الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ــ
من شأن الإنسان العادي وغير المهذب، إذا أصابه الضجر وأثاره الغضب، أن يدعو على نفسه وأهله وولده وماله بدعاء الشر، ومن شأنه أيضا إذا هدأت أعصابه واطمأن قلبه أن يدعو لنفسه وأهله وولده بدعاء الخير، غير أن الله تعالى الذي هو مجيب الدعاء، والذي يرتبط بإرادته المطلقة مصير دعاء الداعين، إن شاء أجابه، وإن شاء لم يجبه، تكرم على خلقه، رحمة بهم، وإحسانا إليهم، في فترات ضعفهم، وهيجان غضبهم، بأن لا يجيب دعاءهم إذا كان ذلك الدعاء يتضمن شرا، وصادرا عن مجرد الغضب والضجر، لأن في إجابة هذا النوع من الدعاء هلاكا لهم محققا.
وهذه المنة الربانية التي من الله بها على عباده، بعدم إجابته دعاء الشر، هي التي تتضمنها أول آية في هذا الربع، حيث قال الله تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لو أن الله استجاب للناس كلما دعوا دعاء الشر لأهلكهم. قال مجاهد في تفسير هذه الآية: " دعاء الشر هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: " اللهم لا تبارك فيه والعنه " فلو يعجل الله لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير، لأهلكهم. قال صلى الله عليه وسلم:(لا يدعون أحدكم على نفسه، فربما صادف ساعة لا يسأل الله فيها أحد إلا أعطاه إياها). وروى البزار في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا على أنفسكم. لا تدعوا على أولادكم. لا تدعوا على أموالكم. لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم) وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . [الإسراء: 11].
أما دعوة المظلوم على ظالمه ولو كانت دعوة شر على الظالم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، كما جاء في الحديث الشريف.
وانتقل كتاب الله إلى وصف الحالة النفسية التي يكون عليها الإنسان عندما يصاب بمرض أو نكبة أو كربة، وما يبدو عليه من القلق والاضطراب، والضعف والاستكانة، والالتجاء إلى الله التجاء العاجز المضطر، حتى إذا ما استرجع صحته، وزالت عنه آثار النكبة، وانكشفت عن ساحته الكربة، نسي ربه نسيانا تاما،
وعاد إلى طغيانه وإسرافه على أقوى وأشد ما يكون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي أنه يلح في الدعاء ويكثر منه في جميع الأحوال وجميع الأوضاع التي يكون عليها جسمه، ليلا ونهارا، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] أي دعاء كثير لا ينتهي. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي أعرض عن الله وانصرف عن بابه، وقطع التعلق بجميع أسبابه. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
والمراد بالإسراف هنا الإسراف في ارتكاب الذنوب، والإقبال على المعاصي بنهم وشهية وضراوة، حتى يصبح المذنب متبلد الإحساس، فاقدا للشعور، مطبوعا على قلبه، مغضوبا عليه من ربه.
وفي نفس هذا الربع وصف الله صورة ثانية من صور الضعف البشري والروح الانتهازية الهزيلة عند توقع النكبة أو عند حلولها، ثم ما يتلوها بعد النجاة منها من بغي وعدوان، وإعراض وطغيان، وذلك قوله تعالى هنا:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . ومثل هذا المعنى ورد في قوله تعالى: {وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
وهذه الصور التي وصفها كتاب الله تنطبق كل الانطباق على كثير من الناس في القديم والحديث، ولاسيما أولئك المذبذبين الذين لا إيمان لهم، ولا صبر عندهم، من ضعفاء النفوس الغافلين، والحيارى التائهين.
أما الذين رزقهم الله الإيمان والصبر فصلتهم بالله قائمة على الدوام، لا فرق عندهم بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، وقد عبر عن حالتهم أصدق تعبير نص الحديث النبوي الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء فصبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
ومن أهم ما تناوله هذا الربع موضوع القرآن الكريم، وما أثاره المشركون حوله من شبهات باطلة، وقاموا به من تحديات شاملة، مما تصدى له كتاب الله بالرد والإبطال، ولم يبق بعده لقائل أي مقال، فقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}.
وهكذا بينت الآيات الكريمة أن الذكر الحكيم والقرآن الكريم إنما هو كتاب الله المطابق لما في اللوح المحفوظ، منه بدأ وإليه يعود، وليس كتاب رسوله حتى يكون للرسول فيه دخل من قريب أو بعيد، كما بينت الآيات الكريمة أن الرسول إنما يتلقى الوحي عن الله في الوقت الذي يريد الله أن يوحي إليه، وأن الوحي الذي يتلقاه من عند الله لا يملك له الرسول تبديلا ولا تغييرا، وأن دور الرسول الوحيد هو أن يبلغه إلى الناس كما أنزل، وأن تلاوة الرسول للقرآن على الناس إنما هي بأمر الله وتيسيره، ولولا اصطفاؤه للرسالة وتيسيره لها لما استطاع أن يتخطى المستوى الذي كان عليه قبلها، فقد قضى الرسول بين ظهراني قومه أربعين سنة، دون أن ينبس من هذا النوع المعجز ببنت شفة، حتى جاءه الله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، وأنزل عليه القرآن وكلفه بالتبليغ والبيان، فكان ما كان، مما تناقلته الركبان، واستدار له الزمان، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1، 2، 3، 4، 5]، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].
وتحدث كتاب الله في هذا الربع عن استخلافه لخلقه في هذه الأرض، ابتلاء لهم واختبارا، حتى يتجلى في تصرفاتهم ما
هم عليه من رشد أو سفه، وحتى يبرز في أعمالهم ما هم عليه من شكر لله على نعمة الاستخلاف، أو كفر بها وتجن عليها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .
وبين كتاب الله عاقبة الانحراف والخيانة إذا لم يحسن الإنسان التصرف فيما استخلف فيه وخان الأمانة، وذلك في عدة آيات من هذا الربع، منبها إلى أن سنة الله في المستخلفين الظالمين جرت على أن يستدرجهم ويمهلهم، ويفتح أبواب نعمه على مصاريعها في وجوههم، حتى إذا ما ظنوا أن قوتهم لا تعادلها قوة، وأن قدرتهم لا تعجزها قدرة، وأنهم ليسوا بمؤاخذين ولا معذبين، فوجئوا بعذاب الله فأخذوا على غرة، في الوقت الذي لم يكونوا ينتظرون العذاب بالمرة، فقال تعالى:{فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، وقال تعالى:{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أي أنه سبحانه يقابل مكرهم بما يبطل مفعوله، ويمحو أثره {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} ، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
وختم هذا الربع بالدعوة إلى دار السلام، التي لا باب لها ولا مفتاح إلا التمسك بمبادئ الإسلام، فقال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .