور الرجال، حتى فقدت آية كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
…
} =
وجمع عثمان له على ترتيب واحد1.
= [التوبة: 128-129] فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت فأثبتها في سورتها".
انظر: كتاب المصاحف للسجستاني تحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ "1/ 165 وما بعدها" فقد استوفى الروايات الواردة في ذلك بأسانيدها.
1 عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان "الفرج: الثغر" مع أهل العراق، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، أن انسخوا الصحف في المصحاف، وقال للرهط القرشيين الثلاثة، ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا، وأمر بسوى ذلك من صحيفة أو مصحف أن يحرق" رواه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، والترمذي: في أبواب التفسير، والبغوي في شرح السنة "4/ 519"- 521" وقال:"هذا حديث صحيح" كما أورده أبو شامة عن البخاري في المرشد الوجيز "49-51" والسجستاني في كتاب المصاحف "1/ 204 وما بعدها"
وقول المصنف: "على ترتيب واحد" أي: على النسخة التي كانت عند السيدة حصفة رضي الله عنها وهي التي جمعت في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وهو الترتيب الذي عليه المصاحف الآن، أما المصاحف الأخرى التي كانت عند بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعًا- فكانت مختلفة الترتيب، وبعضها كان على حسب نزول السور، ولذلك أمر عثمان رضي الله عنه بحرق ما عدا المصحف الذي اعتبر مصحف الجماعة. انظر: البرهان للزركشي "1/ 240"، فصائل القرآن لابن كثير، ملحق بتفسيره "7/ 446".
واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة "الجد والإخوة" على وجوه مختلفة، مع قطعهم أنه لا نص فيها1.
وقولهم في المشرّكة2.
1 مسألة ميراث الإخوة مع الجد، وقع فيها خلاف طويل بين الصحابة رضي الله عنهم فالبعض أنزله منزلة الأب، فلا يرث الإخوة معه شيئًا، ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث، ومنهم من قال: إلى السدس، ومنهم من قال: إلى نصف السدس، فأقر بعضهم بعضًا على ما ذهب إليه، ولم ينكر بعضهم على بعض، فكان ذلك اتفاقًا منهم على الاجتهاد في المسألة.
قال أبو يعلى في العدة "4/ 1307-1308": "فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون خفي عليهم.
أو علموه وتركوه.
أو علم به بعضهم دون بعض.
فبطل أن يكون هناك نص خفي عليهم، لأنه يفضي أن يجمعوا على خطإ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم.
وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد.
وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذي علمه، ورواه وذكره
فلما لم يكن شيء من هذا، ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم.
ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجد على غيره، واعتبره علي بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار.
واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن والإخوة بالأفنان، "جمع فنن: الغصن" ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقر بعضهم بعضًا على ذلك". وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد.
2 وهي المسألة المشهورة في الفرائض، وهي: أن يوجد في المسألة زوج وأم، وإخوة لأم، اثنان أو أكثر، وإخوة أشقاء.
ومن ذلك: قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. الكلالة: ما عدا الوالد والولد"1.
ونحوه عن ابن مسعود في قضية بَرْوع بنت واشق2.
= فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، ولا شيء للإخوة الأشقاء؛ لأنهم عصبة، وأصحاب الفروض قد استوفوا التركة.
وهذا ما كان يفتي به عمر رضي الله عنه فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارًا أليست أمّنا واحدة؟ فشرّك بينهم، ولذلك سميت بالمشركة، وعدل عمر رضي الله عنه عن رأيه وعمل على التشريك بينهم، فيما بعد.
أخرج الدارقطني في سننه: كتاب الفرائض، عن مسعود بن الحكم الثقفي قال:"أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة تركت زوجها وأمها وإخوتها لأم وإخوتها لأبيها وأمها، فشرّك بين الإخوة للأم وبين الإخوة للأم والأب بالثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهما في عام كذا وكذا. قال: فتلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم".
1 أخرجه البيهقي في سننه: كتاب الفرائض، باب حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم "......عن الشعبي قال: سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ مني ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر رضي الله عنه قال: إني لأستحيي الله أن أرد شيئًا قاله أبو بكر".
كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والدارمي: كتاب الفرائض، باب الكلالة، والخطيب في كتابه:"الفقيه والمتفقه" باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد.
2 روى أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات: "أن عبد الله بن مسعود أُتي في رجل بهذا الخبر، يعني: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق، فاختلفوا إليه =
ومنه: حكم الصديق رضي الله عنه في التسوية بين الناس في العطاء، كقوله:"إنما أسلموا لله وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ"، ولما انتهت النوبة إلى عمر رضي الله عنه فصل1 بينهم وقال:"لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا"2.
ومنه: عهد عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى: "اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور برأيك3.
= شهرًا، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العدة، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجراح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بَرْوع بنت واشق، وأن زوجها هلال بن مرة الأشجعي كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم". كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب النكاح، باب الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت، وأحمد في المسند "4/ 279".
1 في المستصفى "فرق" وفي كتب الحديث "فاضل".
2 أخرج نحوه البيهقي في السنن الكبرى "6/ 348"- كتاب قسم الفيء، باب التسوية بين الناس في القسمة، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 21"، "3/ 475" وجاء في بعض الروايات:"وذكر عن عثمان، رضي الله عنه، أنه فضل بينهم في القسمة".
3 كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، كتاب جليل القدر، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه، كما قال ابن القيم.
أخرجه الدارقطني: كتاب الأقضية والأحكام، والبيهقي: كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي.
وهو كتاب طويل جاء فيه: "
…
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة =
وقال علي، رضي الله عنه:"اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، وأنا الآن أرى بيعهن"1.
وقال عثمان لعمر: "إن نتبع رأيك فرأي رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان"2.
ومنه: قولهم، في السكران:"إذا سكر هذي، وإذا هذي أفترى، فحدوه حد المفتري"3.
= متبعة.....الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحق فيما ترى
…
".
1 رواه عبد الرزاق في المصنف "7/ 291" والبيهقي في السنن الكبرى "10/ 348" عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليًّا يقول: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، ثم رأيت بعدُ أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفرقة. قال: فضحك علي" قال ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 219": "إسناده من أصح الأسانيد".
2 روى عبد الرزاق في مصنفه "10/ 263" والحاكم "4/ 340" والبيهقي في سننه الكبرى "6/ 246" والدارمي في سننه: كتاب الفرائض "2/ 354" عن مروان بن الحكم: أن عمر بن الخطاب -لما طُعن- استشارهم في الجد، فقال: إني كنت رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فإنه راشد، وإن نتبع رأي الشيخ فلنعم ذو الرأي كان.
3 هذا الأثر أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الأشربة- باب الحد في الخمر- عن ثور بن زيد الدِّيلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب:"نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى -أو كما قال- فجلد عمر في الخمر ثمانين".
كما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي والحاكم وغيرهم. قال الحافظ في تلخيص الحبير "4/ 75": "وهو منقطع، لأن ثورًا لم يلحق عمر، بلا خلاف" =
وهذا التفات منهم إلى أن مظنة الشيء تنزل منزلته.
وقال معاذ للنبي، صلى الله عليه وسلم:"أجتهد رأيي"1 فصوبه
فهذا وأمثاله -مما لا يدخل تحت الحصر- مشهور، إن لم تتواتر آحاده: حصل بمجموعة العلم الضروري: أنهم كانوا يقولون بالرأي، وما من وقت إلا وقد قيل فيه بالرأي2.
ومن لم يقل، فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، وما أنكر على القائل به، فكان إجماعًا.
[الاعتراضات الواردة على إجماع الصحابة]
فإن قيل: فقد نقل عنهم ذم الرأي وأهله:
فقال عمر، رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء
= لكن الحاكم أخرجه في مستدركه في كتاب الحدود وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
1 تقدم تخريجه.
2 معناه: أن هذه الوقائع المختلفة، وغيرها كثيرة، وهي وإن كانت أخبار آحاد لم تبلغ حد التواتر اللفظي، إلا أن مجموعها يعتبر تواترًا معنويًّا، كسخاء حاتم الطائي وشجاعة علي، رضي الله عنه.
ومن لم يقل منهم بالرأي، فإن سبب ذلك: أن غيره أغناه عنه، فلم يعد في حاجة إليه.
قال الغزالي في المستصفى "3/ 520": "فهذا وأمثاله، مما لا يدخل تحت الحصر، مشهور".
وما من مفتٍ إلا وقد قال بالرأي، ومن لم يقل؛ فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد، ولم يعترض عليهم في الرأي.
فانعقد إجماع قاطع على جواز القول بالرأي والظن".
السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا"1.
وقال علي، رضي الله عنه:"لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"2.
وقال ابن مسعود، رضي الله عنه:"قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالًا فيقيسون ما لم يكن بما كان"3.
وقولهم: "إن حكمتم بالرأي أحللتم كثيرًا مما حرم الله، وحرمتم كثيرًا مما أحله"4.
وقول ابن عباس: "إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه، وقال لنبيه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 5 ولم يقل: بما رأيت"6.
1 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" باب: ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس، والخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه""1/ 180-181"، وابن حزم في الإحكام ص779.
2 أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ وابن حزم في الإحكام "1/ 380، وابن حجر في "التلخيص الحبير" "1/ 160" وقال: "إسناده صحيح".
3 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله""2/ 165" والدارمي في سننه "1/ 65".
4 هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه "الفقيه والمتفقه""1/ 182" عن ابن مسعود، رضي الله عنه.
وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله""2/ 94" عن الشعبي، ومثله ابن حزم في الإحكام "2/ 1073".
5 سورة النساء من الآية "105".
6 أخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله""2/ 133".
وقوله: "إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس"1.
وقال ابن عمر: "ذروني من أرأيت وأرأيت"2.
[الرد على الاعتراضات المتقدمة]
قلنا: هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي والقياس في غير موضعه، أو بدون شروطه.
فذم عمر رضي الله عنه ينصرف إلى من قال بالرأي من غير معرفة للنص، ألا تراه قال:"أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها" وإنما يحكم بالرأي في حادثة لا نص فيها، فالذم على ترك الترتيب، لا على أصل القول
1 أخرجه ابن حزم في الإحكام "2/ 1073" عن محمد بن سيرين بلفظ: "القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس".
وأخرجه الدارمي في سننه "1/ 65" عن ابن سيرين أيضًا. كما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 254".
2 جاء في مجمع الزوائد "1/ 180" عن الشعبي قال: قال ابن مسعود، رضي الله عنه:"إياكم وأرأيت وأرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت وأرأيت، ولا تقيسوا شيئًا بشيء فتزل قدم بعد ثبوتها، فإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه ثلث العلم" وقد نسبه صاحب مجمع الزوائد إلى الدارقطني ثم قال: "والشعبي لم يسمع ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف". كما نسبه إلى ابن مسعود أيضًا ابن القيم في إعلام الموقعين "1/ 58". وخلاصة هذه الاعتراضات: أن الإجماع الذي نقله المصنف عن الصحابة رضي الله عنهم على حجية القياس، معارض بآثار أخرى تدل على ذم القياس، فلم تسلم لهم الأدلة السابقة.
3 أي: الترتيب الذي جاء في حديث معاذ رضي الله عنه حيث جاء فيه الاجتهاد بعد عدم وجود الحكم في الكتاب والسنة.
بالرأي، ولو قدم إنسان القول بالسنة على ما هو أقوى منها1: كان مذمومًا.
وكذلك قول علي، رضي الله عنه2.
وكل ذم يتوجه إلى أهل الرأي فلتركهم الحكم بالنص هو أولى، كما قال بعض العلماء3:
أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا
…
علم الحديث الذي ينجو به الرجل
لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا
…
عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا
جواب ثانٍ:
أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلًا للاجتهاد والرأي، ويرجع إلى محض الاستحسان، ووضع الشرع بالرأي، بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد4.
والقائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من القياس، كقياس أهل
1 وهو القرآن الكريم.
2 وهو قوله: "لو كان الدين بالرأي: لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه".
3 القائل هو: موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، أبو مزاحم الخاقاني، كان عالمًا بالعربية، شاعرًا، من أهل بغداد، كما كان راوية مأمونًا. ولد سنة 248هـ وتوفي سنة 325هـ. "غاية النهاية 2/ 320، الأعلام 8/ 275". والبيتان أوردهما عنه الخطيب البغدادي "ت463هـ" في كتابه: "شرف أصحاب الحديث" ص79 تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي، نشر دار إحياء السنة النبوية.
4 معناه: أن الذين نقل عنهم ذم الرأي والاجتهاد، هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد -كما سبق- فلا بد من دفع هذا التعارض، وهذا إنما يكون بحمل الذم على الرأي الفاسد الذي لم تكتمل شروطه، أو المخالف للنص، أو الصادر من الجاهل.
الظاهر، إذ قالوا، الأصول لا تثبت قياسًا، فكذلك الفروع.
فإذًا: إن بطل القياس، فليبطل قياسهم1
فإن قيل: فلعلهم عولوا في اجتهادهم على عموم، أو أثر، أو استصحاب حال، أو مفهوم، أو استنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين أو خبرين، أو يكون اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم، لا في استنباطه.
فقد علموا أنه لا بد من إمام، وعرفوا -بالاجتهاد- من يصلح للتقديم، وهكذا في بقية الصور2.
1 أي: ومما يؤيد ما قلناه من دفع التعارض السابق: أن القائلين بحجية القياس مقرون ومعترفون بفساد بعض الأقيسة، مثل: قياس أهل الظاهر، حيث قالوا: لا يجوز القياس في الأصول، فمنعوا القياس في الفروع، قياسًا على الأصول.
فرد الجمهور هذا القياس وقالوا للظاهرية: إنكم أبطلتم القياس من أساسه، فكيف تقيسون الفروع على الأصول، فأنتم بذلك تبطلون القياس بالقياس؟!
2 معنى ذلك: أن الجمهور لما استدلوا على صحة القياس بالإجماعات المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم اعترض عليهم النافون لحجية القياس بعدم التسليم بأن ما ذكروه كان مبنيًّا على القياس، بل يحتمل أنهم عولوا على أشياء أخرى، كصيغ العموم، أو بعض الآثار، أو الاستصحاب، أو دلالة مفهوم، أو استنباط حكم شرعي بناء على مدلول بعض الصيغ من حيث اللغة، أو الاحتكام إلى تحقيق المناط، كما تقدم، حيث تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويأتي الاجتهاد في إلحاق بعض الفروع بها، كعلم الصحابة رضي الله عنهم بوجوب نصب إمام يلي أمور المسلمين، ثم يجتهدون فيمن تتحقق فيه شروط الإمامة، ومع هذه الاحتمالات لا يكون الاستدلال صحيحًا. وقد أجاب المصنف عن ذلك، كما سيأتي.
قلنا:
لم يكن اجتهاد الصحابة مقصورًا على ما ذكروه، بل قد حكموا بأحكام لا تصح إلا بالقياس، كعهد أبي بكر إلى عمر، قياسًا للعهد على العقد بالبيعة، وقياس الزكاة على الصلاة1، وقياس عمر الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة2، وإلحاق السكر بالقذف لأنه مظنته3.
وقد اشتهر اختلافهم في الجد قياسًا: فقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"4، فأنكر ترك قياس الأبوة على البنوة، مع افتراقهما في الأحكام.
وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب، والجد يدلي به أيضًا، فالمدلى به واحد، والإدلاء مختلف5.
1 في الأثر الذي تقدم وفيه: "لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة".
2 تقدمت ترجمته.
3 وهو ما سبق تخريجه عن علي رضي الله عنه قال، في شارب الخمر: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي "أي: تكلم بكلام غير معقول" وإذا هذي افترى "أي: قذف" وعلى المفترى ثمانون جلدة".
4 ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله "2/ 131" بدون إسناد، كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "10/ 266".
5 أي: أن الذين سووا بين الجد والإخوة في أن كلًّا منهما يستحق الميراث قالوا: كل منهما يدلي إلى الميت بواسطة الأب، فالمدلَى به -وهو الأب- واحد، والإدلاء مختلف، فالجد يدلي إلى الميت بجهة الأبوة، والإخوة يدلون بجهة البنوة، فهما مختلفان، فقاسوا الإدلاء بجهة البنوة على الإدلاء بجهة الأبوة، مع أن البنوة تختلف عن الأبوة في بعض الأحكام، فتوريث الصحابة رضي الله عنهم للإخوة مع الجد ثابت بالقياس، وهذا هو المدعى.
وصرحوا بالتشبيه بالغصنين، والخليجين1.
1 خلاصة الكلام في ميراث الجد ومحل الشاهد من إيراده هنا: أن الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة، في حالة عدم وجود الأب، على مذهبين:
المذهب الأول: أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في جميع الجهات، تنزيلًا له منزلة الأب، وهو رأي أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وروي ذلك عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
المذهب الثاني: أن الأخوة يرثون مع الجد -على خلاف بينهم في القدر الذي يرثه- ولا يقوى الجد على حجبهم كما يحجبهم الأب، وهو رأي علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم لأن ميراثهم ثابت بالكتاب، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس، وما وجد شيء من ذلك.
ولأنهم تساووا مع الجد في سبب الاستحقاق، فالإخوة والجد يدليان إلى الميت بواسطة الأب، فالجد أبوه، والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل ربما كانت أقوى، ولذلك مثله علي رضي الله عنه بشجرة أنبتت غصنًا، فانفرق منه غصنان، كل واحد منهم على الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة، ومثّله زيد بواد خرج منه نهر، انفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي.
انظر: سنن البيهقي: كتاب الفرائض، باب: من ورّث الإخوة مع الجد، والمصنف لعبد الرزاق "10/ 95" والمغني لابن قدامة "9/ 65 وما بعدها".
ومحل الشاهد في إيراد هذه القضية: أن الصحابة رضي الله عنهم استعملوا القياس في ميراث الجد، حيث اعترض ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم قياس الجد على ابن الابن، فإن ابن الابن يحل محل الابن في حالة عدم وجوده، فلماذا لا يحل الجد محل الأب، وهذا معنى قوله:"ألا يتقى الله زيد بن ثابت، بجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا".
كما أن الذين سووا بين الجد والإخوة وأنهم لا يحجبون استعملوا القياس أيضًا، كما تقدم في غصني الشجرة، وجدولي الماء.
ومن فتّش عن اختلافهم في الفرائض وغيرها؛ عرف ضرورة سلوكهم التشبيه والمقايسة، وأنهم لم يقتصروا على تحقيق المناط في إثبات الأحكام، بل استعملوا ذلك في بقية طرق الاجتهاد.
[الأدلة النقلية على حجية القياس]
وقد استدل على إثبات القياس بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} 1.
وحقيقة الاعتبار: مقايسة الشيء بغيره كما يقال: "اعتبر الدينار بالصَّنْجة"2. وهذا هو القياس.
فإن قيل: المراد به الاعتبار بحال من عصى أمر الله، وخالف رسله، لينزجر، ولذلك لا يحسن أن يصرح بالقياس ههنا فيقول:
1 سورة الحشر من الآية "2".
قال الطوفي في شرحه "3/ 259-260"- مبينًا وجه الدلالة من هذه الآية: "القياس اعتبار، والاعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به.
أما المقدمة الأولى، وهي: أن القياس اعتبار، فهي لغوية، أي: طريق معرفتها اللغة، وأنه التقدير والاعتبار، وأيضًا: فإن الاعتبار مشتق من العبور، وهو المجاوزة، ومنه المِعْبَر؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر، وعابر المنام؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره، ويعبر منه إليه، فكان القياس اعتبارًا بحكم الاشتقاق.
وأما المقدمة الثانية، وهي: أن الاعتبار مأمور به، فلقوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر بالاعتبار، والأمر للوجوب، فيكون الاعتبار الذي منه القياس واجبًا.
2 هي الميزان. معرّبة. القاموس المحيط فصل الصاد باب الجيم.
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} فألحقوا الفروع بالأصول، لتعرف الأحكام.
قلنا: اللفظ عام، وإنما لم يحسن التصريح بالقياس ههنا، لأنه يخرج عن عمومه المذكور في الآية، إذ ليس حالنا فرعًا لحالهم1.
دليل آخر:
قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "بِمَ تَقْضِي؟ " قال: بكتاب الله. قال: "فإن لمْ تَجدْ؟ " قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَإن لمْ تَجدْ؟ " قال أجتهد رأيي، قال:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم 2".
قالوا: هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو1 عن رجال من أهل
1 خلاصة ذلك: أن المنكرين لحجية القياس اعترضوا على الاستدلال بهذه الآية فقالوا: إن الاعتبار هنا معناه الاتعاظ، لأن قوله تعالى:{فاعتبروا} وارد في سياق قوله تعالى، في حق بني قريظة والنضير:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} فلا يحسن أن يقول هنا: فقيسوا الذرة على البر؛ لأنه يكون ركيكًا لا يليق بالشارع.
فأجاب المصنف على ذلك: بأن المراد بالاعتبار هنا: القدر المشترك بين القياس والاتعاظ، وهو المجاوزة، فإن القياس مجاوزة عن الأصل إلى الفرع، والاتعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه، وكون صدر الآية غير مناسب للقياس لا يستلزم عدم مناسبته للقدر المشترك بين القياس والاتعاظ.
2 تقدم تخريجه. ومحل الشاهد: أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أقر معاذًا على الاجتهاد، ومن الأمور التي يعتمد عليها في الاجتهاد: القياس.
3 هو: الحارث بن عمرو الثقفي، ابن أخي المغيرة بن شعبة، روى عن أناس من =
حمص، والحارث، والرجال مجهولون. قاله الترمذي1.
ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أنه يجتهد في تحقيق المناط.
قلنا: قد رواه عبادة بن نُسَيّ2 عن عبد الرحمن بن غَنْم3 عن معاذ.
ثم الحديث تلقته الأمة بالقبول، فلا يضره كونه مرسلًا4.
= أهل حمص من أصحاب معاذ، وروى عنه أبو عوف: محمد بن عبيد الله الثقفي، ولا يعرف إلا بهذا، مات بعد المائة. قال البخاري: لا يصح ولا يعرف، وذكره العقيلي وابن الجارود وأبو العرب في الضعفاء، وقال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: تهذيب التهذيب "2/ 152"، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال "1/ 185".
1 هو: محمد بن عيسى بن سورة السلمى الترمذي، أبو عيسى، من أئمة الحديث وحفاظه، صاحب الجامع الكبير في الحديث. توفي سنة "279هـ". انظر: وفيات الأعيان "1/ 484"، تذكرة الحفاظ "2/ 633".
2 هو: عبادة بن نُسَيّ، أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية، روى عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهما، وروى عنه برد بن سنان، والمغيرة بن زياد، ثقة، توفي سنة "118هـ".
انظر: تقريب التهذيب "1/ 395"، تهذيب التهذيب "5/ 113".
3 هو: عبد الرحمن بن غنم الأشعري، اختلف في صحبته. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعثمان وعلي، وعن غيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم جميعًا. كما روى عنه ابنه محمد ومكحول الشامي، ورجاء بن حيوة، وعبادة بن نُسي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعجلي ويعقوب بن شيبة، كما ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. توفي سنة "78هـ". انظر: تقريب التهذيب "1/ 494"، تهذيب التهذيب "6/ 250".
4 قال الخطيب البغدادي في كتابه: "الفقيه والمتفقه""1/ 189-190": "إن قول =
..................................................................
= الحارث بن عمرو "عن أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده، والظاهر من حال أصحابه الدين والتفقه والزهد والصلاح، وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول الرسول الله، صلى الله عليه وسلم:"لَا وَصِيّة لِوَارِث" وفي البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ، لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له".
وقال إمام الحرمين في البرهان "2/ 772": "وهو مدون في الصحاح، متفق على صحتة، ولا يتطرق إليه التأويل".
وقال الغزالي في المستصفى "2/ 254": "تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر فيه أحد طعنًا، فلا يقدح فيه كونه مرسلًا".
كما قواه ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي وابن كثير. انظر: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر "ص63-71" بتعليق الأستاذ حمدي السلفي.
وقال القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1294": "فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل.
قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان هذا أولى.
وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد، مثل: تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحد، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهي المقصودة دون الطريق".
وقال الشيخ محمد الأمين المختار الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه على روضة =
والثاني1: لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
خبر آخر:
قول النبي، صلى الله عليه وسلم:" إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَد فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فََلَهُ أَجْرٌ". رواه مسلم2.
= الناظر ص360، في الملحق الذي سجله -رحمه الله تعالى- في المسجد النبوي عند كلامه عن القياس، قال: "والذين قالوا: إن الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين.
أحدهما: أن الحارث بن عمرو وثقه ابن حبان وإن كان ابن حبان تساهل في التوثيق له، فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها، كحديث الصحيحين "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران". قالوا: وليس في أصحاب معاذ بن جبل أحد مجروح، فكلهم عدول، وإذا كان الحارث موثقًا، وأصحاب معاذ كلهم عدول، فالحديث مقبول.
وثانيهما: أن علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث -خلفًا عن سلف- بالقبول وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الإسناد، وكم من حديث يكتفى بصحته عن الإسناد، يكتفى بعمل العلماء في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلًا، واكتفي بذلك عن الإسناد".
1 أي: قول المعترضين، سابقًا:"ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس، إذ يحتمل أن يجتهد في تحقيق المناط" فأجاب المصنف: أنا لا نسلم ذلك الاحتمال؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة، وهذا لا يسمى تحقيق المناط.
2 في صحيحه: كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ. كما رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعًا. =
ويتجه عليه أنه: يجتهد في تحقيق المناط، دون تخريجه1.
خبر آخر:
قول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية2: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِه أَكانَ يَنْفَعُهُ"؟ قالت: نعم. قال: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
= كما رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
1 أي: أنه لا يتناول القياس إلا بعمومه، حيث يكون قاصرًا على تحقيق المناط، دون تخريج المناط، فليس بصريح في الدلالة على حجية القياس.
وترك المصنف الجواب على هذا الاعتراض؛ لأنه معلوم من الرد على الاعتراض الثاني على حديث معاذ، وهو قوله:"والثاني لا يصح؛ لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة".
2 الخثعمية: امرأة مجهولة لم تسم، من خثعم بن أنمار بن أراش بن كهلان، وجاء في بعض الروايات: أنها امرأة شابة، وهي التي كان ينظر إليها الفضل بن العباس وهو رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال:"كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، وإن شددته خشيت عليه، أفأحج عنه؟ قال: نعم" سبل السلام "2/ 181" فهذه الزيادة التي أوردها المصنف ليست في حديث الخثعمية، فلا يصح الاحتجاج به في هذا المقام، وهو القياس.
وقد روى مثله الإمام أحمد في مسنده "1/ 345" والنسائي "5/ 87" وابن خزيمة "4/ 346" عن ابن عباس أيضًا: "أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم. قال: "فاقضوا الله، فهو أحق بالوفاء" وروى مثله البخاري عن امرأة أن أمها نذرت أن تحج، وماتت ولم تحج.
فهو تنبيه على قياس دين الله على دين الخلق.
وقوله عليه السلام لعمر، حين سأله عن قبلة الصائم:"أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ " 1
فهو قياس للقبلة على المضمضة، بجامع أنها مقدمة الفطر، ولا يفطر2.
وروى أبو عبيد3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ بالرَّأْي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْيٌ"4. وإذا كان يحكم بينهم باجتهاده: فلغيره الحكم برأيه إذا غلب على ظنهم.
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 52" وأبو داود: كتاب الصوم، باب القبلة للصائم، حديث "2385" والدارمي: كتاب الصوم، باب الرخصة في القبلة للصائم، كما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، من حديث جابر بن عبد الله عن عمر رضي الله عنهما قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، فقبلت وأنا صائم. فقال:"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته وأنت صائم؟ " قلت: لا بأس بذلك. فقال: "ففيم؟ " أي: ففيم الاستغراب.
2 أي: أن كلًّا منهما مقدمة لشيء لم يتم.
3 هو: القاسم بن سلام البغدادي، أبو عبيد، الفقيه المحدث اللغوي، أخذ عن كبار اللغويين والنحويين، كأبي عبيدة، والكسائي، والفراء، تولى قضاء طرسوس. من مؤلفاته، "الأموال" و"أدب القضاء" وقد أورد فيه هذا الحديث بسنده عن أم سلمة رضي الله عنها توفي بمكة المكرمة، وقيل: بالمدينة المنورة سنة "224هـ" على الأصح- انظر: تذكرة الحفاظ "2/ 417"، طبقات المفسرين للداودي "2/ 32"، شذرات الذهب "1/ 141".
4 المصنف روى الحديث بالمعنى، ولفظه: عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا =