الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأن الظن إذا لم يكن دليلًا: فبِمَ عرفتم أنه ليس بدليل1؟
ويلزم من انتفاء ذلك: انتفاء الدليل على أنه ليس بدليل!.
وقولهم: "إنه لا يخلو إما أن يكون مكلفًا بممكن، أو بغير ممكن".
قلنا:
لا يكلف إلا ما يمكن.
ولا نقول: إنه يكلف الإصابة في محل التعذر، بل يكلف طلب الصواب، والحكم بالحق الذي هو حكم الله.
فإن أصابه: فله أجر اجتهاده، وأجر إصابته.
وإن أخطأ: فله ثواب اجتهاده، والخطأ محطوط عنه. والله – تعالى- أعلم.
1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".
فصل: [في تعارض الأدلة]
إذا تعارض دليلان عند المجتهد، ولم يترجح أحدهما: وجب عليه التوقف، ولم يكن له الحكم بأحدهما، ولا التخيير فيهما.
وبه قال أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية.
وقال بعضهم وبعض الحنفية: يكون المجتهد مخيرًا في الأخذ بأيهما شاء؛ لأنه لا يخلو:
إما أن يعمل بالدليلين
أو يسقطهما.
1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".
أو يتحكم بتعيين أحدهما.
أو يتخير فيهما.
لا سبيل إلى الجمع بينهما، عملًا وإسقاطًا؛ لأنه متناقض، ولا إلى التوقف إلى غير غاية، فإن فيه تعطيلًا، وربما لم يقبل الحكم التأخير.
ولا سبيل إلى التحكم.
لم يبق إلا التخيير، والتخيير بين الحكمين مما ورد به الشرع في العامّي، إذا أفتاه مجتهدان، وفي خصال الكفارة1، والتوجه إلى أي جدران الكعبة شاء لمن دخلها.
والتخيير في زكاة مائتين من الإبل بين الحقاق وبنات اللبون 2. وأمثال ذلك.
فإن قلتم: التخيير بين التحريم ونقيضه، والإيجاب وعكسه، يرفع التحريم والإيجاب.
قلنا:
إنما يناقض الإيجاب: جواز الترك مطلقًا، أما جوازه بشرط فلا،
1 فإنه مخير بين العتق والإطعام والكسوة. قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
…
} [المائدة: 89] .
2 أي: أن المزكي إذا كان عنده مائتان من الإبل، خُيّر بين أن يخرج عنها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لأنه قد وجد لديه مقتضي إخراج بنات اللبون والحقاق، فإنه في كل أربعين بنت لون، وفي كل خمسين حقة. وبنت اللبون: ما لها سنتان، سُميت بذلك لأن أمها وضعت- غالبًا- فأصبحت ذات لبن، والحقة: ما لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سُميت بذلك لأنها استحق أن تركب ويحمل عليها، ويطرقها الفحل.
بدليل الواجب الموسع، يجوز تركه بشرط1.
والركعتان الأخيرتان في الرباعية من المسافر، يجوز تركهما بشرط قصد القصر. كذا هاهنا: يجوز ترك الواجب بشرط قصد الدليل المسقط له.
وإذا سمع قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} 2: حرم عليه الجمع "بين المملوكتين"3، وإنما يجوز له الجمع إذا قصد الدليل الثاني، وهو قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
…
} 4 كما قال عثمان: "أحلتهما آية وحرمتهما آية".
1 وهو: الإتيان به في الوقت الموسع، وهو الذي قال عنه في فصل تقسيم الواجب:"وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت".
2 سورة النساء من الآية: "23".
3 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 118" وعليه يتوقف صحة المعنى.
4 سورة النساء، من الآية:"24" ولفظ المؤمنون: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} آية: "6" ومثلها في المعارج آية: "30" وفي جميع الطبعات: "أو ما ملكت أيمانكم" وهو خطأ يجب أن يتنبه له.
ومحل الشاهد: أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يقتضي تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأنها لم تفرق بين الأختين في الزواج وملك اليمين. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يقتضي إباحة الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ حيث لم تفرق الآية بين الأختين وغيرهما. وهذا معنى قول "عثمان"رضي الله عنه: "أحلتهما آية وحرمتهما آية"، تقدم تخريجه.
ولنا:
أن التخيير: جمع بين النقيضين، واطّراح لكلا الدليلين، وكلاهما باطل.
أما بيان اطّراح الدليلين: فإذا تعارض الموجَب والمحرَّم فيصير على التخيير المطلق، وهو حكم ثالث غير الدليلين معًا، فيكون اطّراحًا لهما، وتركًا لموجبهما.
وأما الجمع بين النقيضين: فإن المباح نقيض المحرَّم، فإذا تعارض المبيح والمحرِّم، فخيرناه بين كونه محرَّمًا يأثم بفعله، وبين كونه مباحًا لا إثم على فاعله: كان جمعًا بينهما، وذلك محال.
ولأن في التخيير بين الموجِب والمبيح رفعًا للإيجاب، فيصير عملًا بالدليل المبيح عينًا، وهو تحكم، قد سلموا بطلانه1.
قولهم2: "إنما جاز بشرط القصد".
قلنا:
فقبل أن يقصد العمل بأحدهما: ما حكمه؟
إن قلتم: حكمه الوجوب والإباحة معًا، والتحريم والحل معًا، فقد جمعتم بين النقيضين.
وإن قلتم: حكمه التخيير، فقد نفيتم الوجوب قبل القصد، واطّرحتم دليله، وأثبتم حكم الإباحة من غير شرط.
وإن قلتم: لا حكم له قبل القصد، وإنما يصير له بالقصد حكم.
فهذا إثبات حكم بمجرد الشهوة، والاختيار من غير دليل؛ فإن
1 حيث قالوا في دليلهم السابق: "ولا سبيل إلى التحكم، لم يبق إلا التخيير".
2 بدأ المصنف يناقش أدلة المذهب الثاني.
الدليلين وجدا، فلم يثبت لهما حكم، وثبت بمجرد شهوته وقصده بلا دليل، وهذا باطل.
قولهم: "إن التوقف لا سبيل إليه".
قلنا:
نلزمك ما إذا لم يجد المجتهد دليلًا في المسألة، والعامّي إذا لم يجد مفتيًا، فماذا يصنع؟
وهل ثَمَّ طريق إلا التوقف في المسألة؟
ثم لا نسلم تصور خلوِّ المسألة عن دليل؛ فإن الله تعالى – كلّفنا حكمه، ولا سبيل إليه إلا بدليل.
فلو لم يجعل له دليلًا كان تكليفًا لِمَا لا يطاق.
فعند ذلك إذا تعارض دليلان، وتعذر الترجيح أسقطهما، وعدل إلى غيرهما، كالحاكم إذا تعارضت عنده بينتان.
أما العامّي:
فقد قيل: يجتهد في أعيان المفتين، فيقلد أعلمهما وأدينهما. وهو ظاهر قول الخرقي1؛ لأنه قال في الأعمى إذا كان مع مجتهدَيْن في القبلة، قلّد أوثقهما في نفسه2.
وقيل3: يخير فيهما.
1 هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي، من فقهاء الطبقة الثالثة الحنابلة، صاحب كتاب "المختصر في الفقه" توفي بدمشق سنة 334هـ.
طبقات الحنابلة "2/ 75-76".
2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109".
3 وهذا هو الرأي الثاني في العامّي "إذا أفتاه مجتهدان.