الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرين
من المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة يونس المكية:{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إلى قوله تعالى فى سورة هود المكية أيضا: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ــ
عند تحليل أغلب الآيات الكريمة الواردة في هذا الربع ضمن القسم الأخير من سورة يونس المكية نجدها دائرة حول موضوع واحد هو موضوع الإيمان، وما يعترض طريقه من شك وتردد، وتعصب وجهل، وغفلة واستهتار، ونجد كتاب الله يوجه الخطاب إلى كل إنسان يشك في صدق الرسالة الإلهية، الموكول تبليغها إلى خاتم النبيئين والمرسلين، يدعوه إلى استفسار أهل العلم المطلعين على تاريخ الرسالات السابقة، فإنه إذا اطلع على تاريخها ومضمونها لم يجد أدنى صعوبة في تصديق " الرسالة
الخاتمة " التي ختم الله بها جميع الرسالات، بل إنه ليقتنع بأنها لب اللباب من الرسالات كلها، وبأنها آخر مرحلة وأعلى قمة انتهى إليها الوحي الإلهي، لهداية البشرية في سيرها الحاضر والمستقبل، نحو الرقي الحقيقي، والتطور الشامل، والسعادة الكاملة.
وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} أي إن كنت أيها الإنسان لا تزال في شك مما أنزلنا من القرآن لهدايتك وإرشادك {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي الشاكين، من " الامتراء " وهو الشك {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
فالخطاب في هذه الآية ليس موجها إلى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، ولو على وجه الفرض والتقدير، إذ لا يتصور في حق الرسول أي شك أو امتراء أو تكذيب، ولذلك لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا أشك ولا أسأل) كما روى ذلك قتادة بن دعامة، أي أنه عليه الصلاة والسلام غير داخل تحت هذا الخطاب مطلقا، وإنما الخطاب موجه إلى من يتصور فيه الشك والامتراء والتكذيب من المشركين والمنافقين وضعفاء الإيمان، وموجه كذلك إلى عامة اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين يجد أحبارهم ورهبانهم وصف الرسالة والرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وهؤلاء إما أن يكون شكهم تلقائيا صادرا عن مجرد الجهل،
فهم مدعوون بهذا الخطاب إلى سؤال أهل العلم واستفسارهم، حتى يزول شكهم، على حد قوله تعالى في آية أخرى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وبذلك يرتفع شكهم، ويتأكد إيمانهم.
وإما أن يكون شكهم صادرا عن تعمد الإنكار والإصرار، فيكون الخطاب موجها إليهم على وجه الزجر والتقريع، لأنهم يجادلون في أمر ثابت لا محل فيه للجدل والمراوغة {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9].
وقوله تعالى في هذا السياق {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ليس المراد منه أن الله سبحانه وتعالى يحول بين فريق من الناس وبين الإيمان، فالله تعالى قد هدى الإنسان النجدين، وعرفه طريق الخير من طريق الشر، ومكنه من جميع الوسائل لتمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وأعطاه من القدرة والإرادة ما يستطيع بواسطتهما أن يرجح كفة على أخرى، وأن يختار الطريق الذي يريد سلوكه، وأن يفضل من الأعمال والتصرفات ما يرغب في تفضيله، وذلك هو محور التكليف، ومناط الثواب والعقاب.
وإنما المراد بهذه الآية وما ماثلها أن هناك طائفة من الناس قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فلم ينفع فيهم ترغيب ولا ترهيب، واختاروا عن عمد وإصرار طريق الهلاك والبوار، فلم يبق
في قلوبهم -بعدما خيَّم عليها الظلام- أيّ منفذ للنور، وأصبحت الموعظة بالنسبة إليهم كالضرب في حديد بارد لا أثر لها ولا نفع، فهؤلاء {لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} لأنهم يكذبون بالآيات جميعها، ويسخرون منها كلها، وإنما يؤمنون في حالة واحدة وعن اضطرار، لا عن اقتناع، وذلك عندما يرون عذاب الله نازلا بساحتهم، وهو منهم قاب قوسين أو أدنى، فهم لا يؤمنون {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . غير أن هذا النوع من الإيمان الاضطراري في آخر لحظة لا ينفع أصحابه، ومثله التوبة عند الاحتضار وغرغرة الموت لا تنفع صاحبها، كما لم ينفع فرعون إيمانه عندما أدركه الغرق:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .
ومضى كتاب الله في نفس السياق يتحدث عن الأمم الغابرة التي كذبت بآيات الله، فأخذها الله أخذا وبيلا، ولم ينفعها إيمانها الاضطراري في آخر لحظة، عند نزول العقاب، وحلول العذاب، اللهم إلا قوم يونس، فإنهم -بمجرد ما فقدوا نبيهم- إذ ذهب مغاضبا لهم- أحسوا بأن عذاب الله قد أخذ يقترب من ساحتهم، فبادروا بالتوبة إلى الله توبة نصوحا، بصدق وندم، قبل أن يدركهم العذاب، والتجأوا إلى الله أربعين ليلة يرتجون عفوه، ويسألون لطفه، خاشعين مهطعين، فلم يصبهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم يونس من قبل، لأنهم تداركوا أمره بالتوبة دون تأخير، وما كاد يونس يعود إليهم حتى وجدهم قد تابوا وآمنوا {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 148] وذلك قوله تعالى في هذا الربع {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} أي
لما آمنوا في الوقت المناسب قبل نزول العذاب {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي حلنا بينهم وبين العذاب، بسبب إيمانهم وتوبتهم قبل حلول العذاب، وذلك على خلاف ما فعله غيرهم، حيث لم يؤمنوا إلا عند حلول العذاب لا قبله، فلم ينفعهم إيمانهم في اللحظة الأخيرة، لأنه إيمان مطعون فيه صادر عن اضطرار وإجبار، لا عن اقتناع واختيار {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي متعنا قوم يونس إلى حين انتهاء آجالهم.
وبهذا التفسير يتضح أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} هو من باب الاستثناء المنقطع بمعنى: (ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب).
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} معناه أن الله تعالى لو أراد لحمل الناس على الإيمان واضطرهم إليه غاية الاضطرار، ولم يترك لهم في شأنه أي اختيار، ولجعل الإنسان كباقي الحيوانات العجماء مسوقا من ورائه بسوط القهر والإجبار، وحينئذ يصبح الإنسان مجبرا على الطاعة، مكرها على الإيمان، فاقدا لأخص خصائص الإنسان، لكن الله تعالى أراد أن يخلق الإنسان على خلاف غيره من الحيوانات، فخلقه حرا مختارا، وأعطاه من الأجهزة والملكات الخاصة به ما يمكنه من النظر والاختيار، ولا ينزل به إلى مستوى القهر والاضطرار، حتى يكون له في نظره الخاص ميزة، وفي اختياره الخاص فضل، وحتى يكون للتكليف والمسؤولية أساس مفهوم، ومبرر معقول، ومن أجل الملكة الإنسانية -ملكة التقدير
الشخصي والاختيار الحر، التي ميز الله بها الإنسان عن باقي الحيوان- اختار بعض الناس الإيمان دون الكفر، واختار بعضهم العكس، ومن أجل ذلك كان جزاء حسن الاختيار الثواب العظيم، وجزاء سوء الاختيار العذاب الأليم.
وبهذا التفسير يتضح أيضا معنى قوله تعالى في آية أخرى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] وذلك لاختلاف أفكارهم، وحسن أو سوء اختيارهم.
وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} خطاب من الله إلى رسوله، القصد منه تهدئة روعه وطمأنينة نفسه، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، إلى حد أنه كان يحزن أشد الحزن إذا لم تنفع في بعضهم الموعظة الحسنة، ولم تؤثر فيهم الحجة البالغة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
وليس المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحاول فعلا إكراه غير المؤمنين على الإيمان، فهو أعلم الناس عن ربه بأنه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
نعم في هذه الآية تلقين من الله لعباده المؤمنين أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، ويمكنوهم من وسائل الإيمان حتى تقوم الحجة عليهم، ثم يتركوا لهم بعد ذلك الخيار، فإن أرادوا الإيمان أقبلوا عليه عن طواعية واختيار.
وتأكيدا لهذا المعنى وتركيزا له في الأذهان قال تعالى مخاطبا لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهو من جهة أولى يمتنع من أن يعبد آلهة لا يؤمن بوجودها فضلا عن أن يؤمن بأحقيتها للعبادة، وهو من جهة ثانية لا يترك دينه الذي وثق به كل الثقة واطمأن إليه كل الاطمئنان، من أجل أن الآخرين لا يزالون يشكون في صحته، فشك الشاك لا يبطل إيمان المؤمن ولا يؤثر عليه، لكنه من جهة ثالثة لم يفرض على الشاكين أن يؤمنوا بدينه قهرا وجبرا، وإنما لفت أنظارهم إلى أن الله الذي يعبده هو وحده الذي بيده أرواحهم، وهو الذي يتوفاهم متى شاء {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وزيادة في تأكيد مبدأ حرية الاعتقاد، وضمان هذه الحرية، بعد القيام بواجب الدعوة، وعلاوة على مضمون الآيات السابقة، وجه الحق سبحانه وتعالى في ختام هذه السورة -سورة يونس المكية- خطابه إلى نبيه ملقنا ومعلما له ولأمته {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} .
ويتفق مع هذا قوله تعالى في آية ثانية: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] وقوله تعالى في آية ثالثة: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وعد سابق من الله لرسوله وهو لا يزال بمكة يكافح الشرك والمشركين، بما سيناله دينه من الظهور على بقية الأديان، وبما سيناله أتباعه من نصر مؤزر وفتح قريب في مختلف الأقطار والبلدان. وقد حقق الله وعده، وهزم الأحزاب وحده، ومكن من مقاليد العالم جنده {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
غير أن هذا الوعد الإلهي في أصله مشروط بثلاثة شروط:
الشرط الأول: إتباع الوحي الإلهي، وعدم التنكب عن طريقه أو الخروج عن هدايته {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} .
والشرط الثاني: الصبر على تحمل متاعب الأمانة الإلهية والقيام بتكاليفها وأعبائها الثقيلة، عن وعي ويقظة، ودون هوادة ولا تهاون {وَاصْبِرْ} .
والشرط الثالث: التأهب لاغتنام الفرصة المواتية، وعدم تضييعها متى حان أوان انتهازها {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .
فلكل غلَّة موسمُها، ولكل معركة موعدُها، وإذا عاد المسلمون إلى الله بعدما فروا منه في هذا العصر، والتزموا بتنفيذ شروطه التي اشترطها عليهم دون أي إهمال أو إخلال، بدَّلهم الله حالا أحسن من هذا الحال، وعاد إليهم بالنصر والتأييد، والتوفيق والتسديد، وما ذلك على قدرته ببعيد.