الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الإسراء المكية:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} إلى قوله تعالى في سورة الكهف المكية أيضا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} .
ــ
في بداية هذا الربع أعاد كتاب الله الكرة على منكري البعث، ليقيم عليهم حجة أخرى لا تدع لعنادهم سبيلا، فقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} إذ ما هي نسبة الإنسان إلى بقية الأكوان؟
وبديهي أن من قدر على خلق " ما هو أكبر " لا يعجز عن خلق " ما هو أصغر "، ومن أنشأ " النشأة الأولى " لا يعجز عن أن ينشئ " النشأة الثانية "، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]، وقوله
تعالى في آية ثانية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]، وقوله تعالى في آية ثالثة:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
وانتقل كتاب الله إلى تقرير حقيقة كونية، والكشف عن حكمة إلهية، في شأن ما احتفظ به من خزائن الأرزاق، وما وضعه بين أيدي الناس من وسائل الإنفاق، فقال تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} . ثم تحدث كتاب الله عن ميل الإنسان إلى التقتير على أخيه الإنسان، فقال:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} ، ومثل هذا المعنى وارد في قوله تعالى في آية أخرى:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] وحتى لا يستبد إنسان بإنسان، فيصبح ضحية البؤس والحرمان، أبقى الحق سبحانه وتعالى خزائن رحمته بيده، ولم يبخل منها على أي إنسان بمدده {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} .
وبين كتاب الله في ثنايا هذه الآية نفسها أن ما طبع عليه الإنسان من الهلع والجزع، والخوف من سوء العاقبة وهول المصير، هو الذي يدفعه إلى الإمساك وعدم الإنفاق والشح والتقتير، وأحسن ما يفسر قوله تعالى هنا في وصف الإنسان بوجه عام:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} قوله تعالى في آيات أخرى: {إِنَّ
الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19، 20، 21، 22، 23] فهؤلاء بفضل التربية الدينية التي هذبت نفوسهم، ووصلت بالله أرواحهم، يجودون بالنفس والمال، ولا يتأخرون عن وجوه البر بأي حال.
وتحدث كتاب الله مرة أخرى في سورة الإسراء هذه -والإسراء كما هو معلوم كان من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس- عن قصة موسى وفرعون، وعلاقة بني إسرائيل بتلك القصة، وأشار إلى " الآيات التسع " وهي المعجزات والنذر التي شاهدها فرعون وقومه، فضاقوا بها ذرعا، دون أن يذعنوا لها فيعترفوا بنبوة موسى ويستجيبوا لدعوته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى هنا:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، وهذه الآيات التسع الواردة هنا جاءت الإشارة إليها مرة ثانية في قوله تعالى في سورة النمل:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الآية: 12]، وفصلها كتاب الله في سورة الأعراف، فذكر الأولى والثانية منها في قوله تعالى:{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الآيتان: 107، 108]، وذكر الثالثة والرابعة منها في قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الآية: 130]، وذكر الخمس الباقية لتمام الآيات التسع في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الآية: 133].
وقوله تعالى هنا: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي قلنا لموسى: اطلب من فرعون أن يرسل معك بني إسرائيل - {إِذْ جَاءَهُمُ} أي قلنا له ذلك حين جاءهم {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} - {قَالَ} أي قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ} يشير إلى الآيات التسع {إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} أي أنزلها حججا دالة على صدق ما جئتك به {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أي هالكا، وكأن موسى أراد أن يقول لفرعون: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك مثبورا {فَأَرَادَ} أي فرعون {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الآية: 103].
وقوله تعالى هنا في هذا السياق خطابا لبني إسرائيل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} يظهر أن له ارتباطا وثيقا وشبها كبيرا بما سبق في أول هذه السورة نفسها، حيث قال تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، ثم فسر كتاب الله في نفس السياق المرة الأولى بقوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الآية: 5]، وفسر المرة الثانية بعدها في نفس السياق بقوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الآية: 7]. وهكذا يكون لفظ {الْآخِرَةِ} في الموضعين معا هنا وهناك بمعنى المرة الثانية، ويكون معنى:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي المرة
الثانية، لا بمعنى القيامة والدار الآخرة كما فسرها البعض هنا بالخصوص. وكلمة {لَفِيفًا} الواردة في قوله تعالى هنا:{جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} يراد بها في اللغة الجماعات المنتمية إلى أصول مختلفة، والأخلاط من الناس، وهذا المعنى أصبح لاصقا باليهود منذ حل بهم عهد الجلاء، وتفرقوا في البلاد للابتلاء.
وانتقلت الآيات الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن معجزة القرآن، فتحدثت أولا عن طابع القرآن وفحواه، ثم بينت الحكمة في نزوله منجما على دفعات، لا دفعة واحدة، وأخيرا وصفت وقعه في نفوس المؤمنين، الذين اطلعوا على البشارة به في كتبهم قبل نزوله، فلما أدركوا نزوله تحققوا بوعد الله، وآمنوا به إيمانا لا يرقى إليه أدنى شك:
فإلى المعنى الأول يشير قوله تعالى هنا: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} أي أنزلناه متضمنا للحق، إنشاء وأخبارا، أمرا ونهيا، بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} فهو خالص من الشوائب، معصوم من التبديل والتغيير، والزيادة والنقص، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة فصلت:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [الآيتان: 41، 42].
وإلى المعنى الثاني يشير قوله تعالى هنا: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} ، ولفظ {فَرَقْنَاهُ} قرئ بتخفيف الراء، فيكون معناه: فرقنا فيه الحق من الباطل، وميزنا أحدهما عن الآخر، حتى لا يختلط على أحد الهدى
بالضلال، وقرئ بتشديد الراء، فيكون معناه: أنزلناه متفرقا آية آية، {عَلَى مُكْثٍ} أي على تؤدة ومهل، وقد استمر نزوله مدة ثلاث وعشرين سنة، تبعا لطريقة التدرج، بالنسبة لعملية التحول والتطور التي يتوخاها الإسلام، حتى يتمكن الرسول والمؤمنون شيئا فشيئا من حفظ مبانيه، واستيعاب معانيه، وحتى يكيفوا حياتهم الخاصة والعامة مرحلة فمرحلة بمقتضى أوامره ونواهيه، وبمرور الأيام يتعمقون في فهم جزئياته وكلياته، ويلمون بأسباب نزوله وملابساته، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في سورة الفرقان:{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الآية: 32].
وإلى المعنى الثالث يشير قوله تعالى هنا: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} ، وهذه الآية تصف فئة صالحة من أتباع المسيحية واليهودية عاشت إلى أن أدركت الإسلام، فسارعت إلى الدخول في دين الله، اعتمادا على ما تناقلته من البشارة برسول الله، وحسن إسلامها، فكانت تخر على وجهها خاشعة باكية كلما تلي عليها القرآن، وتسبح لله الذي صدقها وعده، وأنعم عليها بنعمة الإيمان.
وقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} خطاب من الله تعالى للرسول والمؤمنين يتضمن وصف الكيفية المستحسنة للقراءة أثناء الصلاة، عندما يكون المصلي في حالة جهر. جاء عن محمد بن سيرين أنه قال: " نُبِّئْتُ
أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ يخفض صوته، وأن عمر كان إذا صلى فقرأ يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي عز وجل، وقد علم حاجتي، وأنا أسمع من أناجي. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ فقال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر: اخفض قليلا ". وعلى هذا التفسير يكون لفظ (الصلاة) هنا في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} مقصودا به القراءة فيها، كما أطلق لفظ (القرآن) وقصد به نفس الصلاة في قوله تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} .
وكما ازدانت فاتحة سورة الإسراء، بتسبيح الله وتمجيده، توجت خاتمتها بحمد الله وتوحيده، فقال تعالى في ختامها خطابا لنبيه وتلقينا للمؤمنين:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} ، قال النسفي في تفسيره:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية، وكان يسميها (آية العز) ".
والآن فلننتقل بعون الله إلى سورة الكهف المكية أيضا، وإنما عرفت هذه السورة باسم " سورة الكهف " أخذا من كلمة {الْكَهْفِ} الواردة في الآيات التالية:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} - {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} - {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} - {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} - {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ}
[الآيات: 9، 10، 16، 17، 25].
وأصحاب الكهف الذين وردت قصتهم في مطلع هذه السورة هم مجموعة من الشباب الصالح اعتنقوا الإيمان بالله دينا، والاستقامة سلوكا، والثبات طريقا، وفارقوا الأهل والعشيرة في سبيل الحفاظ على عقيدتهم التي كانت عندهم أعز من كل عزيز، وأحسن وصف ورد في شأنهم هو قول الله تعالى في هذه السورة عنهم:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الآيتان: 13، 14].
وفي بداية هذه السورة امتنان من الله على عباده المومنين، بنزول الكتاب المبين، وتلقين لهم كيف يثنون عليه ويحمدونه، شكرا له على نعمة إنزال القرآن، الذي هو دستور الإسلام وميثاق الإيمان، فقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} . وقوله {قَيِّمًا} أي مستقيما، راجع إلى الكتاب، فهو في المعنى مقدم، وإن كان في اللفظ مؤخرا، والمعنى المقصود من الآية: -الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا -وتأخير المقدم وتقديم المؤخر في الذكر أحيانا أمر متعارف في اللسان العربي، والمراد " بنفي العوج " عن القرآن في هذه الآية نفي الاختلاف والتناقض والتعارض عن مبانيه ومعانيه، وإثبات الاستقامة والحكمة والصواب لجميع أحكامه ومراميه.
ويجوز أن يكون قوله تعالى هنا: {قَيِّمًا} بمعنى أنه
مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة، ومهيمن عليها، على حد قوله تعالى في سورة المائدة:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [الآية: 48]، وطبقا لهذا التفسير يكون لفظ {قَيِّمًا} مشتقا من (قام) للأمر إذا تولاه، أو (قام) على أهله إذا تولى أمرهم، ومنه (القيم) على المحجور، أي الذي يتولى أمره، و (قيم القوم) أي الذي يقوم بشأنهم ويسوس أمرهم، ولا شك أن كتاب الله قيم على غيره من الكتب السابقة واللاحقة.
وتحدث كتاب الله عن رسالة القرآن، وأنها بشارة ونذارة لعموم الإنسان، كما تحدث عن " زينة الأرض " التي هي اختبار لميوله وامتحان، فقال تعالى:{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الآية: 2]، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، فمن أحسن العمل كانت له الحسنى وزيادة، ومن أساء الاستعمال كان من أهل الشقاوة لا من أهل السعادة.