المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٣

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يونس

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة هود

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يوسف

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرعد

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة إبراهيم

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجر

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النحل

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الإسراء

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الكهف

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول تفسير الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}

ــ

في الربع الماضي تولى الحق سبحانه وتعالى التنويه بكتابه الحكيم، وأنه الكتاب الوحيد الذي يهدي إلى أقوم العقائد والملل، وأقوم الشرائع والشعائر، والذي يفصل للإنسان كل شيء، فيعرفه طريق الخير ليسلكها، وطريق الشر ليتجنبها، وذلك قوله تعالى فيما سبق:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وقوله تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} .

وكنموذج لما يهدي إليه الذكر الحكيم من الطرق القويمة، والتوجيهات السليمة، ولما يفصله بين جنباته لفلاح الإنسان ونجاته، تولى الحق سبحانه وتعالى في هذا الربع بيان عدد مهم من الأوامر والنواهي، مما تتوقف عليه سعادة المسلم وسعادة

ص: 384

المجتمع الإسلامي، فوجه خطابه إلى المكلفين، واحدا واحدا، بالنسبة لما يتعلق بذممهم كأفراد، من الأوامر والنواهي، ووجه خطابه إلى المكلفين، جماعة جماعة، بالنسبة لما يتعلق بهم كجماعات، من الأوامر والنواهي، إذ إن الشريعة تحتوي على تكاليف فردية وتكاليف جماعية، كل منها يكمل الآخر، ويساند الآخر: مثال النوع الأول قوله تعالى في هذا الربع: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} - {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . ومثال النوع الثاني قوله تعالى في هذا الربع: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} - {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} .

وأول ما يستلفت النظر في هذا الربع قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، الذي أتبعه في الحين ودون أي فاصل بقوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الآية: 23]، الأمر الذي يوضح أهمية البرور بالوالدين عند الحق سبحانه وتعالى، حتى وصى به وجعله مقارنا لتوحيده وعبادته، والاعتراف بربوبيته، بحيث إذا كان الإيمان بالله يعتبر في الدرجة الأولى، فإن الإحسان إلى الوالدين يعتبر في الدرجة التي تليه مباشرة، على غرار قوله تعالى في آية أخرى تؤكد نفس المعنى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] حيث ربط شكر الإنسان لوالديه بشكره لربه. وهكذا يوجه الإسلام معتنقيه إلى

ص: 385

وجوب الارتباط الدائم بالله أولا، ثم الارتباط الوثيق بالأسرة ثانيا، إذ الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، والأمة الإسلامية يجب أن تتألف من مجموعة أسر تتبادل العون والعطف، وتتعاون على البر والتقوى.

ثم تكفل كتاب الله بالإرشاد إلى وجوه الإحسان والبرور التي يجب على الأولاد أن يقدموها إلى الوالدين في جميع الظروف، ولاسيما عند كبرهما، وضعفهما، فنهى عن التضجر منهما والتبرم بهما، ودعا إلى حسن الأدب معهما والتواضع لهما، ورعايتهما حق الرعاية بقية حياتهما، كما دعا إلى الترحم عليهما والوفاء لذكراهما بعد انتقالهما إلى رحمة الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .

وقوله تعالى هنا: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} تصوير الاستثنائية التي يحتاج فيها الوالدان أكثر فأكثر، إلى برور الأولاد، وهي حالة الكبر والهرم، التي يرافقها الضعف والعجز، ففي هذا الطور من العمر الذي يصل إليه الأب، أو تصل إليه الأم، أو يصلان إليه معا، يحتاج الوالدان حاجة ملحة إلى برور أولادهم، ويتطلعان بلهفة وشوق إلى مزيد رعايتهم، إذ تكون الأم ويكون الأب قد استنفذ كل منهما طاقات شبابه، وأفنى كل منهما زهرة حياته في تنشئة الأولاد وتربيتهم، وبذل كل منهما النفس والنفيس في سبيل إسعادهم، دون أدنى

ص: 386

تحفظ ولا أدنى حساب، وبذلك يَرُدُّ الأولاد لوالديهم وهم كبار، بعض ما أسداه اليهم والدوهم وهم صغار.

هذا وينبغي لكل ولد ولد أن لا يغفل عن الخطاب الإلهي الموجه إليه من الحق سبحانه وتعالى هنا بشكل مباشر إذ يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} فكلمة {عِنْدَكَ} هنا إنما جاءت لتشير إلى أن الوالدين في حالة شيخوختهما يصبحان غالبا في كنف أولادهما، ويقضيان أيامهما الأخيرة في رعايتهم وعلى مسؤوليتهم، فعلى الأولاد أن يقوموا بحقوق الأبوة على الوجه الأكمل، كما قام الآباء بحقوق البنوة على الوجه الأفضل. وتذكيرا بتضحيات الوالدين في سبيل أولادهما عندما كانوا أفقر خلق الله إليهما، طالب الحق سبحانه وتعالى الأولاد بسؤال الرحمة لهما جزاء وفاقا، فقال تعالى مرشدا ومعلما صيغة الدعاء المناسب لهذا المقام:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .

ولم يهمل كتاب الله الإشارة إلى ما قد يلحق بعض الأولاد من ضجر أو ملل أو فتور في القيام بحقوق الوالدين، مما قد تثيره بعض تصرفاتهما في حالة الهرم والكبر، فنبه الحق سبحانه وتعالى إلى أنه مطلع على سرائر النفوس لا يخفى عليه منها شيء، وأنه إذا فرط من الأولاد شيء من التقصير في حق الوالدين، في حالة غضب أو ضيق صدر، وكانت نيتهم نحو الوالدين لا تزال نية صالحة بريئة من السعي في الأذى والميل إلى العقوق، فإن الله يغفر للأولاد ما فرط منهم إذا ما بادروا للتوبة من تقصيرهم، وتداركوا القيام بحقوق الوالدين، وأنه يعفو عما سلف منهم ولا

ص: 387

يؤاخذهم عليه، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا مخاطبا الأبناء التائبين من تقصيرهم في حق الآباء:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} .

وبعدما استوفى كتاب الله الحديث عن حقوق الوالدين في البر والإحسان دعا كل فرد من المسلمين إلى أن يعم بره وإحسانه بعد والديه عشيرته الأقربين، ثم كل محتاج ومسكين، فحق الأخوة العامة في الله بين المسلم وأخيه المسلم لا يقل عن حق القرابة في الدم، وذلك قوله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} .

ونظرا لأن الرزق لا يستمر على وتيرة واحدة، بل يتسع أحيانا فيبسط صاحبه يده للبذل والسخاء، ويضيق أحيانا فيقبض صاحبه يده عن العطاء، نبه الحق سبحانه وتعالى عباده إلى الأدب الواجب عليهم في مثل هذا الظرف الدقيق، وأنه ينبغي لهم أن يتجنبوا كل ما يلحق الأذى بشعور إخوانهم، أو يحط من كرامتهم، وبدلا من أن يعرضوا عنهم متسترين ينبغي لهم أن يعدوهم وعدا جميلا بالعون إذا ما أيسروا، ويقولوا لهم قولا معروفا إذا أقبلوا أو أدبروا، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى مخاطبا كل فرد من أفراد المسلمين:{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} .

وإزالة لكل التباس يمكن أن يقع فيه الناس اهتم كتاب الله بتوضيح أن الأمر بالبر والإحسان لا يقتضي حتما إنفاق كل ما يملكونه في هذا السبيل، فضلا عن غيره من السبل، تاركين

ص: 388

أنفسهم وأهليهم عالة يتكففون الناس، فالإسلام ملة وسط، وأمته أمة وسط، وتكليفه تكليف وسط، وهو يكره الإفراط والتفريط في جميع المجالات، ولذلك ندد بالتبذير، كما ندد بالتقتير، ودعا إلى التزام التوسط بين بسط اليد وقبضها، لأن بسط اليد بالمرة يعرض الإنسان للوم الغير، ممن لهم عليه حقوق أصبحت ضائعة كالأهل والأولاد، ويعرضه للحسرة والندامة والهم المقيم، فيما بينه وبين نفسه، والإسلام كما يريد أن يقوي حاسة البر، ويشيع عاطفة الإحسان في المجتمع العام، لا يرضى بإشاعة البؤس والشقاء في المجتمع الخاص، وإنما يحرص كل الحرص على إقامة مجتمع سعيد متكافل ومتوازن من جميع جوانبه، وإلى هذه المعاني يشير قوله تعالى في هذا الربع:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} - {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} .

ونبه كتاب الله في سياق أوامره ونواهيه الموجهة إلى كل فرد من أفراد المسلمين، إلى أن لا يدعي أحد منهم علم ما لم يعلم، كأن يقول: رأيت، وما رأى، وسمعت، ولم يسمع، وكأن يشهد شهادة الزور، ويحكم بغير دليل ولا مستند في بعض الأمور، فقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} .

ونهى كتاب الله كل مسلم عن التكبر والتجبر والتبختر، ودعاه إلى أن يخفف وطأه في المشي على الأرض، إذ مهما تمايل الإنسان وتطاول لن يغير من طبيعته وقدرته شيئا كبيرا،

ص: 389

وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في هذا الربع: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} .

وكما اتجه كتاب الله بجملة من الأوامر والنواهي إلى مختلف الأفراد فخاطبهم بها فردا فردا، اتجه أيضا بجملة من الأوامر والنواهي ذات الصبغة الجماعية إلى الأمة الإسلامية في مجموعها، وهذه الأوامر والنواهي تتعلق " بالكليات الضرورية " التي تتوقف حياة المجتمع الإسلامي عليها كل التوقف، وبدونها يتعذر العمران، ويفشو الانحلال، ويضيع الأمن ويفسد النظام، فقال تعالى داعيا إلى " حفظ النسل " والإبقاء عليه:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} ، وقال تعالى داعيا إلى " حفظ العرض " وصيانة النسب:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} ،وقال تعالى داعيا إلى " حفظ النفس " وصيانة الأرواح:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} ،وقال تعالى داعيا إلى " حفظ المال " وتنميته، والابتعاد في كسبه عن كل غش أو تدليس:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ، وقال تعالى داعيا إلى " حفظ الدين " والتزام ميثاق التوحيد الذي واثق الله به عباده وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} - {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} - {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} .

ص: 390

وبعدما عرض كتاب الله جملة من النواهي التي يؤدي ارتكابها إلى الشقاء العاجل في الدنيا قبل الشقاء الآجل في الآخرة، عقب عليها تنفيرا منها وتذكيرا بعواقبها، فقال تعالى:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ،بينما عقب كتاب الله على الأوامر الإلهية والوصايا الربانية التي فيها صلاح البشرية أفرادا وجماعات، بما يتضمن التنويه بقدرها، والإعلاء من شأنها، فقال تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ، مصداقا لقوله تعالى في سورة النساء:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [الآية: 113].

ص: 391