الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الواحد والعشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم يتناول الربع الأول من الحزب الواحد والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
ــ
في نهاية الربع الماضي تحدث كتاب الله عن الأعذار التي يسمح الإسلام من أجلها بالتخلف عن الجهاد، لأنه ينظر إليها بعين الاعتبار، وفي بداية هذا الربع الذي هو حصة اليوم تسلط الآيات الكريمة أضواءها على المعتذرين بأعذار واهية، حرصا على السلامة والعافية، ومن بينهم طائفة من أغنياء المنافقين فضلت القعود والركود على الجهاد والجلاد، تأمينا لمتعتها، وضمانا لراحتها، وبخلا بالتنازل ولو مؤقتا عن مألوفاتها.
ولتعتمد هذه الطائفة المنحلة على مبرر لعملها حتى لا يستنكره الناس، حاولت أن تحصل من رسول الله في شأن قعودها
المريب على إذن خاص، ورضيت في سبيل إرضاء شهواتها بالتنازل عن خصال الرجال الأقوياء، وبالبقاء قعيدة البيت بجانب العجزة من الأطفال والعواجز من النساء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} أي إنما الحرج والإثم على الذين لم يبادروا للخروج معك إلى غزوة تبوك، لغزو الروم، كما بادر إلى ذلك المخلصون، أغنياء وغير أغنياء، بل توقفوا وتثاقلوا وجعلوا يطلبون منك الإذن لهم في التخلف، بالرغم من أن عندهم جميع الوسائل التي تمكنهم من المساهمة في الجهاد مساهمة فعالة، لكنهم لم يجاهدوا بأنفسهم، ولم يساعدوا غيرهم من الفقراء على تكاليف الجهاد بأموالهم:{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن يكونوا مع العواجز، بعيدين عن جبهة القتال ومتاعبه، آمنين على أنفسهم من مفاجآت الجهاد. ولا ينبغي أن يفهم من هذا السياق أن النساء المسلمات جميعا كن محرومات من شرف الجهاد والوقوف بجانب المجاهدين، بل إنهن على العكس من ذلك، فقد كان القادرات منهن على التطوع يتطوعن بالجهاد، وان لم يفرض عليهن، ويشاركن فيه مشاركة فعالة إلى جانب الرجال، وكان نصيبهن من الغنائم يقدم لهن في صورة هدايا وعطايا تعطى لهن تشجيعا على التطوع للجهاد، وتقديرا لتضحياتهن في سبيل إعلاء كلمة الله.
ثم بين كتاب الله السر في موقف هذا النوع من الأغنياء: الأغنياء مادة، والفقراء روحا، فقال تعالى:{وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . ففي هذه الآية تنبيه إلى أن قلوبهم قد
ماتت، ولم تعد تنبض بأي إحساس كريم أو شعور نبيل، فكيف يهبون لنصرة المثل الأعلى الذي يمثله الإسلام، وقد {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .
وفي نفس الآية تنبيه إلى أن عقولهم قد أناخ عليها كابوس الجهل، وعشش فيها بوم الوهم، فكيف يقدرون الرسالة السامية التي جاء بها الإسلام، وكيف يقدمون أنفسهم وأموالهم قربانا لها وفداء في سبيلها (وهم لا يعلمون).
وقبل أن يعود كتاب الله إلى الحديث عما ينتظر أن يفعله أولئك الأغنياء المتخلفون، عندما يعود رسول الله سالما من غزوة تبوك، ويعود معه المؤمنون أخبر الله رسوله بذلك، فقال تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} . فقد كانوا يظنون بالله ورسوله الظنون، وكانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أن غزوة تبوك مغامرة كبرى مآلها المحقق في نظرهم القاصر أن ينتصر الروم وينهزم المسلمون، وإذ ذاك يستريحون منهم، ويستأنفون حياة الشرك والنفاق، لكن الله سلم، وألقى الرعب في صفوف العدو، فانسحب إلى حصونه الخلفية، وتفادى كل اشتباك مع القوات الإسلامية، رغما عن مرابطتها في " تبوك " على أهبة الاستعداد حوالي شهر كامل، وبذلك انقلب الوضع رأسا على عقب، وأصبح المتخلفون عن الجهاد الظانون بالله الظنون في مركز حرج، وتيقن الجميع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عائد على رأس جيش الإسلام المظفر إلى قاعدته الرئيسية بالمدينة المنورة، وإلى أنه سيحاسب المقصرين على تقصيرهم.
ومن هنا أخذوا يعدون لانتحال الأعذار، ولتقديم الاعتذار عن تخلفهم وقعودهم، فقد رد الله كيدهم في نحرهم، وعاملهم بنقيض قصدهم:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} لكن الحق سبحانه وتعالى لقن رسوله والمؤمنين أحسن جواب يردون به على الصنف من المتخاذلين المخذولين، فقال تعالى:{قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدق اعتذاركم، فلم يبق مجال للاعتذار، بعد هتك الأستار.
ثم عقب كتاب الله على هذا الجواب المفحم والرد القاطع، فمضى يهدد المنافقين بمزيد الكشف عن نفاقهم، وتوجيه الأنظار إلى فضائحهم، قائلا:{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فعن طريق الوحي اطلعنا على سرائركم وأسراركم، ومن كشف الله له السر بنور وحيه كيف يستره عنه الناس، بل كيف يقع ضحية التدليس والالتباس.
وخاطب الله المنافقين خطاب ترهيب فقال: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فمهما كتمتم وسترتم، ومهما تآمرتم وأخفيتم، ومهما تقلبتم في البلاد، فإن الله ورسوله لكم بالمرصاد. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيطلع على نواياكم وطواياكم بواسطة مشعل الوحي الذي ينير له الطريق، ويعرفه بعناصر التخذيل والتعويق، وبذلك يرى عملكم ويعرف مرماه ومغزاه. وأما الحق سبحانه وتعالى فلا يغيب عن علمه من أمركم شيء، كبيرا كان ذلك الأمر أو صغيرا، جليلا أو حقيرا، بل هو يراكم على حقيقتكم، منافقين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، لا عقيدة
عندكم صحيحة، ولا نية لكم صالحة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . هذا وعيد جديد من الله تعالى للمنافقين بأنهم مهما كادوا ومكروا، ودبروا من السوء ما دبروا، فإن مصيرهم في النهاية إلى الله الذي يعلم سرهم ونجواهم، وإذ ذاك سيتولى حسابهم على النقير والقطمير، وجزاءهم على الصغير والكبير، وينظر إلى معنى هذه الآية الكريمة قوله تعالى في آية ثانية:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]، وقوله تعالى في آية ثالثة:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9، 10].
وقوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} توكيد وتجديد لما سبق أن وصف به كتاب الله من قبل طائفة المنافقين، فهم يكثرون من الحلف باستمرار، ويلجأون إليه دون انقطاع، لتوكيد ادعاءاتهم، وإعطائها صبغة الصدق والحق، كلما أعوزهم الدليل والبرهان، وخانهم المنطق والبيان. ومن الآيات التي سبق فيها وصف المنافقين بالإكثار من الحلف الكاذب أو اليمين الغموس قوله تعالى في سورة النساء:{ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} ، وقوله تعالى سابقا في هذه السورة - سورة التوبة - {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} ، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} ، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} ، وقوله تعالى في سورة المجادلة: {مَا هُمْ
مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بهذا الوصف، الملازم للمنافقين، الأولين منهم والآخرين.
وقوله تعالى هنا: {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} معناه أن أغنياء المنافقين إنما يرمون من وراء حلفهم هذه المرة إلى التخلص من تأنيب المؤمنين ولومهم، فهم يخافون المعرة والتجريح لا غير، وهم يحاولون أن يخلعوا على عذرهم الباطل صبغة العذر الصحيح.
ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله والمؤمنين: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} والأمر بالإعراض عن المنافقين هنا يقتضي مقاطعتهم واحتقارهم واعتبارهم منبوذين خارج الجماعة الإسلامية. ولخبث طويتهم، وفساد عقيدتهم، وصفهم كتاب الله بأنهم " رجس " أي قذر وخبث، كما وصف المشركين من قبل في هذه السورة نفسها بأنهم نجس:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} .
ثم عاد كتاب الله إلى تحليل دافع آخر من الدوافع التي حملتهم على استعمال سلاح الحلف الباطل، فبين أنهم يحاولون بذلك كسب رضا المؤمنين والحصول على ثقتهم من جديد، إلا أن الحق سبحانه وتعالى حذر المؤمنين من أن يقعوا في هذا الفخ، وذكرهم بأن الله لا يرضى عن المنافقين أبدا،
وإذن فلا يسوغ للمؤمنين أن يرضوا عنهم بحال، وذلك معنى قوله تعالى:{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} والفاسقون هم الخارجون عن طاعة الله وطاعة رسوله، من " الفسق " وهو لغة الخروج، ومنه سميت الفأرة " فويسقة " لأنها تخرج من جحرها للإفساد، ويقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها.
وتولى كتاب الله الحديث عما كان عليه الأعراب في فجر الإسلام قبل أن يستفحل أمره وتعم دعوته، والمراد " بالأعراب " سكان البادية الملازمون لسكناها، فلمح كتاب الله إلى أن هذا الصنف من الناس بحكم اشتغالهم بمعايشهم، وانهماكهم في تربية إبلهم ومواشيهم، وتغيب كثير منهم عن كثير من المناسبات السعيدة التي كان يشهدها غيرهم من المسلمين المخالطين للرسول، والملازمين لمجلسه، والمترددين عليه لتلقي الوحي وتعلم الدين، ظلوا بعيدين عن التأثير اليومي المباشر للوحي والرسالة، ولم يتيحوا لأنفسهم الفرص الكافية لتتبع الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها، والتشبع بتعاليمها ومبادئها، وبقي من أجل ذلك قسم كبير منهم عرضة لدعاية المشركين، ووساوس المنافقين، وذلك هو المعنى المراد بقوله تعالى في بداية هذا الموضوع:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي لأنهم لم يكونوا يخالطونه ويلازمونه كغيرهم من المؤمنين {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال ابن قتيبة: " الأعرابي لزيم البادية، والعربي منسوب إلى العرب ".
وقال القاضي عبد الجبار: " يحتمل أن يراد {بالأعراب} من امتنع عن المهاجرة، فقد كان يقال: مهاجر وأعرابي ".
ثم شرع كتاب الله يفصل أحوال أولئك الأعراب من سكان البادية والملازمين لها غالبا، فصنفهم صنفين: الصنف الأول منهم من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فكانوا داخلين في عداد المؤمنين، عقيدة ونية، قولا وعملا، وفي هذا الصنف المؤمن الواعي ورد قوله تعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي يبتغون من نفقاتهم التقرب إلى الله تعالى والحصول على رضا رسوله ودعائه الصالح، وعقب كتاب الله على وصفهم ووصف عملهم، مبشرا إياهم بحسن العاقبة وجزيل الثواب، فقال تعالى:{أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
والصنف الثاني من الأعراب من كان داخلا إذ ذاك في عداد المنافقين محسوبا منهم، يقوي سواد المنافقين المندسين بين المسلمين في نفس مدينة الرسول، ويتعاون معهم ضد الدعوة الإسلامية. وفي هذا الصنف المنافق الجاهل ورد قوله تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي منهم من صار لهم النفاق طبعا وعادة حتى جاوزوا الحدود {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} . كما ورد في وصفهم أيضا قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} أي يعتبر ما
ينفقه في سبيل الله غرامة وخسارة، لا قربة إلى الله وزلفى {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أي ينتظر حلول الآفات بساحتكم ونزول المصائب عليكم {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} هذا دعاء عليهم بالسوء والشر، جزاء وفاقا {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال القاضي أبو بكر (ابن العربي): " ذم الله تعالى المنافقين والمقصرين في " هذه السورة " في آيات جملة، ثم طبقهم طبقات عموما وخصوصا، فقال: {الأعراب أشد كفرا} الآية: 97. وقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [الآية: 98]. وقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ} [الآية: 99، وهذا مدح يتميز به الفاضل من الناقص، والمحق من المبطل ".
وأخيرا عاد كتاب الله إلى الحديث عن المتخلفين الذين تخلفوا عن الجهاد والخروج مع رسول الله إلى غزوة تبوك، فبين أن من بين المتخلفين صنفا لم يتخلف عن نفاق، وإنما تخلف عن ميل إلى الكسل، وإيثار للراحة، وحرص على الظلال والثمار، إذ كانت غزوة تبوك في فصل حر وموسم غلة.
وهذا الصنف ينقسم بدوره إلى قسمين: قسم اعترف بذنبه، وقسم لم يعترف بذنبه. فالقسم الأول من هذا الصنف تشير إليه الآية الكريمة:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . والقسم الثاني من هذا الصنف تشير إليه الآية الكريمة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي مؤخرون ليوم الحساب،
متروكون لحكم الله فيهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
ورغما عن كون هاتين الآيتين وردتا في الأصل على هذا السبب الخاص وفي أناس معينين، فإن معناهما يعم كافة المذنبين من غير المنافقين.
وقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يتوجه الخطاب فيه إلى هذا الصنف الخاص من المتخلفين غير المنافقين، الذين تخلفوا كسلا لا نفاقا، وهذا أمر يقتضي ترغيبهم في استيناف العمل الصالح والمواظبة عليه، وفيه تذكير لهم بأن الله من ورائهم محيط، وبأن رسوله سيراقب سلوكهم باستمرار، وبأن فراسة المؤمنين ستلاحقهم في كل مكان، فما أطلعهم الله عليه من خير أحبوه، أو شر أبغضوه، إذ الأعمال نفسها ليست إلا علامات تكشف عن حقيقة النيات، وأمارات تدل على صميم المعتقدات " ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر " كما جاء في الأثر.
وروى الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله إلى الناس كائنا ما كان). وروى ابن القاسم عن الإمام مالك أنه كان يقال: " ابن آدم اعمل، وأغلق عليك سبعين بابا يخرج الله عملك إلى الناس ". {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .