الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تتناول الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} إلى قوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} .
ــ
في هذا الربع تناول كتاب الله من بين قصص الأنبياء السابقين قصة نوح وقصة موسى عليهما السلام، تذكيرا لمشركي قريش ومن في معناهم من الغافلين الضالين، بما آل إليه أمر قوم نوح، وأمر فرعون وملائه، من جراء إصرارهم على الباطل، ورفضهم لقبول الرسالة الإلهية رفضا باتا، وتحذيرا لهم من أن ينالهم من العذاب ما نال الأمم الغابرة، إذا أصروا على رفض الدعوة الإلهية ولم يستجيبوا لله وللرسول.
فعن قصة نوح عليه السلام نبه كتاب الله إلى أن نوحا بعدما طالت إقامته بين قومه، وطال تذكيره لهم دون جدوى دعاهم إلى اتخاذ موقف صريح وحاسم تجاه الدعوة التي جاءهم بها، وأشعرهم بأنه لا ينبغي لهم الاستمرار على التردد والغموض، فإما أن يعلنوا قبول دعوته نهائيا، على أساس أن دعوته حق وصدق، وإما أن يعلنوا رفضها بالمرة، ويتحملوا جميع النتائج الناشئة عن وقوفهم في وجهها، وأخبرهم نوح عليه السلام أنه لا يتهيب أي موقف يتخذونه ضده، فهو متوكل على الله، معتصم بحبله، ممتثل لأمره، وأكد أنه لا يرمي من وراء دعوتهم إلى الله إلى أي مغنم مادي أو فائدة شخصية، بل إن كل همه منحصر في هدايتهم إلى الله تعالى، وكل أمله معلق على ثواب الله، وذلك قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} أي إقامتي بين أظهركم {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا تتركوا أمركم في التباس وغموض، بل افصلوا حالكم معي {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي رفضتم دعوة الله ولم تقبلوا طاعته {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي أنني لم أطلب منكم مقابل نصحي أي عوض من أي نوع كان، بل هو نصح خالص لله ولكم {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .
وقوله تعالى هنا على لسان نوح {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يؤكد الحقيقة الدينية والتاريخية الثابتة، وهي أن جميع الأنبياء والرسل قد بعثهم الله إلى عباده بنفس الدعوة،
وبنفس العقيدة، والمراد " بالدعوة " الدعوة إلى الخير، و " بالعقيدة " عقيدة التوحيد، وهذه الدعوة وهذه العقيدة تتضمنهما معا كلمة " الإسلام " التي هي شعار دين الحق الوحيد المنزل من عند الله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. ومصداقا لهذه الحقيقة ها هو كتاب الله يحكي لنا على لسان نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
ويحكي لنا على لسان إبراهيم الخليل: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
ويحكي لنا على لسان يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
ويحكي لنا على لسان موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].
ويحكي لنا عن أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44].
ويحكي لنا على لسان حواريي عيسى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].
ويحكي لنا على لسان خاتم الأنبياء والمرسلين المسلم الأول في هذه الأمة: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
ولعل من البديهي أن تكون عقيدة الإسلام واحدة ودعوته واحدة، رغما عن تباعد الأيام وتطاول القرون، وتعدد الأنبياء وكثرة الرسل، ما دام منبع الإسلام الأول والأخير منبعا وحيدا وواحدا لا يتعدد ولا يتبدل، ألا وهو الوحي الإلهي الصادر عن الله تعالى الواحد الأحد، خالق الكون ومدبر الأمر، الذي لا تبديل لكلماته، وكلماته كلها صدق وعدل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
وبين كتاب الله للتذكير والتحذير مصير المصرين على الباطل من قوم نوح، حيث أغرقهم وأبادهم بالمرة، ومصير الذين استجابوا لله ولرسوله، حيث نجاهم مع نبيهم نوح من الغرق، فكانت نجاتهم مزدوجة: نجاهم من الغرق في بحر الضلال في البداية، ونجاهم من الغرق في بحر الوبال في النهاية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي نجينا نوحا ونجينا من آمن به وأصبح على دينه " والمرء في ميزانه أتباعه "، {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} أي جعلنا الذين آمنوا بنوح مستخلفين في الأرض، بدلا ممن كذبوه فلم يعودوا أهلا للاستخلاف {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} .
ونبه كتاب الله إلى أن الحكمة في ذكر قصة نوح وما ماثلها
إنما استخلاص العبرة، وضرب المثل بالواقع المحسوس، فقال تعالى:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} . والخطاب هنا وإن كان موجها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليطمئن إلى وعد الله، وإلى أن الله سينجي المؤمنين، وسيهلك المكذبين، هو موجه أيضا إلى مشركي قريش، وإلى كل من يسلك مسلكهم في التكذيب والعناد، والغفلة عن سلوك طريق الرشد، ليوقنوا بأن مصيرهم -إذا أصروا على ما هم عليه- هو الهلاك المحقق والعذاب الأليم، إذ {ما جرى على المثل يجري على المماثل} .
وتحدث كتاب الله عن أفواج الرسل التي جاءت بعد نوح عليه السلام، وما جاء به أولئك الرسل إلى أقوامهم من الحجج القاطعة والبراهين الساطعة، إلا أن أقوامهم بادروا إلى تكذيبهم، وأصروا على موقفهم، ورغما من مرور الأيام واستمرار الدعوة دون انقطاع، فإنهم لم يتراجعوا عن موقفهم قلامة ظفر، عنادا وإصرارا، وتعصبا واستكبارا، وذلك قوله تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد نوح {رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي رفضوا أن يؤمنوا أخيرا بما كذبوا به أولا، فأهلكهم الله، عقابا لهم، وتحذيرا لمن بعدهم، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17]. {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي وهكذا يقع للمكذبين الذين يأتون من بعدهم، إذ يسلكون نفس السبيل الذي سلكه أسلافهم من المكذبين الأولين، فهم في الحقيقة حزب واحد، ويجمعهم رأي واحد، هو الاعتقاد الفاسد.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن قصة موسى وفرعون، وهذه القصة تأتي بصفة خاصة في عدة سور من القرآن الكريم، لحكم إلهية في ذلك، ولعل من جملة هذه الحكم تذكير المسلمين باستمرار، بما مر به بنو إسرائيل من التقلبات والأطوار، وما أوقعوا فيه العالم من فساد وإباحية واستهتار، وتوجيه أنظار المسلمين وغيرهم، إلى وجوب الحذر من هذا العنصر الناقم على غيره، لما فيه من الأضرار والأخطار.
والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة، مما جعلهم في عداد الهالكين الخاسرين، وأبقى قصتهم عبرة للأولين والآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} ؟. كما يشير إلى نفس المعنى قوله تعالى في نفس هذا الربع: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} .
وبين كتاب الله ما أدلى به فرعون وقومه من الأعذار المنتحلة، والمبررات المفتعلة، لرفض الدعوة الإلهية، وهذه الأعذار والمبررات تتلخص في أن الدعوة التي جاء بها موسى من عند الله إنما ترمي إلى قلب نظام الدولة، والاستيلاء على مقاليد
الحكم في مصر الفرعونية، وإذن فهي دعوة تدمير وتخريب، لا تستحق سوى الرفض والمقاومة، ولا يستحق أصحابها سوى الاضطهاد والتعذيب، وهذا الموقف الفرعوني هو نفس الموقف الذي يقفه الطغاة المتفرعنون، تجاه جميع الدعوات الصالحة في كل جيل. وكم رأينا لهذا الموقف في العصر الذي نعيش فيه من مثيل، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى حكاية عن فرعون وملأه:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي لتصرفنا عن معتقداتنا {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} أي لتكون لكما الرياسة والسلطان في هذا البلد -والخطاب هنا لموسى وهارون- {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي لن نصدق دعوتكما أبدا.
ولا بد من التنبيه في هذا السياق إلى معنى من أهم المعاني الواردة في هذا الربع، وهذا المعنى هو أن الساحرين لا يفلحون، وأن المفسدين لا يصلحون، وذلك قوله تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ، فالساحر المأجور الذي يباشر عملية السحر، والساحر الذي يستأجره على ذلك للاستعانة بسحره على بلوغ غرض من أغراضه السافلة كلاهما محكوم عليه مسبقا من الله تعالى بالخيبة والخسران، دينا ودنيا، عاجلا أو آجلا:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. والمفسد الذي يتظاهر بالإصلاح، أو يدعي أن الفساد هو عين الصلاح، لا يستقيم له من الأمر شيء، بل لا بد أن ينقلب به
الحال من سيء إلى أسوأ، اللهم إلا إذا عاد إلى طريق الصلاح الحقيقي، فيصلح الله عمله، ويحقق أمله {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وخُتم هذا الربع بوصف الحالة التي آل إليها فرعون عند الغرق حتى تظل ماثلة في الأذهان، وعبرة لبني الإنسان، فقال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي لا تذهب بعد غرقك مع التيار وتأكلك الحيتان، وإنما تبقى جثتك حجة ناطقة عليك لمن يأتي بعدك في مستقبل الزمان.
والراجح أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة، الذي لا تزال جثته محفوظة حتى الآن، وهي معروضة في متحف الآثار بالقاهرة يشاهدها الزائرون {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} .