الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم يتناول الربع الثالث من الجزب الواحد والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة التوبة المدنية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إلى قوله تعالى في سورة يونس المكية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ــ
في هذا الربع تنتهي سورة التوبة المدنية، وتبتدئ سورة يونس المكية، والجزء الأخير من سورة التوبة يخص بالذكر موضوع الجهاد في سبيل الله مرة أخرى، ويتعرض بالتدقيق والتفصيل لوصف الحالة التي يكون عليها المنافقون من الانفعال والقلق والاضطراب، كلما نزلت أمامهم سورة من سور القرآن، ويلقي بالخصوص الأضواء على (الخلق العظيم) الذي كان عليه الرسول الكريم، مما أعطاه مكانة خاصة بين الأنبياء والرسل
- فضلا عمن دونهم - وجعلهم أهلا لكل إجلال وتكريم.
أما الجزء الأول من سورة يونس فهو يتضمن تنويها بآيات الذكر الحكيم، وتنبيها إلى أن إرسال الرسل إلى الناس من نفس البشر، لا من بين الملائكة، أمر لا غرابة فيه، بل هو الأمر المعقول والمنتظر، كما يتضمن تبشير للمؤمنين بمكانتهم الخاصة عند الله، وتفصيلا لنشأة الكون الواسع، وما يتعاقب عليه من مظاهم وأطوار، وتوجيها إلى التدبر في آيات الله، ومن بينها تعاقب الشمس والقمر واختلاف الليل والنهار، ووصفا لما ينتهي إليه من يرجو لقاء الله من حسن المآب، وما ينتهي إليه من لا يرجو ذلك اللقاء ولا يحسب له آي حساب.
ولنقف الآن وقفة قصيرة عند بعض الآيات الواردة في هذا الربع، بقدر ما يسمح به الوقت المخصص لهذه الحصة.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وهذه الآية سبقتها آية أخرى في نفس الموضوع، وفي نفس هذه السورة سورة التوبة، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} .
غير أنه يوجد بين هاتين الآيتين فرق فهم، ذلك أن الآية السابقة أمرت بجهاد الكفار عموما القريب منهم والبعيد، بينما الآية الواردة في هذا الربع ترشد المؤمنين إلى نوع خاص من الكفار الذين يجب البدء بقتالهم بالخصوص، وهؤلاء الكفار الذين
تتوجه إليهم الأنظار هم الذين توجد مراكز نفوذهم السياسي وقواعدهم العسكرية قريبة كل القرب من عاصمة الإسلام وقاعدته الأولى " المدينة المنورة "، ممن يتربصون بالإسلام الدوائر، إذ في وجودهم بالقرب من عاصمة الإسلام خطر مباشر لا يمكن تجاهله بحال، وفيه نوع من الحصار المضروب على الإسلام، حتى لا يتسرب إلى خارج الجزيرة العربية، وينتشر فيما وراءها. وبما أن رسالة الإسلام رسالة عامة إلى كافة البشر، كان من أوجب الواجبات عليه أن يهدم السدود، ويخترق الحدود، ليشق طريقه إلى الشعوب والأمم، آمنا من الفتنة والاضطهاد، داعيا إلى إقامة دعائم الصلاح والرشاد، عاملا على دك حصون الظلم والفساد، وذلك ما دشنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة تبوك آخر حياته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية الكريمة ما خلاصته بإيجاز: " أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام. ولهذا بدأ رسول الله يقاتل المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام، لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع سنة تسع من هجرته عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية بعد حجته بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق
…
فوطَّد
القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم
…
ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد
…
وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب
…
أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقا وغربا
…
ثم لما مات شهيدا، وقد عاش حميدا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان
…
شهيد الدار، فكسى الإسلام حلة سابغة، وأمد في سائر الأقاليم حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها
…
وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} ".
وقوله تعالى هنا: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أمر للمؤمنين الذين يشتبكون مع أعدائهم بأن يواجهوا المعركة بما يلزم لها من قوة القلب، وضبط النفس، وتقدير المصلحة العليا، وأن يقوموا بواجب الجهاد كاملا غير منقوص، حتى يمكنوا بجهادهم للإسلام، ويفرضوا هيبته على الأنام، ويرفعوا عنه الحصار المضروب من حوله، ويشقوا له طريق العيش في سلام. وبنفس المعنى سبق قوله تعالى في هذه السورة وكما سيأتي في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73 - التحريم: 9].
وكلمة (الغلظة) إذن لا تعني القسوة، ومجاوزة الحدود، بقدر ما تعني الشجاعة في القتال، وضبط الأعصاب عند مواجهة العدو، فالجهاد الإسلامي كان ولا يزال هو المثل الأعلى للحرب الإنسانية في أهدافها، والأخلاقية في تصرفاتها، فلا تمثيل بالقتلى، ولا قتل للجرحى، ولا تعذيب لأسرى، ولا تحريق للزرع، ولا تضييع للضرع، ولا اعتداء على الأطفال والنساء والعَجَزة، ولا إهانة للرهبان في دياراتهم وصوامعهم، ولا حرب مع البعيد عن ميدان المعركة من المدنيين، وإنما الحرب منحصرة كلها في جبهة القتال، ومع حاملي السلاح المقاتلين، وأعوانهم المساعدين، فهذا هو الجهاد الإسلامي الصحيح.
وقوله تعالى في نفس هذا السياق {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إشارة إلى أن جهاد المسلمين لا يؤتي ثمرته المرجوة إلا إذا كان القائمون به من الجند، والمشرفون عليه من القادة، معتصمين بتقوى الله قولا وعملا، سرا وجهرا. أما العصاة المذنبون فإنهم يفقدون أهم سلاح في المعركة، وهو سلاح التقوى المنبثقة من الإيمان، وما تستتبعه من رضا الله ومدده القوي ولطفه الخفي. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية:" فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسب ذلك، وبقدر ما فيه من ولاية لله ".
وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، وتذكير لهم بخصائص الدعوة الإسلامية التي أوحى الله بها إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، وما جاءت به هذه الدعوة السماوية من يسر وسماحة وبعد عن الحرج والعنت، وحرص شديد على هداية الخلق، والأخذ بيدهم إلى طريق الفوز والسعادة دنيا وأخرى، نوره كتاب الله بما امتلأ به قلب الرسول الأعظم من العطف على أمته والاهتمام بمصيرها، وبما تحمله من المتاعب في سبيل تبليغ الرسالة إليها وخفض جناحه لها.
ثم عقب على ذلك بما يفيد أنه إذا ضل المسلمون طريقهم، وهجروا كتابهم، وأهملوا شريعتهم، وعادوا إلى الجاهلية الأولى، مولين الأدبار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرأ من أعمالهم، ويكلهم إلى أنفسهم، ولا يغني عنهم من الله شيئا، وذلك قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أدبروا ورجعوا عن التمسك بالإسلام وشريعته - {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} مصداقا لقوله تعالى في آية ثانية {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وقوله تعالى في آية ثالثة:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، وقوله تعالى في آية رابعة:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 215، 216، 217].
وختمت سورة التوبة بتمجيد الله والثناء عليه والالتجاء إليه، تلقينا لرسول الله والمؤمنين:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
وهنا نقف أمام سورة يونس المكية، وأطلق عليها هذا الاسم، بمناسبة ورود آية فيها عن قوم يونس إذ قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
وسبق ذكر يونس عليه السلام في سورة النساء {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} .
وفي سورة الأنعام {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} .
ومن المناسبات الطريفة الموجودة بين نهاية سورة التوبة وبداية سورة يونس أنهما يشتركان معا في الحديث عن خاتم الأنبياء والمرسلين، وتوجيه الأنظار إلى الرسالة التي فضله الله بها على العالمين.
فمن قوله تعالى في خاتمة سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الآية: 128]، ننتقل إلى قوله تعالى في فاتحة سورة يونس:{الر، تلك آيات الكتاب الحكيم، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} . ثم قال تعالى: {وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. ومضى الحديث في بقية هذا الربع يقارن بين الكافرين والمؤمنين، وما يكونون عليه من أحوال في الدنيا، وما ينتهون إليه من مآل في الآخرة، إلى أن جاء الوحي بتفصيل هذه البشرى التي ابتدأت بها السورة فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .