المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٣

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يونس

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة هود

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يوسف

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرعد

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة إبراهيم

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجر

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النحل

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الإسراء

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الكهف

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

حصة هذا اليوم تتناول الربع الأول من الحزب الثالث والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ــ

في نهاية الربع الماضي ختمنا بعون الله وتوفيقه سورة يونس المكية، التي تليها في ترتيب المصحف الكريم سورة هود المكية أيضا. و " سورة هود " أطلق عليها هذا الاسم، أخذا من الآيات الكريمة التي وردت أثناءها في الحديث عن هود عليه السلام وقومه عاد، كقوله تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الآية: 50]. وقوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الآية: 53]، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ

ص: 95

غَلِيظٍ} [الآية: 58]. وقوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [الآية: 60].

وفي هذه السورة الكريمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها) جوابا لأبي بكر الصديق عندما قال له: (يا رسول الله قد شبت) كما روى ذلك الترمذي في سننه، وأخواتها هي: سورة الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت، كما ورد في رواية أخرى عند الترمذي.

وسورة هود لها شبه كبير بسورة يونس قبلها، وتستغرق أخبار الأنبياء السابقين وقصصهم مع أقوامهم أكبر قسم من هذه السورة، فبالإضافة إلى قصة هود مع قومه تتناول سورة هود جوانب جديدة من قصص نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى.

ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن كتاب الله لا يتناول الموضوع الواحد، ولاسيما قصص الأنبياء، عدة مرات لمجرد التكرار، بل إن عودته ما بين الحين والحين إلى تناول تلك القصص تتضمن عرض جانب جديد من جوانبها لم يسبق عرضه من قبل، مما يتناسب مع السياق والموضوع الجديد الذي وردت فيه القصة.

قال أبو القاسم بن جزي صاحب " القوانين الفقهية " في كتابه {التسهيل لعلوم التنزيل} : " فإن قيل ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن، فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره

ص: 96

في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى.

الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب، وفي مواضع على طريقة الإيجاز، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين.

الثالث: أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد، فتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد، فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة، " ولكل مقام مقال " انتهى.

وفي مطلع سورة هود يبتدئ الحديث بالتنويه بكتاب الله، وما تتضمنه آياته من حكمة وإحكام، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، كما اختتم الحديث في سورة يونس قبلها بوجوب إتباع كتاب الله، والثبات على تبليغه، والصبر على تحمل تبعاته {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .

وبيَّن الله الاختصاص الأساسي والجوهري لمنصب الرسالة، وأنه ينحصر في النذارة والبشارة {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} . ودعا المؤمنين إذا أرادوا أن يمتعهم الله متاعا حسنا بالنعم والأرزاق والخيرات، وأن يحييهم حياة طيبة، إلى استغفار ربهم، والتوبة إلى الله من ذنوبهم، بالندم عليها ندما صادقا، والإقلاع عنها إقلاعا تاما، حتى يفتح الله في وجوههم طريق العمل الصالح، ويعينهم على سلوكه بنجاح في جميع مجالات الحياة، وذلك قوله

ص: 97

تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .

ونبه كتاب الله إلى أن من زاد في الإحسان، زيد له في الثواب بقدر ما زاد من الحسنات والأعمال الصالحة، فقال تعالى:{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وكما يصدق هذا على الثواب في الآخرة يصدق على الجزاء في الدنيا.

وأنذر كتاب الله على لسان رسوله كافة المخالفين، والعصاة المتعنتين، فالتفت إلى خطابهم قائلا:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وأكد كتاب الله أن كل محاولة يحاولها الإنسان للاستخفاء والتستر عن الله، بالنسبة إلى أي عمل من الأعمال، ولاسيما عمل السيئات والفواحش، إنما هي محاولة فاشلة، لأن علم الله يستوعب السر والعلن، وعين الله تراقب ما ظهر وما بطن، فلا ثني الصدور، ولا ستار الأغطية، ولا أي وضع من الأوضاع التي يختفي بها الناس لها أدنى فائدة بالنسبة لعالم الغيب والشهادة، اللطيف الخبير {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي يجعلونها أغشية وأغطية {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

وتعهد كتاب الله بأنه ما من كائن حي يتوالد في الأرض، صغر شأنه أو كبر، إلا وقد تكفل الله برزقه، فهيأ له إما في البر

ص: 98

وإما في البحر ما يقتات به من المنتوجات والثمرات على اختلاف الأجناس والأنواع والأصناف، مما هو صالح ومناسب لحياة كل نوع من أنواع الأحياء، حشرة كان أو حيوانا أو إنسانا، وما على المسترزق إلا أن يبحث عن رزقه، ويسلك الطريق المؤدي إلى العثور عليه، وذلك قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . قال أبو القاسم بن جزي: " فان قيل كيف قال -على الله- بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل، لأن الله لا يجب عليه شيء؟ فالجواب؟ أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان، لأنه لما وعد به صار واقعا لا محالة، إذ أنه لا يخلف الميعاد ". ولا يقولن أحد: إن الله قد تكفل برزقي فلأترك تناول الأسباب، ولأنتظر من يطرق الباب، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال عمر بن الخطاب.

وقوله تعالى هنا: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} إشارة إلى أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه يعلم على العموم والخصوص، وعلى الجملة والتفصيل، في أي أرض تعيش الأحياء وفي أي أرض تموت، زرافات ووحدانا، وبأوسع من هذا المعنى ورد قوله تعالى في آية ثانية:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

والمراد " بالكتاب المبين " في هاتين الآيتين هو نفس المراد بالكتاب في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ

ص: 99

بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] أي كتاب خاص محفوظ عند الله، فيه بيان مفصل عن شؤون الخليقة من بدايتها إلى نهايتها.

وقوله تعالى هنا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} المتعلق من جهة الإعراب بفعل -خلق- الوارد في قوله تعالى قبله {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} تنبيه من الله إلى أن الحكمة في التفضل بخلقهم والتكفل برزقهم إنما هي اختبار أحوالهم، وإبراز آثارهم، والكشف عن اختياراتهم، لتقوم الحجة عليهم، فالدنيا إنما خلقها الله لتكون حلبة سباق وتنافس بين الناس في العمل الصالح، الذي ينشأ عنه صلاح البشرية وسعادتها، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

و" العمل الأحسن " المعبر به في هاتين الآيتين هو نفس المعنى المراد من " العبادة " التي ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فكل عمل صالح هو عبادة لله وامتثال لأمره، من جهة، وكل عبادة هي في حد ذاتها عمل صالح، من جهة أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

وقوله تعالى في هذا الربع: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} . المراد بالأمة هنا الأمد والأجل، أي إن أخرنا عنهم العذاب إلى وقت محدود تساءلوا ما الذي يحبس ذلك العذاب، وبنفس المعنى استعمل لفظ " أمة " في

ص: 100

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي استذكر بعد مدة.

ولإتمام الفائدة في هذا المقام ينبغي التنبيه إلى أن لفظ {أُمَّةٍ} في كتاب الله يستعمل أيضا بمعنى " الإمام المقتدى به " كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، وبمعنى " الفرقة والطائفة " كما في قوله تعالى:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] وبمعنى " الجماعة " كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، وبمعنى " الملة " كما في قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، وبمعنى " أمة الإجابة المصدقة للرسالة " كما في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وبمعنى " أمة الدعوة " الشاملة لكل من بعث إليه الرسول ممن آمنوا أو بقوا على الكفر، كما في قوله تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 47].

وتناول كتاب الله بالوصف والتحليل نفسية الأشخاص القلقين، من ضعفاء الإيمان وضعفاء النفس، في حالتي الشدة والرخاء، مبينا أن هذا الرهط من الناس إذا أصابته شدة بعد الرخاء لا يلبث أن تنهار أعصابه، ويبلغ به اليأس والقنوط من رحمة الله إلى أقصى حد، حتى كأنه لم ينل في سابق حياته من ربه أي عطاء أو إحسان، فهو عاجز كل العجز عن تحمل

ص: 101

الصدمات، ضعيف كل الضعف عن مواجهة الأزمات، وكلما طال به أمد الشدة تضاءل أمام نفسه وأمام الناس، فيصبح قزما بعدما كان عملاقا، ويعود حماما وديعا بعدما كان سبعا ضاريا، كما أنه إذا أصابه رخاء بعد الشدة عاجله البطر بالنعمة، وأصابه نوع من الإغماء والذهول من شدة الفرح الزائد عن الحد المعتاد، فلم يعد يضبط نفسه ولا عواطفه، واعتقد أن الرخاء الذي نزل بساحته سوف لا يفارقه إلى الأبد، فأمن مكر الله، ونسي نعمة الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي شديد الفرح بنفسه، كثير الفخر والتطاول على غيره.

وقوله تعالى في نفس السياق: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المراد به استثناء الصنف المؤمن بالله المتمسك بالإيمان والصبر، من هذا الحكم العام، وهو استثناء متصل، من جنس الإنسان، ذلك أن إيمان المؤمن بقضاء الله، وصبره على ضيق الشدة، وعلى سعة الرخاء -وكلاهما يحتاج إلى صبر- كلها أدوية فعالة تجعل المؤمن الصابر في حصانة ومناعة، من أن يصبح في وقت الشدة يؤوسا كفورا، وفي وقت الرخاء فرحا فخورا. وبذلك استحق هذا الصنف المؤمن رضا الله وثوابه الجزيل، فقال تعالى في شأنه:{أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .

ونبه الحق سبحانه وتعالى إلى أنه إذا اختار فريق من الناس

ص: 102

-عن عمد وإصرار- مجرد العمل لدنياهم وحدها، وأعدوا العدة المناسبة لاجتياز مرحلة حياتهم المادية الصرفة، دون أن يهتموا بالعمل لآخرتهم كما يعملون لدنياهم، فإن الله تعالى يستدرجهم ويمهلهم في الدنيا، لكنه يلغي كل ما عملوه في الدنيا عند حسابهم في الآخرة، وذلك قوله تعالى هنا:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي في الدنيا {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} ، والضمير هنا يعود على الآخرة، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي في الدنيا.

قال القاضي أبو بكر (ابن العربي): " هذه الآية عامة في كل من ينوي غير الله بعمله، كان معه أصل الإيمان أو لم يكن. وفي الحديث القدسي:(إني لا أقبل عملا أشرك فيه مع غيري، أنا أغنى الأغنياء عن الشرك).

وبنفس المعنى ورد قوله تعالى في آية ثانية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وقوله تعالى في آية ثالثة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18].

ولا يستغربن المؤمن ما قد يرى عليه بعض الدول والأفراد، رغما عن ماديتهم وكفرهم، من القوة المادية والرفاهية الظاهرة في

ص: 103

العيش، بعدما كشف الله في كتابه عن هذه الحقيقة الحجاب، ورفع عنها النقاب، فذلك كله مندرج تحت هذا الباب:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} - {لَا جَرَمَ} أي لا بد {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .

وعلى العكس من ذلك المؤمنون الذين عملوا لدنياهم كما عملوا لآخرتهم، فأعطوا للمادة حظها، وللروح حقها، ونفخوا في أعمالهم روح النية الصالحة فكانت أعمالهم لوجه الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أي وهم خاشعون {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ص: 104